شهدت الأيام القليلة الماضية تصاعدًا كبيرًا في عدد الهجمات التي شنتها فصائل مسلحة مرتبطة بإيران، أو ماتعرف بفصائل الكاتيوشا، والأكثر من ذلك طورت أساليب هذه الهجمات لتطال خطوط الدعم اللوجستي للقوات الأمريكية، في تكرار لإستراتيجية كانت تعتمدها جماعات القاعدة في أفغانستان والعراق، الهدف منها تحقيق إرغام سياسي واستنزاف عسكري على المدى الطويل.
إذ لا زالت هذه الفصائل تنظر إلى طبيعة الوجود الأمريكي في العراق، على أنه مهدد لها وللجارة إيران، التي ترتبط بعلاقات وثيقة معها، عبر فيلق القدس، إذ تتداخل هذه الفصائل مع فيلق القدس على مستوى الإدارة والدعم والتوجيه، كما أنها شكلت جبهة متقدمة لإيران في العمق العراقي، ونحو دول الجوار أيضًا، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بدور الفصائل الولائية (التي تقلد المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي)، في الساحة السورية واليمنية والبحرينية.
لماذا تصاعدت الهجمات؟
لا يختلف أحد على أن اقتراب موعد زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي لواشنطن في 20 من الشهر الجاري، تقف في مقدمة الأسباب وراء تصاعد الهجمات المسلحة في الآونة الأخيرة، إذ تعتقد هذه الفصائل، إلى جانب تحالف الفتح ودولة القانون، أن الكاظمي غير جاد في موضوع إخراج القوات الأمريكية من العراق، والإسراع في تطبيق قرار مجلس النواب العراقي الصادر في 3 يناير الماضي، الخاص بإخراج القوات الأمريكية من العراق، فضلًا عن أنه من المتوقع أن يبحث موضوع تطبيع الحشد الشعبي، والدور الإيراني في العراق.
ولإيصال رسائل واضحة في هذا المجال، شنت الفصائل الولائية المقربة من إيران، العديد من الهجمات في اليومين الماضيين، ومنها الهجوم الذي شنه فصيل “أصحاب الكهف”، الذي يتبع لكتائب “حزب الله” العراقي، على منفذ جريشان على حدود الكويت، ودمر آليات أمريكية، فضلًا عن هجوم آخر شنته هذه الفصائل يوم 11 أغسطس، بعد تفجير عبوة ناسفة أثناء مرور رتل تابع لقوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة قرب قاعدة التاجي شمالي بغداد، وفي ذات اليوم شنت فصائل الكاتيوشا هجومًا صاروخيًا استهدف محيط المنطقة الخضراء، بعد سقوط ثلاث صواريخ أمام البوابات الرئيسية.
وكان أعنف هجوم وقع في 11 يوليو الماضي، إذ أضرم مسلحون مجهولون النيران في ثلاث شاحنات، تحمل معدات لوجستية وسيارات عسكرية بينها عربات “همر” لصالح القوات الأمريكية والتحالف الدولي في محافظة الديوانية جنوب العراق. وهو ما دعى البنتاغون الأمريكي الطلب من الجانب العراقي أن تتولى القوات الأمريكية حماية هذه القوافل بعد فشل القوات العراقية في تأمينها.
تعهدت الفصائل في وقت سابق بالانتقام لمقتل المهندس وسليماني، وهي تضغط اليوم على القوى السياسية بالشروع في تفعيل قرار انسحاب كامل للقوات الأجنبية من العراق
وعلى الرغم من أن الانفجارات لم تسفر عن سقوط ضحايا، لكنها ألحقت أضرارا مادية في إمدادات قوات التحالف، إذ لا تزال عدة آلاف من القوات الأمريكية متمركزة في العراق، وتقود تحالفًا مهمته محاربة تنظيم داعش، وهذه القوات أيضًا هدف للفصائل المسلحة المدعومة من إيران، والتي تحملها الولايات المتحدة المسؤولية عن الهجمات الصاروخية المنتظمة على القواعد التي تستضيف قوات التحالف، وعلى أهداف أمريكية أخرى مثل سفارة واشنطن في بغداد.
إذ تعهدت هذه الفصائل في وقت سابق بالانتقام لمقتل أبو مهدي المهندس وقاسم سليماني، وهي تضغط اليوم على القوى السياسية بالشروع في تفعيل قرار انسحاب كامل للقوات الأجنبية من العراق، كما أنهم يعارضون الكاظمي، وينظرون إليه على أنه صديق للولايات المتحدة، وقد تحدى قوة الفصائل المسلحة المتحالفة مع إيران في العراق، في حادثة الدورة الأخيرة، ولذلك يمكن القول إن الهجمات الأخيرة يمكن أن تكون جزءًا من حملة إيرانية بالوكالة، قبل الجولة المقبلة من الحوار الإستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة، المقرر عقدها في واشنطن في وقت لاحق من هذا الشهر.
