استيقظ الناس صبيحة الأول من أغسطس/آب الجاري على تغريدة نشرها نائب رئيس الإمارات، الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، على تويتر يقول فيها “نعلن اليوم عن نجاح دولة الإمارات في تشغيل أول مفاعل سلمي للطاقة النووية في العالم العربي.. في محطات براكة للطاقة النووية بأبوظبي”.
وبعيدًا عن كون المفاعل إدارة وصناعة وتقنية وأيادي بشرية غير إماراتية بالمرة، وأن الدولة الخليجية كانت بمثابة الممول فقط، إلا أن تصريح كهذا لا يمكن أن يمر مرور الكرام، ومما أثار حفيظة الكثيرين هو غياب ردود الفعل بشأن هذا التصريح، حتى من قبل المسؤولين في مصر صاحبة الريادة في هذا عربيًا في الاهتمام بالطاقة النووية.
نعلن اليوم عن نجاح دولة الإمارات في تشغيل أول مفاعل سلمي للطاقة النووية في العالم العربي، وذلك في محطات براكة للطاقة النووية بأبوظبي .. نجحت فرق العمل في تحميل حزم الوقود النووي واجراء اختبارات شاملة وإتمام عملية التشغيل بنجاح . أبارك لأخي محمد بن زايد هذا الانجاز .. pic.twitter.com/e8VHz4o6BY
— HH Sheikh Mohammed (@HHShkMohd) August 1, 2020
ومع إيماننا الكامل بأهمية المشروع الإماراتي وما يمكن أن يقدمه من إثراء في هذا المجال الذي يعاني العرب من ندرته نسبيًا، إلا أنه يبدو أن الشيخ بن راشد ومن هللوا له لم يقرأوا التاريخ جيدًا، فحتى قبل قيام دولة الإمارات بـ 13 عامًا وضعت مصر أولى أقدامها على أبواب عالم الطاقة الذرية حين أنشأت مفاعل أنشاص النووي عام 1958.
ولم تقف الريادة المصرية في المجال النووي على هذا المفاعل الذي يضم بداخله مفاعلين للأبحاث فحسب، بل تمتلك القاهرة اليوم عدة مراكز للأبحاث النووية، فبجانب مفاعلي الأبحاث والذي تبلغ قدرة أحدهما 2 ميغاواط والآخر بقدرة 22 ميغاواط، فهناك المركز القومي لبحوث وتكنولوجيا الإشعاع، والمركز القومي للأمان النووي والوقاية الشعاعية.
الاهتمام العربي بالطاقة النووية بدأ أواسط خمسينات القرن الماضي، وإن كانت مصر أول من ترجمت هذا الاعتمام بوضع برنامج وطني لهذه النوعية الجديدة من الطاقة في ذلك الوقت، فقد لحق بها حينذاك دول عربية أخرى، على رأسها العراق ثم الجزائر ومن بعدهما ليبيا وسوريا.
أنشاص.. أول مفاعل نووي عربي
مع بداية عصر الجمهورية كانت العلاقات المصرية السوفيتية في أوج قوتها في سياق سياسة توازن القوى والعالم ثنائي القطبية، حيث شهد التنسيق بين القاهرة وموسكو تطورًا غير مسبوق في تاريخ البلدين، ما دفع الرئيس المصري وقتها جمال عبد الناصر إلى البحث عن الاستفادة من تلك العلاقة في تقوية الدولة المصرية.
وبالفعل طلب من الحكومة الروسية آنذاك تزويد القاهرة بإمكانيات تؤهلها للدخول إلى عصر الطاقة النووية، وذلك لمناهضة التربص الخارجي ببلاده لاسيما ما يتعلق بدولة الاحتلال الناشئة في هذا الوقت والمدعومة من باريس ولندن بجانب واشنطن.
وجاءت الاستجابة سريعة، حيث أرسلت روسيا مفاعلا نوويًا هو الأول من نوعه في الشرق الأوسط، من نوع “خزان الماء الخفيف (WWR)” (تبريد وتهدئة للنيترونات بالماء الخفيف) بقدرة 2 ميجا وات، ويشمل كذلك حمولة وقود ابتدائية قدرها 3.2 كجم من يورانيوم U235 تخصيب 10% EK-10)].
