المقاهي الخاصة بالنساء فقط في تونس تشهد انتشارًا مطردًا ولافتًا للأنظار رغم أنّ البلد الواقع في شمال إفريقيا يفخر جزء من أهله بما تم تحقيقه من انتقال نوعي على مستوى المساواة بين الجنسين في مختلف المجالات من خلال جملة من القوانين المكرسة لحرية المرأة وحقوقها والتي تُعد رائدة في العالم العربي من حيث التأصيل (الطاهر الحداد)، والمفارقة لا تكمن هنا فقط، فبعض الرافضين لمقاهي النساء ويعتبرونها فكرة دخيلة على المجتمع المحافظ والمتشبث بالعادات والتقاليد، لا يجدون حرجًا في دخولها المقاهي المختلطة شريطة أن لا تكون في الأحياء الشعبية.
في العادة، يُهيمن الرجال على الأماكن العامة في تونس، فالمقاهي الشعبية لا تدخلها النساء إلاّ فيما ندر ولحاجة خارجة عن نطاق إرادتها كطلب المساعدة والمال، ورغم الحملات النسوية التي أُطلقت في وقت سابق إلى فتح المقاهي الشعبية أمام المرأة، إلاّ أن المحاولات اصطدمت بجدران الرفض المتأتية انطلاقًا بتشبث التونسي بالعادات والتقاليد، فتلك الأماكن لازالت إلى الآن فضاءات محرمة أمام الجنس اللطيف كما يصعب ولوجها مستقبلًا.
مقاهي “حواء”
في حي “العقبة” المتاخم للعاصمة التونسية، تعكف بلقيس الجوادي 28 سنة (ماستر إدارة الأعمال) على وضع اللمسات الأخيرة لافتتاح مقهى مخصّص للنساء، وهي تجربة وصفتها في حديث لـ”نون بوست” بأنّها مجازفة في وقت تعرف فيه البلاد أزمة اقتصادية وصحية بسبب جائحة كوفيد 19، مشيرةً في الوقت ذاته إلى أنّ فكرة المشروع نتج عن حاجتين أساسيتين وهما البطالة التي عانت منها شخصيًا وهو معطى تجاري في مرتبة أولى، يليه حاجة المرأة في منطقتها إلى فضاء خاص بعيدًا عن المقاهي المختلطة وهو بعد يختلط في الاجتماعي بالثقافي.
الجوادي أوضحت أنّ المشروع انطلق من إيمانها بأن المرأة تحتاج إلى الفرصة والتمكين في آن معًا كي تصل للمواقع التي يحتلها الرجال عادة في المجتمع التونسي وتصبح ندّا له في الكفاءات والمهارات وفي إدارة المشاريع باختلافها، مضيفةً “نهدف من خلال المقهى لدعم المرأة على مستويات مختلفة كي تتمكن من الحصول على مساحتها الحرة التي تتيح لها ممارسة الأنشطة والطقوس التي لم تعتد عليها خارجًا، نتيجة صورة نمطية مسبقة عنها”.
كل يوم تموت نساء ومازال المجتمع المدني ومدارس تونس تعلم بناتنا أنهن عورة لا حق لهن في مطعم ولا مقهى ولا فضاء ألعاب ولا منتزه ولا قيادة دراجة أو ترفيه وأن التحرش والاغتصاب سببه اللباس والخروج ليلا وأن الرجل سند المرأة وحده صاحب الكرامة والحرية والحقوق#تونس الملعونة#تونس_الجحيم
— Rimes Bouhlel (@BouhlelRimes) September 24, 2019
ما إن تدخل الزبونة حتى تخلع حجابها وتطلب قهوتها وتنسجم مع الجميع دون خوف من نظرات المتطفلين، تجلس بكل أريحية سواء لوحدها لمطالعة بعض الكتب المتوفرة في الرفوف أو رفقة صديقاتها لتبادل أطراف الحديث والفضفضة والترويح عن النفس، ووفقًا لصاحبة المقهى، فإن الفضاء المزمع فتحه ستُضاف إليه لمسات أنثوية حتى يناسب جميع الأذواق.
الجوادي دعت المستثمرين إلى إنشاء فضاءات خاصة بالنساء، والتي تقتصر حاليًا على صالونات التجميل والحلاقة ومراكز الاستحمام بينما تزدحم الشوارع بمقاهي الرجال، مضيفةَ إلى أنّ بعض الدول المشرق العربي سبقت تونس في هذا المجال بأشواط حيث تكثر فضاءات الترفيه التي تقدم خدمات راقية ومتنوعة، مؤكدة على أنه مجال واعد للاستثمار.
