عبر حشد إعلامي مكثف، ومساعي حثيثة لتجميل المشهد، انطلقت فعاليات انتخابات مجلس الشيوخ في مصر، والتي بدأ الاقتراع فيها داخل البلاد أمس الثلاثاء 11 أغسطس/آب وينتهي في التاسعة من مساء اليوم، وسط غياب شبه كامل للناخبين اللهم إلا أنصار المرشحين المتواجدين أمام اللجان الانتخابية.
وكالعادة استهلت وسائل الإعلام بثها لنقل فعاليات الماراثون بصور ومقاطع لرئيس الجمهورية والوزراء والمحافظون ومسؤولون آخرون في الدولة يدلون بأصواتهم، يرافقهم مواطنون يتوافدون على لجان الاقتراع في مختلف المحافظات، مع انتشار كثيف للأعلام المصرية واستعدادات جهاز الشرطة والعناصر التأمينية.
العديد من المظاهر فرضت نفسها على المشهد أبرزها ما يتعلق بانتشار الرشى الانتخابية التي تميزت هذا العام بمواكبتها لتطورات العصر وبما يقلل من الإدانات والسخرية المعتادة التي كانت ترافقها في الاستحقاقات السابقة، هذا بخلاف خلو اللجان الانتخابية من الناخبين في معظم المناطق وهو ما يضع النظام وأنصاره في مأزق حقيقي.
ورغم الاعتراضات المتتالية على إنشاء غرفة برلمانية ثانية في ظل وجود غرفة أولى كافية لتمرير ما تريده الحكومة من قوانين وتشريعات، إلا أن الإصرار على إعادة مجلس الشورى الملغى قبل 6 سنوات بمسماه الجديد “الشيوخ” أثار حالة من الجدل لدى الشارع، خاصة وأن الوضع الاقتصادي للدولة لا يتحمل مئات الملايين المتوقع إنفاقها سواء على الانتخابات أو ميزانيات المجلس السنوية.
العديد من الأصوات داخل الأوساط السياسية أطلقت على المجلس الجديد مسمى “مجلس الترضيات” كونه مكافأة ومجاملة لأكبر قدر من الأشخاص الداعمة للنظام الحالي، في محاولة لضمان ولائهم ومكافأتهم على خدماتهم المقدمة، وهو ما يعيد للأذهان الخلطة السحرية لمجلس الشورى إبان عهد حسني مبارك وكيف أنه كان بابا خلفيًا للفساد، ولعل هذا السبب هو ما أجمع عليه أعضاء لجنة الخمسين التي وضعت دستور 2014 واستقرت على ضرورة إلغاءه.
تجاوزات بالجملة
شهدت العملية الانتخابية العديد من التجاوزات المعتادة وإن كانت بصورة أكبر هذه المرة، أبرزها التعتيم الإعلامي عبر منع عدد من مراسلي وسائل الإعلام المحلية والأجنبية المعتمدة، بما في ذلك حائزو التصاريح الصادرة عن الهيئة الوطنية للانتخابات، وهو ما تم توثيقة ببلاغات رسمية قدمت لنقابة الصحفيين والهيئة الوطنية.
كذلك مخالفة المرشحين لقرارات هيئة الانتخابات بمنع ممارسة أي دعايا خلال أيام الاقتراع، حيث ظهر بعض رجال الأعمال المنتمين للأحزاب المشاركة وأبرزها “مستقبل وطن” و”الشعب الجمهوري” و”حماة وطن” أمام اللجان برفقة العشرات من أنصارهم، مرددين هتافات الدعم والتأييد.
علاوة على ظاهرة التصويت الجماعي التي فرضت نفسها في بعض اللجان خاصة الشيخ زايد بالجيزة والمطرية والزيتون بالقاهرة، فضلًا عن بعض اللجان في المحافظات النائية، وذلك على الرغم من التنبيهات الصادرة عن قضاة اللجان غير أنه لم يلتزم أحد بها.
عدد من التجاوزات الإدارية الأخرى التي حضرت خلال اليوم الأول على وجه التحديد منها تأخر فتح عشرات اللجان بمحافظات الفيوم والمنيا وبني سويف أبوابها حتى الساعة 11 ظهرًا، متأخرة بذلك ساعتين عن موعدها الرسمي، وذلك بسبب ابتعاد أماكن تسكين القضاة عن اللجان.
