عشية الذكرى السابعة لمجزرة انقلاب العسكر في مصر ضد المعتصمين السلميين في رابعة، تم توقيع اتفاق “سلام؟” بين أبو ظبي وتل أبيب، يهدف أساسا لتطبيع العلاقات الشاملة بين الاحتلال والإمارات، بعد أن ظلت العلاقات بين الطرفين تجري على قدم وساق بشكل غير معلن منذ سنوات طويلة.
ما الرابط بين مجزرة رابعة، وهذا الاتفاق المشين؟
قامت الثورات العربية الشعبية انطلاقا من تونس ثم امتدت لدول عربية أخرى أهمها مصر، بأهداف محلية صرفة في بدايتها، احتجاجا على الاستبداد والتهميش والقمع والإفقار وغياب الحريات الأساسية، ولكنها مع مضي الوقت بدأت تكشف عن أنها ثورات كرامة أيضا، وثورات استقلال، وثورات تبحث عن مكان يليق بشعوب عربية عظيمة، ابتليت بأنظمة فاسدة تابعة للغرب.
كان الهتاف الأثير في شوارع تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، في البداية هو “الشعب يريد إسقاط النظام”، ولكن هذه الثورات العظيمة عرفت شعارات أخرى بعد انتصارها المرحلي على رؤوس النظام في تونس ومصر تحديدا، وكان من أهمها شعار “الشعب يريد تحرير فلسطين”.
لم يغب هذا الشعار ولم تغب أعلام فلسطين عن أي تجمع احتجاجي أو احتفالي بعد سقوط بن علي ومبارك، وصارت الروح الشعبية عبر بلاد العالم العربي بجميع أعراقه عربية وأمازيغية وكردية وتركمانية وأرمنية وغيرها محلقة في السماء، وصارت أعناق هذه الشعوب تطاول الفضاء، وأحلامها لا يحدها سقف.
بدأت الروح الشعبية في الأعوام 2011 و2012 و2013 تستكشف نفسها، فاكتشفت أن فلسطين حاضرة في خيالها وفي شعاراتها وفي أحلامها، جنبا إلى جنب مع أحلام التحرر من الاستبداد والنهوض الاقتصادي والعلمي والاجتماعي، فالأمم والشعوب الحرة لا تسعى فقط لحرياتها الفردية، بل إنها تدرك تماما أن هذه الحرية لن تكتمل بدون كرامة وطنية، ولا كرامة بدون تحرير جميع الأراضي العربية من الاحتلال الاستعماري المغروس في خاصرة المنطقة ككل، وليس فلسطين فقط.
بعد ساعات من القضاء على القذافي، سأل صحفي شابا في بنغازي لم ينبت شعر وجهه بعد عن مشاعره، فقال؛ إن هذا اليوم هو يوم تحرير ليبيا وإن غدا لتحرير فلسطين. وعندما تحررت شوارع القاهرة من الاستبداد الجاثم على صدور أبنائها، حضرت فلسطين في أغاني الشيخ إمام في الميادين، وفي حداء المتظاهرين، وفي الوقوف بكل قوة ضد أي اعتداء على فلسطين.
عند اعتداء الاحتلال على غزة عام 2012، كان القطاع الصامد يشعر لأول مرة أنه ليس وحيدا؛ وقف الرئيس الشهيد محمد مرسي رحمه الله مهددا الاحتلال بغضب شعبي ورسمي، وسمع الاحتلال لغة لم يسمعها منذ كامب ديفيد، وحج وزراء خارجية العالم كلهم لغزة، واضطر الاحتلال لتوقيع اتفاق هدنة مع المقاومة. وشهد معبر رفح في تلك الأعوام أفضل حالاته، حتى في عهد المجلس العسكري، فالعبرة ليست فيمن يجلس في قصر الرئاسة، بل في خضوعه لروح الشعب الثائرة، التي لا تقبل حصار فلسطين عبر مصر الكبيرة.
كانت مصر في تلك الأيام، كما تستحق أن تكون دائما كبيرة وشامخة، رغم ضيق الحال وضعف الأوضاع.
