“صباح الخير لسكان الإمارات العربية المتحدة من أورشليم القدس، نبارك لكم الاتفاق التاريخي”.. بهذه المقدمة خاطبت الإذاعة الرسمية الإسرائيلية الشعب الإماراتي، مهنئة إياه على اتفاق السلام المعلن عنه بين أبو ظبي وتل أبيب، الذي لا تزال أصداؤه تخيم على أجواء المنطقة والعالم.
وبين شجب واستنكار واتهامات بالخيانة وبيع القضية العربية الأهم من جانب، والتبريكات والتهاني من جانب آخر، تباينت ردود الفعل حيال هذه الخطوة التي لم تكن بالمستغربة في ضوء الهرولة الواضحة على مدار السنوات الماضية بين البلدين للوصول إلى هذه المرحلة التي انتقلت فيها العلاقات من السرية للعلن.
السنوات الماضية شهدت العلاقات الإماراتية الإسرائيلية ازدهارًا لم تشهده منذ نشأة دولة الاحتلال، على الأصعدة كافة، الأمنية والسياسية والعسكرية، بجانب الصعيد الاقتصادي وهو الأبرز حضورًا في المشهد، ومن المتوقع أن يشهد تعزيزًا كبيرًا بعد هذه الخطوة التي ستفتح الباب أمام الشركات الإسرائيلية على مصراعيه لاختراق السوق الخليجية.
وبعيدًا عن ادعاءات حفظ ماء الوجه الصادرة عن أبو ظبي وحلفائها في المنطقة ولجانها الإلكترونية لتبرير هذا الاتفاق، فإن التنسيق الدبلوماسي بين البلدين يعود إلى عام 2008 وفق ما كشف مدير برنامج برنشتاين عن الخليج وسياسة الطاقة في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، سايمون هندرسون، الذي أشار إلى أنه التقى بأحد معارفه من الدبلوماسيين الإسرائيليين في أبو ظبي عام 2008، الذي دخل البلاد بواسطة جواز سفره الإسرائيلي.
هندرسون في تصريحات له أشار إلى وجود الإسرائيليين في الإمارات منذ سنوات طويلة، يتمتعون بكل الميزات والحقوق التي تفوق نظرائهم من الجنسيات الأخرى، كاشفًا النقاب عن وجود بعثة دبلوماسية إسرائيلية سرية في الإمارات منذ عام 2012.
وبعد ساعات قليلة من إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عبر تغريدة على حسابه على”تويتر” عن هذا الاتفاق الذي وصفه بـ”التاريخي” خرجت العديد من المصادر لتشير إلى أن الإمارات لن تكون الدولة الخليجية الأخيرة التي ستوقع اتفاق سلام مع الإسرائيليين، فهناك أنظمة أخرى في الطريق، ووجود سفارة لتل أبيب في بعض العواصم الخليجية مسألة وقت لا أكثر.
3 دول على قائمة الانتظار
ردود الفعل العربية عامة والخليجية على وجه الخصوص حيال الخطوة الإماراتية يزيد من توقعات البعض بأن الفترة القادمة ستشهد حضورًا إسرائيليًا قويًا في منطقة الخليج، وأن محمد بن زايد لن يكون الوحيد الذي يمد يده لمصافحة رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو.
ليس بخاف على أحد حجم وقوة التنسيق والتعاون الإسرائيلي مع بعض دول مجلس التعاون، تجاوز في كثير من مراحله نظيره مع الدول التي بينها وبين تل أبيب اتفاق سلام رسمي كالقاهرة وعمّان، ورغم الفارق في الحالتين، فإن الهرولة الخليجية نحو طرق أبواب الإسرائيليين كانت انعكاسًا صادقًا وكاشفًا عما هو قادم.