مقاطعة كبيرة
بعد جولة سريعة على عدد من اللجان الانتخابية كانت السمة الأبرز هي خلوها من الناخبين، فهناك حالة مقاطعة شبه كاملة لهذا الماراثون رغم الأموال التي ضخت لشحن الناس وتحفيزهم، حتى وصلت -كالعادة- إلى التهديد بفرض غرامات على من يتقاعس عن المشاركة.
بعض اللجان خلت بأكملها إلا من القاضي والمشرفين وأفراد الأمن بخارجها، وبعض الكراسي الملقاة على يمين ويسار المدخل بجانب الأعلام المعلقة عن طريق وزارة الداخلية، هذا بخلاف أنصار حزب مستقبل وطن المنتشرين أمام كل اللجان لتوجيه الناخبين ومحاولة الضغط عليهم عبر أساليب سيأتي ذكرها لاحقًا.
الشوارع هي الأخرى يبدو أنها أعلنت مقاطعتها، رغم محاولات زجها في المشهد عبر عشرات اللافتات المعلقة على حوائطها الممتدة، إذ عبرت عن موقفها بخلوها من المارة على عكس العادة، اللهم إلا السيارات التابعة للمرشحين وأنصارهم والتي ملأت جنبات الشوارع الملاصقة للجان الاقتراع.
وبعيدًا عن الأرقام المتوقع الإعلان عنها بخصوص نسب المشاركة في الانتخابات إلا أن الواقع يسير في اتجاه أخر، معلنًا فشل استراتيجيات الحشد المتبعة، والتي تشير إلى الكثير من الدلالات السياسية والمجتمعية التي من المتوقع أن تصيب أنصار النظام بصدمة كبيرة.
الرشى بطريقة عصرية
يسير حزب “مستقبل وطن” الداعم الأول للنظام والمدعوم منه، على نفس خطى حزب مبارك الوطني المنحل ، فكلاهما ينتهج ذات الاستراتيجية في الحصول على دعم الناس، شراء أصواتهم مقابل المال، عازفين على وتر عوز الفقراء وحاجاتهم، مستغلين ما يعانون منه من قلة وعي وجهل لدى شريحة كبيرة منهم.
ومع ثبات الاستراتيجيات تبقى الأدوات محل تطوير بين الحين والأخر، فبدلا من “أكياس الزيت والسكر والشاي” من قبل أعضاء الوطني السابقين أو جماعات الإسلام السياسي، تحول الأمر إلى رشى عصرية، حيث إعطاء الناخب فيزا شرائية بمبلغ مالي معين نظير الإدلاء بصوته لصالح مرشح بعينه.
كثير من مواقع التواصل الاجتماعي رصدت هذه الظاهرة، لأحد مرشحي الحزب المدعوم من أجهزة الدولة السيادية، وهو يقدم فيزا شرائية من أحد الأسواق التجارية بقيمة مائة جنيه مقابل صوته، وهي الأداة التي تكررت في أكثر من محافظة بحسب شهود عيان.
تطورت أشكال المال السياسي المستخدمة كذلك حيث تضمنت وعود انتخابية بتعيين فرد من كل عائلة تقوم بدعم المرشح في وظيفة مرموقة، وعليه يتولى كبير العائلة عملية الحشد لدعم هذا النائب المحتمل، أملًا في حصوله على تلك الوظيفة، وهكذا يضمن المرشح أصوات الكثير من العائلات.
هذا بخلاف الرشى التقليدية كالوجبات المغلفة، وإن كانت ذو مستوى عال مقارنة بما كانت عليه في السابق، بجانب رسم صور المرشحين ورموزهم على أغلفة العصائر والمقرمشات وبعض السلع، وهي الدعاية المنتشرة بكثافة أمام اللجان رغم اعتراض بعض القضاة عليها لكنها لم تحرك لأحد من ساكن.
فقدان الثقة
“ما الذي يجبرني أن أشارك في انتخابات معروف نتائجها سلفًا؟”.. بهذه الكلمات برر أحمد س (مهندس) عدم مشاركته في الاقتراع، مضيفًا أنه تردد كثيرًا قبل حسم موقفه بعدم الانخراط فيما أسماه “المسرحية الهزلية” إلا أنه توصل في النهاية أن الأمور محسومة قبل أن تبدأ.
أحمد في تصريحاته لـ”نون بوست” تساءل عن المنافسة في تلك العملية، لافتًا إلى أنه لا يوجد سوى قائمة واحدة وهي المدعومة من أجهزة الدولة، هذا بخلاف سيطرة حزب مستقبل وطن على مايزيد عن 90% من القائمة الفردية، وهو ما يعني أننا أمام حزب وطني جديد ولكن بشج فجً، على حد قوله.