وجاء اختيار منطقة أنشاص بمحافظة الشرقية والتي تبعد عن العاصمة المصرية 60 كم كمكان لبناء هذا المفاعل الذي تم تدشينه بواسطة الشركة الأرجنتينية INVAP، وبدأ دخوله حيز العمل عام 1961، وإن كانت بحمولة فنية متواضعة مقارنة بإمكانياته الهائلة في هذا الوقت.
تم وقف العمل بمفاعل أنشاص عام 2007 بعدما تزايدت الشكاوى المتعلقة بإجراءات الأمان
وفي عامي 2004 و2005 وبسبب شكاوى تتعلق بمعدلات الأمان بالمفاعل بدأت وكالة الطاقة الذرية في إجراء تحقيقات شاملة في هذا الشأن، هذا بخلاف ما أثير قبل ذلك بأعوام بخصوص إجراء مصر لبعض التجارب النووية التي لم يفصح عنها وقد كشف عنها مدير عام الوكالة الأسبق، محمد البرادعي، في تقرير مفصل لها.
التقرير أوضح أن مصر أجرت خلال الفترة من 1990 و2003 حوالي 12 تجربة لم تبلغ الوكالة الدولية بها، تم فيها استخدام ما مجموعه 1.15 غرام من مركبات اليورانيوم الطبيعي و9 عينات من الثوريوم عولجت وشُعِّعَت في المفاعل ETRR-1.
وأضاف أن هذه التجارب كانت تنطوي على تشعيع كميات صغيرة من اليورانيوم الطبيعي في المفاعل هي لاختبار إمكانية عمل منتجات النظائر الانشِطارِيّة للأغراض الطبية، وعليه تم وقف العمل بالمفاعل عام 2007 بعدما تزايدت الشكاوى المتعلقة بإجراءات الأمان.
كما شهد المفاعل العديد من الحوادث التي وقعت بسبب بعض أوجه القصور المتعددة، منها ماحدث في إبريل 2010 حين أصيبت إحدى مضخات تبريد المفاعل بالتلف، ورغم إصلاحه إلا أنه ترك أثارًا سلبية، وفي 25 مايو 2011، حدث تسرب للمياه آخر للمرة الثانية بسبب انفجار في مضخة المفاعل والذي أدى إلى تسرب 10 متر مكعب من المياه المشعة، ما أثار حالة من الهلع داخل الأجهزة الرسمية المصرية.
وفي ظل تباين الرؤى بشأن مستويات الأمان بالمفاعل، وقع تحت سلطة البيروقراطية، الأمر الذي أبقاه على وضعيته الحالية، مفاعل مع إيقاف التنفيذ في معظم أنشطته، ما نجم عنه مطالبة الشركة الأرجنتيتية التي كانت تتولى تدشين المفاعل بطلب تعويض قدره 4 مليون دولار أمريكي بسبب التأخير في إصدار الإذن بتشغيل المفاعل رغم إجراءات السلامة التي اتبعها.
تجارب عربية سباقة
لم تكن مصر وحدها التي خاضت مضمار الطاقة النووية، حيث شهد هذا المجال تسابقًا من قبل العديد من الدول العربية التي أبلت بلاءً حسنًا رغم فشل بعضها في تحقيق النتائج المرجوة، غير أن اللبنة الأولى التي وضعتها في هذا البناء كفيلة أن تكون نواة لاستكماله بما يتواكب مع متطلبات العصر.
البداية كانت مع العراق، والتي لم تتأخر كثيرًا عن مصر في هذا السباق، حيث كانت بدايتها الأولى عام 1959، بعد تفاهمات عقدتها مع الاتحاد السوفيتين وفي عام 1968 تم بناء أول مفاعل نووي بحثي، والذي تم استهدافه عام 1981 في غارة جوية إسرائيلية خلال حرب الخليج الأولى.