أصوات إسرائيلية تتوقع انضمام إمارات خليجية جديدة لسباق التطبيع الرسمي، وهو ما أكده مصدر إسرائيلي رفيع المستوى لهيئة الإذاعة الإسرائيلية، “كان” (رسمية) حين أشار إلى أنه “يتوقع أن تكون دولة البحرين الدولة المقبلة التي ستعلن إقامة علاقات رسمية مع دولة إسرائيل” بحسب صحيفة “القدس العربي“.
مصدر أمريكي آخر انضم للإسرائيلي في توقع انضمام دول أخرى لهذا المضمار الذي يبدو أنه سيتسع لمسارات عدة، حيث أشار إلى أن “البحرين وسلطنة عمان ستنضمان للإمارات العربية المتحدة في إعلان العلاقات بين هذه الدول وبين دولة الاحتلال، قريبًا”، بينما ذهبت مصادر أخرى إلى انضمام السودان، وفق الإذاعة العبرية.
ورغم ما تحمله هذه الخطوة من خطورة وما تعكسه من دلالات ربما تغير الخريطة السياسية للمنطقة العربية، دفعت غالبية الدول إلى إعلان موقفها، تأييدًا أو استنكارًا، إلا أن اللافت للنظر التزام السعودية الصمت، وعدم إبداء أي رد فعل حتى كتابة هذه السطور، فهل تخشى الرياض من ردة فعل تضعها في مأزق مستقبلًا؟
أمر حتمي.. ولكن
الحديث عن تطبيع علني بين السعودية و”إسرائيل” بات الملف الأبرز بعد الخطوة الإماراتية وهو ما عبر عنه كبير مستشاري الرئيس الأمريكي وصهره، جاريد كوشنر، حين قال، تعليقًا على تويتة ترامب، إن تطبيع العلاقات بين “إسرائيل” والسعودية “أمر حتمي”.
كبير مستشاري ترامب في مقابلة تليفزيونية له بعد يوم واحد فقط من إعلان الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي أضاف أن الرياض وتل أبيب “ستكونان قادرتين عندها على القيام بأمور عظيمة كثيرة”، فيما نقلت “رويترز” عن مسؤول كبير في البيت الأبيض قوله إن كوشنر والمبعوث الأمريكي للشرق الأوسط آفي بيركوفيتش على اتصال مع دول عديدة بالمنطقة، في محاولة لمعرفة إذا كانت هناك اتفاقات تطبيع أخرى ستوقع.
وأضاف المسؤول “هناك العديد من الدول التي كنا على اتصال بها خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية حرفيًا”، وتابع “نحن على اتصال بمسؤولين من دول عديدة، عربية وإسلامية، في الشرق الأوسط وإفريقيا”، لكنه لم يفصح عن أسماء تلك الدول.
وعن معوقات التطبيع العلني بين الرياض وتل أبيب نقل الملياردير اليهودي الأمريكي حاييم سابان – الذي توسط من أجل إبرام اتفاق السلام بين الإمارات و”إسرائيل”- عن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان قوله إنه يخشى من مهاجمة القطريين والإيرانيين حال إبرامه اتفاق سلام علني مع دولة الاحتلال.
كما كشف وسيط السلام الإماراتي الإسرائيلي أنه التقى على مأدبة عشاء ولي عهد المملكة وسأله: لماذا يبقي العلاقات مع “إسرائيل” تحت الرادار؟ ولماذا لا يخرج ويقود الأمور؟ فأجاب ولي العهد السعودي بأنه يستطيع أن ينفذ ذلك في لحظة، لكنه يخشى من مهاجمة القطريين والإيرانيين له، كما يخشى من حدوث فوضى داخل بلاده أيضًا، وذلك طبقًا لحديثه لصحفية “يديعوت أحرونوت” العبرية.
