المكلف بتشكيل حكومة تونس القادمة، السيد المشيشي، يعاني الأمرّين ونظن أنه يقضم الآن أظافره ندما على هذه المهمة المستحيلة. مهمة تقع بين قوتي ضغط رهيبتين لا يمكن ترضيتهما بحل وسط إلا بمعجزة. يقول المتفاؤلون أن التونسيين بارعون في العثور عليها في اللحظات الأخيرة فهم شعب التسويات والتوافقات المستحيلة بينما يرى الواقعيون على حافة التشاؤم أن المسار السياسي التونسي في مهب الريح بفعل نوايا الرئيس ومشروعه الغامض وفريقه الذي يتحرك في الظلام ولا يسفر عن وجه محدد.
لمن ستكون الغلبة في تشكيل الحكومة المرتقبة؟ للأحزاب السياسية التي يعافها الرئيس أم للأحزاب السياسية التي عادت تتكلم عن شرعية الصندوق الانتخابي؟. الأسبوعان الباقيان من عهدة التكليف سيكونان أسبوعين مصيريين في تاريخ الثورة التونسية ويحددان مآلاتها القريبة والمتوسطة.
الرئيس وفريقه الغامض
النزاع الحزبي وفر للرئيس فرصة ممتازة ليفرض شروطه في اتجاه استعادة سلطات واسعة بحكم الواقع. سلطات كانت صيغة الدستور قد ضيقتها عليه حتى ظُن أن الرئيس لا يحكم. احتكر تأويل الدستور متذرعا بغياب المحكمة الدستورية، فناور في هذه المنطقة الضيقة وفرض استقالة رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ ليستعيد مبادرة التكليف من البرلمان عامة ومن رئيسه خاصة والتي كانت عملية سحب الثقة من الحكومة ستحرمه منها، فتظاهر بمشاورة الأحزاب التي أتت طائعة بقائمة مرشحيها، مستوفيًا بذلك الشكل القانوني للاستشارة ولكنه لم يأخذ بمقترحات الأحزاب واختار من كوادر الإدارة القديمة رجلا كان من طلبته ذات يوم.
يبدو تلميذ الرئيس شكلانيا مثله ويطبق دروسه على الأرض، فقد فتح باب المشاورات مع الأحزاب والمنظمات ولكنه مثل أستاذه تجاوزها ليعلن نيته في تشكيل حكومة كفاءات من الإدارة ونظن أنه يفعل طبقا لرؤية أستاذه ورئيسه. ونلتقط إشارات حرصه على الدرس التطبيقي متخليا عن الكتل الحزبية في البرلمان أي متخليا في العمق في نتيجة الانتخابات التشريعية لسنة 2019.
قوة الضغط المقابلة أي الأحزاب الممثلة في البرلمان تتأهب للحكومة في البرلمان أو تتربص لها فهي لا تزال مصدر شرعية الحكومة
الرئيس وفريقه الذي لا نرى منه إلا الدكتورة رئيسة الديوان (وهي طالبة كانت في درس الأستاذ وإن كانت تجاوزته في الترقي العلمي لاحقا). يضغطان في هذا الاتجاه أي حكومة من خارج الأحزاب أي من خارج البرلمان. والمكلف بالحكومة لا يمكنه الإفلات من هذه الضغوطات فهو يبرر للأحزاب عندما يجالس قياداتها معتمدا حجج أستاذه عن عدم الحاجة إلى منظومة حزبية تقود العمل السياسي. فحكم الأستاذ بات لا تعقيب عليه.
الأحزاب هي عنوان الفشل والسياسة يجب أن تدار بعقل مختلف ربما على قاعدة من تحزب خان. حيث بدا التونسيون يستعيدون بعض فقرات خطاب القذافي حول ديمقراطية اللجان الشعبية ويفككون في الأثناء مشروع الرئيس الذي يدافع عن الشيء ونقيضه فهو رجل قانون شكلاني يعلن احترام المؤسسات وهو في ذات الوقت يستهجن المؤسسات الأهلية المنتخبة شعبيا ويتجاوزها باحثا عن حل من خارج القانون معتمدا فقط على منتوج الإدارة العميقة من كوادر صنعتها دولة سبقته.
الأحزاب تنتظر الحكومة في المنعرج
قوة الضغط المقابلة أي الأحزاب الممثلة في البرلمان تتأهب للحكومة في البرلمان أو تتربص لها، فهي لا تزال مصدر شرعية الحكومة. فلا حكومة إلا بمصادقة البرلمان، وقد بدأت مواقف الأحزاب تتجلى للمتابعين فجميع الأحزاب وإن اختلفت تجد الآن أن تجاوزها من قبل المكلف أمر غير لائق بالديمقراطية وترى حكومة التكنوقراط اعتداء على حقوقها التي خولها لها صندوق الاقتراع. لذلك تلوح بعدم المصادقة وتعلن استعدادا خجولا بعد للذهاب إلى انتخابات مبكرة.