وتذهب بعض المصادر أن علماء العراق استطاعوا خلال الفترة من 1981-1992 تخصيب اليورانيوم بشكل منفرد، إلا أن هذا البرنامج دُمّر تمامًا بعد حرب الخليج الثانية، عام 1991، ومع ذلك لم تستلم بغداد التي تسعى جاهدة للعودة إلى هذا المضمار.
الجزائر هي الأخرى كانت من بين الدول العربية السباقة في دخول عصر الطاقة النووية، حيث تمتلك مفاعلين بقدرات ضعيفة نسبيًا، الأول تم تدشينه عام 1983 حين وقعت اتفاقية مع الصين لتشييد مجمع نووي سلمي، والأخر كان ضمن اتفاقية أخرى وقعت عام 1993.
مصر أجرت خلال الفترة من 1990 و2003 حوالي 12 تجربة لم تبلغ الوكالة الدولية بها
سوريًا.. تم بناء أول مفاعل نووي للأبحاث عام 1991 وهو مفاعل مصغر لإنتاج النيوترون (MNRS)، بمشاركة فنيين ومهندسيين كوريين، وبتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبعده بسبع سنوات تقريبًا تم تدشين مفاعل آخر للبحث في دير الحجر لإنتاج النظائر المشعة وللتدريب بسواعد صينية.
ومن التجارب الجيدة عربيا التجربة الأردنية، والتي بدأت عام 2008 حين وقعت عمّان عقدًا مع الصين لاستغلال خامات اليورانيوم المتوافرة في أراضيه والتي تقدر بنحو 200 ألف طن، ليعاد بعدها بعام واحد فقط تنظيم الهيئات المعنية بالطاقة الذرية، حيث تم تشكيل مفوضية الطاقة الذرية بقانون، وتلتها هيئة مستقلة للرقابة النووية.
وبالتعاون مع شركة كورية جنوبية بدأت الأردن عام 2009 في دراسة مشروع لإقامة مفاعل نووي للأبحاث، بقدرة 10 ميغاواط، في جامعة الأردن للعلم والتكنولوجيا، تلك الجامعة التي أنشئ فيها عام 2007 برنامج للبكالورويوس في الهندسة النووية لتعزيز هذا المجال بالكوادر البشرية المؤهلة.
وفي يوليو/تموز 2020 أعلنت عمًان عن خطة وطنية طموحة لتوظيف الطاقة النووية في إنتاج الكهرباء، الخطة تدور حول إنشاء محطة نووية تدخل حيز التنفيذ 2020/2021 بقدرة 1000 ميغاواط، قادرة على توفير نحو 20 في المئة من الطلب على الطاقة الكهربائية، وبحلول 2030 يتم إقامة محطة أخرى بهدف تغطية احتياجات الكهرباء بالطاقة النووية بنسبة 30 بالمائة.
علاوة على ذلك فقد أعلنت البحرين نيتها البدء في إقامة أول محطة نووية عام 2010 وإن كان هذا المشروع قيد الدراسة حتى الآن، وفي نفس العام أنشأت الكويت اللجنة الوطنية للطاقة الذرية كنواة لاقتحام هذا المجال على أن تسعى لبناء أربع محطات نووية بقدرة 1000 ميغاواط لكل منها.
العام ذاته شهد إعلان المغرب عن ملامح خطة وطنية للطاقة تتضمن إقامة عدة محطات نووية بدءًا من سنة 2022، فيما افتتحت المملكة العربية السعودية مدينة الملك عبدالله للطاقة النووية والمتجددة، لتشرف على جميع الأنشطة في مجال الطاقة النووية.
ويعاني العرب على وجه العموم من تراجع كبير في هذا المضمار الذي بات يمثل تحديًا كبيرًا للخروج من أزمات الطاقة التقليدية التي من المتوقع أن تكون ساحة للحروب مستقبلًا، مثله مثل المياه، الأمر الذي يجعل من إسراع الخطى لتحقيق تقدم ملموس في سباق التنافس المحموم أمر غاية في الأهمية، هذا إن كان العرب يريدون أن يجدوا لأنفسهم مكانًا في قلعة المستقبل المحصنة بمتاريس العلم والتقدم.