لأجل هذا وقف الاحتلال مع أتباعه وأصدقائه في مصر والمنطقة ضد التغيير في مصر والدول العربية الأخرى، وخطط ودعم انقلابا عسكريا عبر دبلوماسيته في واشنطن، ومن خلال أموال الدول الخليجية، وخصوصا السعودية والإمارات.
كان استمرار حكم الشعب في مصر، وليس حكم الإخوان كما يزعم، تهديدا لا يمكن استمراره بالنسبة للاحتلال، كما كان تهديدا لدول القمع التي لم تشأ أن تنتقل عدوى الحرية لبلدانها المحكومة بالفساد وقبضة الأمن.
في الرابع عشر من آب/ أغسطس 2013، ارتكب الجيش العربي الأكبر مجزرة بحق شعبه، وحوّل بندقيته باتجاه بلده في الداخل بدلا من حماية حدوده وأمنه القومي. كان هذا اليوم علامة بارزة في إنهاء مسار الثورات الشعبية ليس فقط في مصر، بل في المنطقة ككل، وكان بهذا المعنى بداية لعودة الانهيار في المشروع العربي لنهضة الأوطان والشعوب، ولمقاومة الاحتلال.
في يوم قتل رابعة، لم يقتل فقط 1300 من المعتصمين، بل ما قتل حقيقة هو الثورة الشعبية، أو على الأقل مرحلة منها، كما قتلت أيضا الروح الشعبية الطامحة لكرامة تصل إلى عنان السماء.
بعد رابعة، بدأ انهيار الثورات الشعبية واحدة تلو الأخرى، ورأت أنظمة الثورات المضادة أنها فازت بالجائزة الكبرى وهي مصر، واعتقدت أنها قادرة على إنهاء الثورة في تونس، وتخلت عن الثورة السورية، وطعنت الثورة اليمنية، وتلاعبت بالحلم الليبي لبناء وطن حر وكريم، يستحقه هذا الشعب الذي عانى لعقود تحت حكم عائلي بائس ينتمي للقرون الوسطى.
وكما يحصل دائما، فإن فلسطين تخسر عندما يخسر العرب، وقضيتها تتراجع عندما تتراجع أحلام وواقع شعوبها. أصبح القضاء على الوعي العربي الشعبي تجاه فلسطين برنامجا تشتغل عليه دول الثورات المضادة، مستفيدة من تراجع الحالة الشعبية، وسطوة الأمن، وتصاعد ظاهرة التوحش الرسمي ضد الشعوب. صارت هذه الأنظمة تنتقم من فلسطين، وتعذبها من خلال قمع أبناء شعوب المنطقة، “فهذي المتكبرة الثاكل تحضر حين يعذب أي غريب”، كما قال مظفر النواب يوما!
مع غياب الزخم الشعبي، وتراجع الثورات، بدأت أوراق الاعتماد تقدم للاحتلال الصهيوني، دون خوف من ردود الفعل الشعبية، وصار ما كان يقال همسا في الماضي يعلن بكل تبجح، وصارت الخيانة وجهة نظر.
اتفاق الوهم الإماراتي مع الاحتلال، ليس إلا نتاجا لقتل الثورات الشعبية التي ما كان لها إلا أن تنتج زخما ثوريا لصالح فلسطين. هو اتفاق بتوقيت يستفيد من تراجع الروح الشعبية وأحلام الحرية والكرامة التي تعمقت منذ قتل رابعة الشهيدة، رابعة بما تمثله من نموذج للثورة ضد الانقلاب، وبما ترمز إليه من مواجهة الكف للمخرز.
قد تكون الثورات المضادة نجحت في قتل مرحلة من الثورة، وبدأت مرحلة جديدة من العار المستفيد من هذا “النجاح”، ولكن روح الشعوب لن تهزم، وفلسطين ستبقى البوصلة والهدف والقبلة، قبلة العاشقين ليس من العرب والأمازيغ والكرد والبربر والتركمان فقط، بل قبلة العاشقين في جميع العالم.
ستبقى فلسطين تكثيفا كونيا لمعنى مقاومة الشعوب للظلم، مقاومة لن تنتهي باتفاق وهمي، كانت أهم “إنجازاته” إضاءة علم الإمارات على بلدية تل أبيب!
المصدر: عربي 21