تلقيت العديد من الاشادة بالتغريدات التي اطلقتها خلاا اليومين الماضيين من مواطنيين وخليجيين حول تأييد قرار صناعة السلام الذي تؤيده دولتنا في العلاقات مع الشعب الاسرائيلي .. القضية ليست قضية رؤوساء ..الحكام يتغيروون الباقيه هي الشعوب
— ضاحي خلفان تميم (@Dhahi_Khalfan) August 15, 2020
زواج ينقصه الإشهار
منذ قدوم محمد بن سلمان على رأس السلطة الحاكمة في المملكة، كونه وليًا للعهد والحاكم الفعلي للبلاد، والرجل يسير نحو التطبيع الكامل في العلاقات مع دولة الاحتلال عبر خطط سياسية وإعلامية واقتصادية مدروسة بعناية، وعليه شهدت العلاقات خلال الأعوام الأربع الماضية تنسيقًا لم تشهده منذ قيام دولة الاحتلال.
الخطط التي خط ابن سلمان حروفها الأولى ودعمتها حكومة الكيان الصهيوني تتمحور حول تقريب وجهات النظر عبر اختلاق أرضيات مشتركة بين الطرفين تسمح في النهاية بالوصول لمرحلة “التطبيع الكامل” وهي النقطة التي يبدو أنها لم تعد بعيدة.
العديد من الشواهد التي شهدتها المملكة خلال الآونة الأخيرة تذهب في هذا الاتجاه، تعززت بصورة كبيرة منذ مايو 2017 وحتى اليوم، البداية كانت مع زيارة ترامب للرياض بعد أقل من أربعة أشهر على تنصيبه رئيسًا، حيث شهدت عملية السلام العربي الإسرائيلي مساحة كبيرة من النقاشات مع الجانب السعودي.
وبعد الزيارة بأيام قليلة انتقل ما دار في كواليس الزيارة إلى منصات السوشيال ميديا، لتبدأ اللجان الإلكترونية المدعومة من نظام الحكم في المملكة بالترويج لمسألة التطبيع بشكل رسمي، وهنا ظهر وسم “سعوديون مع التطبيع” نقل عن بعض مواطني المملكة رغبتهم في بناء علاقات طبيعية مع دولة الاحتلال بدعوى مواجهة إيران.
وفي محاولة سعودية لإبراز نواياها الحقيقية تجاه “إسرائيل” وفكرة التقارب معها سياسيًا، اعترض رئيس مجلس الشورى السعودي، عبد الله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ، على توصية جاء فيها أن من أهم خطوات دعم الفلسطينيين وقف كل أشكال التقارب والتطبيع مع المحتل الإسرائيلي، وذلك خلال تلاوة البيان الختامي لمؤتمر الاتحاد البرلماني العربي الذي عقد في العاصمة الأردنية عمان، مارس 2019.
وفي 5 ديسمبر 2019 احتفت وسائل الإعلام العبرية بالزيارة التي قام بها يهوديان إلى العاصمة السعودية الرياض، وسط حفاوة كبيرة من السعوديين، حسبما أشارت هيئة الإذاعة العبرية الرسمية، فيما نشرت صفحة “إسرائيل بالعربية” التابعة لوزارة الخارجية الإسرائيلية صور الزيارة معلقة عليها بأنها تأتي “نتيجة كسر حواجز الشك المبنية على مدى عقود”.
مؤشرات التطبيع بلغت ذروتها في 26 يناير 2020، حين أعلنت تل أبيب السماح لمواطنيها بزيارة السعودية، بعدما وقَّع وزير داخلية الاحتلال الإسرائيلي، أرييه درعي، على قرار يسمح للإسرائيليين بزيارة السعودية، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يسمح فيها رسميًا للإسرائليين بزيارة المملكة.
حالة من التحول انتابت المزاج الشعبي السعودي هو الآخر، الذي بات ينظر قطاع كبير منه لـ”إسرائيل” على أنها دولة حليفة، من الممكن أن تقوي شوكة المملكة إقليميًا في مواجهة التهديدات التي تواجهها، حتى إن بعض النشطاء والكتاب والإعلاميين السعوديين باتوا يغازلون تل أبيب بصورة علانية ودون أي قلق من الملاحقة أو التوبيخ.