غير بعيد عن العقبة، وفي حي التضامن تستعد إحداهن لفتح مقهى خاص بالنساء هو الثاني من نوعه في المنطقة، ورغم أن الإعلان لم يُحدّد بعد المكان أو الاسم الذي يبدو بأنه لا يزال قيد التجهيز أو حتى مجرد فكرة قيد التنفيذ، إلا أن موجة التعليقات لم تنته بعد.
“الباروك”
في الشارع ابن خلدون الذي يقسم حي التضامن الواقع شمال العاصمة تونس لشطرين والمعروف بعدد مقاهي الرجال التي لا تُحصى، يقع مقهى “الباروك” المخصّص للنساء يتم الولوج إليه إمّا عبر باب مبطن ـأوعن طريق سلالم مخفية تؤدي إلى الطابق العلوي، وذلك لأنّ المقهى يحتوي على طابقين، الطابق الأرضي مختلط بينما العلوي مخصّص للنساء فقط.
صاحبة المقهى الواقع في منطقة شعبية ذات كثافة عالية، أميرة التليلي، هي خرّيجة تصميم الأزياء تبلغ من العمر 26 عامًا، تشرف بنفسها على تقديم الخدمات لزبائنها من الجنس اللطيف والمتمثلة في الكعك بأنواعه والقهوة بأشكالها المعروفة سوداء وبالحليب، كما تعمل على تلبية حاجياتهن المختلفة مع ابتسامة لا تُفارق وجهها.
الوافدات على مقهى الباروك لا يُمكن تحديد نوعهن، فبعضهن تلميذات المدارس الثانوية اعتدنا دخول الفضاء لاحتساء قهوة ومراجعة واجباتهم المدرسية في جوّ هادئ، وأخريات متقدمات في العمر، جئن لمجرد الدردشة وتمضية بعض الوقت بعد يوم عمل شاق أو لتدخين سيجارة بعيدًا عن الأعين.
في مقهى “الباروك”، تبدي النساء ارتياحهن للخدمات المقدمة وللمكان الذي يلبي خصوصياتهن حيث تغطي ستائر بها وجه الممثلة الأمريكية مارلين مونرو الواجهة فلا يستطيع المار عبر الشارع المكتظ معرفة من بداخله أو تحديد ملامح بعض الوجوه.
المقهى، وفقًا للزائرات، يوفر مختلف وسائل المرح ويساعد النساء على تمضية وقتهن وعلى التعارف وإقامة صداقات جديدة دون تفرقة بين المستويات الفكرية والاجتماعية، والتصرف بحرية في جو يغلب عليه عطر النساء ورائحة الكعك، والأهم أنه يخلو من الضجيج والتجاوزات (تحرش).
الفكرة.. التجربة
صاحبة المقهى، أميرة التليلي، أوضحت في حديث لــ”نون بوست” أنّ فكرة بعث مشروع مقهى خاص بالنساء راودتها لفترة كبيرة إلاّ أنّ الخوف من فشل التجربة الذي لازمها في الخطوات الأولى كاد أن يُقبر المشروع في الأيام الأولى لميلاده، فالتوجس الدائم من عدم قبول الفكرة لدى العائلات وانعدام إقبال النساء على هذا الفضاء كان من أهم العقبات وأكبرها.
التليلي أشارت أيضًا إلى أنّ إقدام أخيها على فتح مقهى شعبي في الحي شجعها على بعث فضاء خاص بالنساء يلبي تطلعات ورغبة المرأة في المنطقة في الحصول على نصيب من الترفيه خاصة وأنّ “حي التضامن” تنعدم فيه المناطق الخضراء والفضاءات الثقافية التي تسمح لها بتنمية معارفها وتفتح لها آفاق جديدة.
صاحبة المقهى، أوضحت في المقابلة مع “نون بوست” أنّها لا تستطيع تقييم تجربتها في الوقت الراهن بحكم الأوضاع التي تمر بها البلاد على جميع الأصعدة سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، إضافة إلى تداعيات جائحة كورونا التي أضرت بكل القطاعات، متابعة القول:” أتصور أنّه لو كانت ظروف البلاد مغايرة لكانت الأوضاع مختلفة بشكل كبير، التونسيون والتونسيات يمرون بضائقة كبيرة أثرت على مستواهم المعيشي وحدّت من نفقاتهم المخصصة للترفيه”.