لقد وضعها المكلِّف والمكلَّف في موضع مهين أن تصادق على حكومة ليست منها وتصمت، فيصح فيها قول الرئيس أنها لا تساوي شيئا، وترى في ذلك نهايتها خاصة منها الأحزاب ذات الوزن الضعيف والتي عولت على أن مشاركتها في الحكم تقدمها للناس من موقع مكشوف فتكبر بالعمل الحكومي وتترسخ أقدامها في مستقبل السياسة.
ونعني خاصة حزبي التيار وحركة الشعب. حكومة التكنوقراط تحيلها إلى كتل صامتة بلا وزن ولا مشروع، لأن عاقبة القبول بحكومة يلزمها لاحقا بتخفيف معارضتها لها إذ يصير إسقاطها بعد المصادقة عبث سياسي يكلفها الكثير شعبيا خاصة أن آلة الدعاية قد انحازت كلها إلى مشروع الرئيس، فقد وضعها الرئيس في موضع أحزاب كومبارس وهو وضع يدمرها سياسيا.
هل ستنتفض الأحزاب ضد حكومة التكنوقراط وتدفع إلى انتخابات مبكرة؟ حتى الآن لم نلتقط إشارات جدية على ذلك باستثناء عدم نقدها الذاتي لما فعلت بنتائج الانتخابات منذ البداية، فعمليات النقد الذاتي تعيدها إلى سبب رفض حكومة الحبيب الجملي حيث رفضت أن يتقدم للحكم الحزب الفائز بالكتلة البرلمانية الأكبر طبقا للدستور.
الرئيس يعرف وفريقه يدفع إلى توسيع الشقة بين الأحزاب فكل عملية نقد ذاتي تؤدي إلى الإقرار بحق حزب النهضة الذي هضم في مناورات طويلة وهو الأمر الذي لن تقر به الأحزاب. ونذهب إلى الظن أنها ستخضع لمشروع الرئيس كي لا يخرج خصمها اللدود رابحا فقد حكمها هذا المنطق منذ البداية ولا نراها تراجع ذلك ففي المراجعة موت آخر وهي تفضل أن يقتلها الرئيس ولا يقتلها حزب النهضة (إنها في موقع الاختيار بين أحد موتين).
الأزمة الاقتصادية ستكسر الجميع
الجميع يتحدث عن أزمة اقتصادية طاحنة، ولكنهم يتصرفون كما لو أن البلد بخير ومناوراتهم تكشف أن حديث الأزمة هو حديث غير جاد، ويقرأ هذا كعبث سياسي يشارك فيه الجميع وفي مقدمتهم الرئيس المصري على مشروعه الغامض المناقض للدستور.
المكلف لا يمكنه مخالفة من كلفه والتمرد عليه للعودة إلى الأخذ بقوة الأحزاب
منطق اللحظة الحرجة يقول أن حكومة الأحزاب كل الأحزاب في هذه اللحظة هي المطلوبة والضرورية لتكون حكومة إنقاذ اقتصادي برغم كل ما فعلت الأحزاب لأنها حكومة تشريك الجميع (يمكن أن نقول توريط الجميع في الحكم بما يمنع كل أشكال المعارضة المرفهة تحت التكييف) والاتجاه إلى حكومة التكنوقراط الأبرياء من السياسية (وهو وهم يعرفه الجميع ويروج له البعض ممن خسر في الصندوق ويختفي خلف الرئيس) لا يمكنه أن يعالج المشكل الاقتصادي والاجتماعي المستفحل فالمعالجة ليست تقنية ولا رياضية بل سياسية بالأساس.
المكلف لا يمكنه مخالفة من كلفه والتمرد عليه للعودة إلى الأخذ بقوة الأحزاب، وفي غيابهم يمكنه أن يجد طاقما من التكنوقراط العارفين بالقانون والاقتصاد والطامحين إلى الحكم بغير مسلك الانتخابات ويمكنه أن يضغط على البرلمان الذي به أغلبية لا تريد خسارة مواقعها (رواتبها ومكاسبها) ولكن إلى متى؟ كيف يمكنه (لو ضمن المصادقة بالخوف) أن يضمن موافقة البرلمان على ما يقترح من قوانين وإجراءات لتقدم العمل الحكومي؟ ومنها بالخصوص المصادقة على القروض المنتظرة للخروج من الأزمة؟ (حيث يصير خطاب السيادة والاستقلال هواية جماعية ممتعة).
بين احتمال الوصول إلى مصالحات الشجعان من أجل وطن مأزوم وشعب محبط ومهان وبين الارتداد على الرئيس وموقعه وفكره وخطته نرجح الذهاب إلى نقض نتائج انتخابات 2019 البرلمانية والرئاسية.
إنها أزمة عميقة شارك الجميع في تعميقها ولكن مقترحات الرئيس وسياساته المعادية للحياة الحزبية وامتهان المشتغلين بالسياسة ستدفع بها إلى نهايات حادة وسيكون ثمنها مكلفا جدا وفي بعض ثمنها خروج الرئيس من الباب الصغير للتاريخ.