الرأي ذاته ذهبت إليه “أمنية ك” (معيدة بالجامعة) لافتة إلى أن كثرة مثل تلك الاستحقاقات أفقد الشارع المصري الثقة في الأجهزة التي يتم انتخابها، متسائلة عن دوافع تدشين غرفة برلمانية أخرى في ظل تمرير الأولى لكافة المشروعات الحكومية المقدمة، هذا بخلاف الميزانية المتوقع أن تخصص لهذا الكيان الجديد في ظل الأزمة الاقتصادية التي تحياها البلاد.
وأضافت الأكاديمية المصرية في حديث خاص لـ “نون بوست” أن المناخ العام بات فاقدًا للمصداقية، وعليه استقر في يقين قطاع كبير من الشعب أن مشاركته من عدمها لن تؤثر على النتائج، فما يريده النظام سيكون، مستشهدة بمقطع مصور لعمدة إحدى القرى بمحافظة الفيوم حين قال “إن هناك توجيهات لانتخاب القائمة الوطنية وأنه سواء شاركنا أو لم نشارك سينجحوا سينجحوا”، وهو الفيديو الذي أثار موجة جدل وسخرية تتماشى مع المناخ العام.
العديد من السياسيين يرون أن مقاطعة الشارع للانتخابات إحدى أبرز صور الرفض السياسي الصامت للسياسات المتبعة حاليًا، والتي أثقلت كاهل متوسطي ومحدودي الدخل، وفي ظل عدم القدرة على المجاهرة بالرأي في وجود القبضة الأمنية الشديدة كانت المقاطعة هي الأسلوب الأمثل، حتى من شاركوا في الاقتراع ستكون هناك أصوات كثيرة باطلة، كنوع من التصويت السلبي كعقاب جماعي للمرشحين ومن يدعمهم.
النظام في مأزق
العديد من الأحاديث الملتقطة لبعض المرشحين المعروفين على قائمة حزب مستقبل وطن أبدت تخوفها من قلة الحشد وضعف المشاركة، كونها تعد دليلًا موثقًا على فشلهم في إدارة العملية برمتها، هذا بخلاف ما يمكن أن تعطيه من دلالات سلبية بحق شعبية النظام.
صحفيون أشاروا إلى أن ضعف الإقبال رغم الحشد والترهيب والإغراءات المالية (وصل سعر الصوت اليوم 300 جنيها) هو دلالة واضحة على فقدان النظام قاعدته الشعبية التي ارتكن عليها في الاستحقاقات السابقة، وهو ما يضع السلطة الحالية في مأزق.
منذ 2013 وحتى اليوم شهدت مصر العديد من الماراثونات الانتخابية، مابين انتخابات رئاسية وتشريعية واستفتاءات على الدستور وتعديلاته، كان الشعار الأبرز أنها اختبار لشعبية النظام، وطالما كانت تحقق نتائج أفضل نسبيًا رغم ما كان يشوبها من تجاوزات ومخالفات لا حصر لها.
وعليه يعتبر الكثيرون أن المشاركة الباهتة في هذا الاستحقاق إعلان شبه رسمي على فقدان النظام لجزء كبير من قاعدته الجماهيرية، وهو ما يمكن أن يكون بروفة للانتخابات التشريعية المقرر عقدها بعد عدة أشهر، والتي ستكون مقدمة لما يمكن أن يكون عليه المشهد السياسي مستقبلًا.
لكن من الصعب أن تترك السلطات المشهد يسير وفق سياقاته الحالية، فكما هو معتاد بحسب التجارب السابقة، سيكون هناك تدخلًا مباشرًا في اللحظات الأخيرة، عبر تجييش موظفي الشركات والقطاع العام للتصويت بالتهديد، وتوظيف هذا المشهد إعلاميًا بما يوهم المتابع بكثافة المشاركة، هذا بخلاف احتمالية تمديد الانتخابات ليوم إضافي لتعظيم نسبة الإقبال أو الإيهام بذلك وهو ما حدث في الانتخابات السابقة.
وبصرف النظر عن النتائج المعروفة سلفًا والتي تحتاج فقط إلى الديكور السياسي لتمرير مشروعيتها، ومساحيق التجميل المتوقع ضخها لتجميل المشهد في أمتاره الأخيرة، إلا أن المقاطعة وغياب المشاركة وفشل الحشد السياسي والمجتمعي تحمل في حقيقتها دلالة واضحة على فقدان النظام الحالي لأحد أبرز أركانه التي ظل يعتمد عليها طيلة السنوات السبع الماضية.