في غضون ذلك، تستمع عشرات الفتيات بارتياد المقهى كل يوم، حيث تتحدثن عن الحاجة لمكان تستطعن الاجتماع فيه بهدوء وبعيدًا عن ضجيج العالم الخارجي، وأيضًا نظرات الرجال التي يمكن أن تتسبب لهنّ في كثير من الأحيان في انعدام الراحة، وبحسب رصد لـ”نون بوست”، تحوّل “الباروك” مع مرور الأيام لفضاء تقصده فتيات الحي ليس فقط لتناول بعض المشروبات كأي مقهى آخر، بل أيضًا لممارسة بعض الأنشطة كحضور مباريات كرة القدم أو المطالعة أو تبادل الخبرات في مجال الأعمال.
بعض النساء تُفضّل المقاهي غير المختلطة، حيث تقول هاجر السليتي القادمة من المنيهلة خصيصًا للقاء صديقاتها، إنّ للاختلاط سلبياته وأن النساء مللن الاحتكاك بالجنس الآخر وتصرفاته في الوظائف العامة والأسواق وفي الشارع، وأصبحن بحاجة إلى نوع من الخصوصيّة، مشيرة إلى أنها ترتاد مقهى “الباروك” رغم المسافة التي تقطها للوصول إليه من أجل قضاء بعض الوقت صحبة رفيقاتها التي تعرفت إليهن حديثًا.
صاحبة مقهى الباروك، ليست أول امرأة جربت مشروع المقهى النسائي، ففي قليبية، المدينة الساحلية في منطقة الوطن القبلي، افتتحت لطيفة بن رجب الجربي في 2013 “صالة شاي” سمتها “نادي هي” (Club Elle).
نادي ELLE
هو أقدم فضاء خاص بالنساء تم افتتاحه يوم 4 أوت 2013 ليكون بمثابة استجابة لحاجة تسكن التونسيات عمومًا ونساء قليبية خصوصًا في أن يكون لهن فضاء خاص هو عبارة عن مقهى ثقافي للالتقاء وتبادل الآراء وتنظيم بعض الفعاليات الثقافية والتنشيطية من قبيل تنظيم حفلات أعياد الميلاد وتنظيم الرحلات الترفيهية للنساء والملتقيات حول الصحة ومواد التجميل.
هذا الفضاء دأب أيضًا على الاحتفاء باليوم الوطني للصناعات التقليدية لإبراز ثراء الصناعات التقليدية للسيدات في منطقة قليبية من محافظة نابل، كما احتضن حفلات فنية أحيت إحداها المطربة نورة أمين وسهرة ثقافية أثثها الشاعر الكبير الراحل الصغير أولاد أحمد.
بين الخصوصية والانحلال
عن ظاهرة انتشار مقاهي النساء في تونس، أكّدت الصحافية إيمان السكوحي في حديث لـ”نون بوست” أنّ الظاهرة تُعد إيجابية نظرًا لما تمنحه من مساحة حرية لفئة مجتمعية ترفض ارتياد المقاهي المختلطة سواء لقناعات شخصية او لتأثيرات خارجية، مشيرةً إلى أنّ عددًا كبيرًا من النسوة وخاصة الملتزمات منهن يرفضن المقاهي المختلطة استنادًا على معتقد تحريم الاختلاط، فيما يُفرض الأمر على الباقي بسبب البيئة الاجتماعية والثقافية التي تعتبره “عيبًا” أو خارجًا عن المألوف وسياق أسلوب حياتهن، وهناك من تجد المقهى النسائي فضاء تحتمي فيه من نظرات أو مضايقات متحرش يفسد عليها متعة التمتع باحتساء فنجان قهوة مع صديقاتها.
وأشارت السكوحي إلى أنّ المقاهي النسائية تنقسم إلى نوعين، تلك التي تنتشر في الأحياء الشعبية والتي تعتبر حلًا ترفيهيًا لنساء حرمن من أبسط مقوّمات العيش الكريم فلربما يمنحها هذا الفضاء فرصة للشعور بأن لديها حق الاستمتاع بالحياة حتى ولو بكوب شاي في المقهى، وهناك مقاه أخرى تنتشر بالأحياء الراقية والتي عادة ما تجمع النساء (النخبة) اللاتي يلتقين على دعم قضايا النسوية.