الولايات المتحدة والفصائل المسلحة
رغم كفاح الكاظمي للوفاء بتعهداته، لضمان ألا يصبح العراق مسرحًا لصراعات القوة والموارد بين الولايات المتحدة وإيران وقوى إقليمية أخرى، إلا إنه حتى اللحظة لم يعتمد إستراتيجية واضحة في هذا المجال، وعلى الرغم من سعيه عبر زيارته الأخيرة لطهران، للحصول على ضمانات إيرانية بدعم الإستقرار في العراق، مقابل علاقات اقتصادية وتجارية مثمرة، إلا أن الجانب الإيراني والأمريكي يبدوان مصران على إدامة اللعبة المزدوجة في العراق.
ويبدو أن الولايات المتحدة تعمل على تقييم أنشطة المضايقة التي تقوم بها الفصائل المسلحة القريبة من إيران وترتيبها بشكل صحيح، والتمييز بين تلك التي تتطلب تحركًا أمريكيًا طارئًا، وتلك الأقل أهمية، ويبدو النمط الحالي لهجمات المضايقة التي تقوم بها هذه الفصائل ضد الجنود الأمريكيين غير مميت عن قصد، لدرجة أن الهجمات الصاروخية للفصائل على المجمّعات العسكرية الكبيرة، والتي “تهدف إلى تجنب” الإصابة بأهدافها، لها أمل ضئيل بأن تؤدي إلى قتل أمريكيين أو إصابتهم بجروح خطيرة، علمًا بأنه لا يوجد جنود أمريكيين في ناقلات الدعم اللوجستي، ويمكن القول إن جعل هذا الشكل الواضح للخيارات العملياتية للفصائل المسلحة محصورًا بهجمات غير فتاكة، وأقرب إلى هجمات ترويجية دعائية ذات أثر محدود أو مزيفة، يُعتبر نجاحًا للردع.
هناك خشية كبيرة لدى حلفاء إيران في العراق، من أن تثمر هذه الزيارة عن تعهدات عراقية ببقاء القوات الأمريكية في العراق
إن الأيام المقبلة ستشهد مزيدًا من هذه الهجمات، طالما أن إيران وحلفاءها مصرون على إفشال زيارة الكاظمي لواشنطن، أو أن يقبل وجهة نظرهم، ويقدمها للجانب الأمريكي الذي يتطلع لبناء علاقات مستقرة مع الجانب العراقي، إذ اضطر البيت الأبيض إلى تعديل بيان الترحيب بزيارة الكاظمي مرتين، وتغير مفهوم العراق في السياسة الأمريكية من (الشريك الناجح) إلى (الشريك المقرب)، وعلى الرغم من إعلان المتحدث باسم البيت الأبيض جاد دبر عن جدول أعمال هذه الزيارة المرتقبة، وإغفاله الحديث عن مواضيع الحشد الشعبي وإيران، إلا أنه من المتوقع أن تحتل هذه المواضيع صدارة الملفات التي سيتم بحثها بين الكاظمي والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، كمقدمة للتوصل لشراكة إستراتيجية تجمع البلدين مستقبلًا.
ثمة خشية كبيرة لدى حلفاء إيران في العراق، من أن تثمر هذه الزيارة عن تعهدات عراقية ببقاء القوات الأمريكية في العراق، إلا أن إيران هي الأخرى غير متحمسة لإخراج القوات الأمريكية في هذا الوقت، بسبب أن إخراج القوات الأمريكية، سينعكس سلبًا على العراق، واحتمالية خضوعه لذات العقوبات الإقتصادية المفروضة عليها، وهذا يعني إيقاف للعملة الصعبة المهربة من العراق، والذي أعان الاقتصاد الإيراني طيلة الفترة الماضية، فضلًا عن إمكانية إيقاف التعاملات التجارية والاقتصادية التي تحرك الاقتصاد الإيراني المأزوم.
ولهذا تجد إيران أن يكون ملف إخراج القوات الأمريكية من العراق، ملف سياسي حاضر في أي مناسبة، مع عدم حسمه في الوقت الحاضر، لعدم معرفتها بما يمكن أن تفرزه الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر القادم، وهي تحاول أن تنقل وجهة النظر هذه لحلفاءها في العراق، الذين بدأ البعض منهم ينظرون لمصالحهم، بصورة متمايزة عن المصالح الإيرانية في العراق، وهي أبرز الإشكالات التي تعاني منها إيران في عراق مابعد سليماني.