من جانبها، تقول هبة الرحماني (جامعية) إنّ معارضة دخول النساء للمقاهي الخاصة لا يُمكن إلا أن يكون دليل جهل ورجعية، مضيفةً: “من المفارقة أنّ بعض الرجال في تونس لا يرون أي إشكال في دخولها للمقاهي المختلطة ولكنهم لا يقبلون ذهابها للمقاهي الخاصة، لا أعرف على أي أساس بنوا أفكارهم النمطية”، مؤكدة أنّه خلاف لما يُروج له البعض، فإنّ المقاهي الخاصة بالنساء تُعد مؤشرًا إيجابيًا للحفاظ على قدر من تقاليد المجتمع فهي تمنع اختلاط الجنسين وتفسح المجال للنساء للتعارف وتفتح لهم آفاق جديدة سواء في مجال الأعمال أو حتى في تبادل الخبرات في تربية الأبناء ومعالجة مشاكلهم العائلية، مضيفةً أنّ مقاهي “حواء” هي عبارة عن تحرر منضبط للمرأة و”لا نرى فيه عيبًا”.
عاشت عورة ليست حرة بلباس ولم تمكن لها بلادها في لعب ولا ترفيه ولا وظيفة ولا استقلالية ولا حق في جوال ولا دخول مقهى ولا مطعم ولا ملعب ولا منتزه ولا فضاء تسلية ولا محل تبغ ولما تنتقد وضع النساء يقولون لها لو أخذت حقوقك لكنت مثل نساء العرب تعانين من العنوسة#تونس ملعونة#تونس_الجحيم
— Siwar amimi (@AmimiSiwar) August 16, 2019
في المقابل، وفي الوقت الذي لا يرى البعض أي مشكلة في تواجد النساء في المقاهي الخاصة، فإن آخرين يرون أن ذلك لا يتناسب ومجتمع المحافظ وهي الطبيعة الغالبة على الأحياء الشعبية، ويعتبرونه ثقافة جديدة ودخيلة على المجتمع، فهي تُشجع النساء التونسيات، وفقًا لمنظورهم، على ترك منازلهن والانخراط في نمط حياة جديد قوامه “عدم الإحساس بالمسؤولية” وهو أيضًا -برأيهم- مؤشر لبداية الانحلال المجتمعي والتفكك الأسري، فيما يتخوف آخرون من موضة مقاهي النساء باعتبارها نكوصًا عن المكتسبات التي حققتها المرأة من حرية وتحرّر وعلامة من علامات ترهل الحداثة في تونس.
حينما المرأة تحن للمحرمات وتتعدى شرع الله في تونس تفتح مقهى وهذا محرم البنت تتناول قهوة تحتوي عن مادة مخدرة وثانيا تنتج عنها الفساد الاخلاقي لان تدخلها الفاسدة والي تدخن فهي ملاذ للفساد ولو انه مقهى نسائي اتقو الله يا نساء تونس الله غفور رحيم لكنه شديد العقاب لمن يتحدى الشرع https://t.co/LQ19rsGHzI
— may wicem (@wicem_may) January 25, 2020
إلى ذلك، يعتبر لجوء المرأة إلى المقهى بحثًا مألوفًا وشرعيًا من قبلها عن المكانة الاجتماعية الراقية وهو مظهر من مظاهر التحررّ المرتبط في الذاكرة الجمعية للتونسيين بالرقيّ، وهو أيضًا جزء من الانتقال الذي طرأ على المجتمع التونسي بولوج المرأة للفضاء وخاصة سوق الشغل.
بالمجمل، فإنّ ظاهرة انتشار المقاهي في تونس تعود أساسًا إلى توق المرأة للريادة في مجال الأعمال الجديدة وفي سياق عام لمحاولاتها المتكررة في دخول عوالم كانت محرمة في وقت سابق مثل أعمال البناء وسياق سيارات الأجرة والمطاعم، وإلى نفورها من الفضاءات العامة التي باتت مجالًا مفتوحًا لظواهر وآفات جديدة كالعنف والتحرش، ومن المؤكد أيضًا أنّ الجدل الذي رافق إطلاق مثل هذه المشاريع لم يتجاوز الفضاء الأزرق (فيسبوك)، حيث لم تُسجل إلى حد هذه الساعة أي أعمال ناجمة عن ردة فعل رافضة لمقاهي “حواء”.