الكاتبة السعودية سكينة المشيخص، في لقاء خاص لها مع قناة “مكان” العبرية، في أغسطس الماضي، قالت نصًا: “لا توجد لدينا مشكلة سياسية مع “إسرائيل”، “إسرائيل” لم تطلق علينا حتى رصاصة”، وتعليقًا على فكرة زيارة “إسرائيل” مستقبلًا، أضافت “الزملاء الذين زاروا “إسرائيل” استفادوا بأن رأوا “إسرائيل” من الداخل، وأنا مستعدة أن أزور “إسرائيل” في المستقبل، بالتأكيد”.
ووفق تلك الشواهد فإن العلاقة بين السعودية و”إسرائيل” ليست بحاجة إلى اتفاق سلام ينقلها من السر للعلن، فهي واضحة كالشمس في رابعة النهار، غير أنها أشبه بزواج عرفي ينقصه الإشهار، ولعل ما قام به الحليف المقرب من ابن سلمان، ولي عهد أبو ظبي، من إشهار لتلك العلاقة السرية، أزال كثيرًا من الحرج عنه، وخلق بيئة مناسبة لتقبل تكرار التجربة ذاتها، وهذا من الممكن أن يكون حافزًا للأمير الشاب، طالما أن في ذلك مزيدًا من التقرب والتودد لسيد البيت الأبيض الذي يدعمه وبقوة لخلافة والده على عرش المملكة.
إيران ومخطط الـ13 عامًا
“التحالف من أجل مواجهة إيران”، هذا هو الشعار الذي ترفعه العواصم الخليجية الساعية إلى الارتماء في أحضان نتنياهو، ساعية من خلاله إلى دغدغة مشاعر شعوبها خوفًا من الانتفاضة ضدها، لكن يبدو أن هذا التخوف بدأ في الانحسار في ظل القبضة الأمنية المشددة والتنكيل البيّن بالمعارضين في الداخل والخارج.
وبالعودة إلى الخلف قليلًا وبالتحديد إلى 2007 حين بدأت وسائل إعلام خليجية في شن حملة لحث واشنطن على القيام بهجمات ضد إيران، شاطرتها في هذا الاتجاه تل أبيب، يلاحظ أن مخطط خلق فزاعة إيران كان الهدف منه تقصير الخطى بين دول الخليج و”إسرائيل”.
وعبر إستراتيجيات الانسحاب التكتيكي وإلقاء الكرة في ميدان المواجهات، نجحت أمريكا في إثارة مخاوف دول الخليج من تكرار مشهد العراق الذي وقع جزء كبير منه تحت قبضة الدولة الإسلامية ومليشياتها، عززته بتفاصيل الصراع في الخريطة السياسية اللبنانية، عقب فتح الباب أمام بسط “حزب الله” الموالي لإيران نفوذه على كثير من خيوط اللعبة هناك.
وعلى مدار السنوات الماضية نجح المخطط الأمريكي في بث الرعب في نفوس حكام الخليج من الغول الإيراني الساعي للهيمنة على ممالك الخليج وإماراتها، وهو ما دفعهم للاحتماء بالبيت الأبيض الذي وجد في ذلك فرصة سانحة لإنعاش خزائنه بمئات المليارات جراء صفقات التسليح التي أغنت الأمريكان عن الانخراط المباشر في المشهد وما له من مخاطر، وهو التحرك الذي طالما كان مثار اعتراض الشارع الأمريكي.
ومع مرور الوقت نصبت تل أبيب نفسها كبديل عن واشنطن دفاعًا عن كراسي حكام الخليج، وعليه فطنت الأنظمة في تلك الدول إلى تلك المعادلة الجديدة التي تحولت فيها “إسرائيل” إلى نموذج يحتذى من بعض الحكومات في مجلس التعاون.
السنوات الماضية أسقطت الأقنعة عن الكثير من الوجوه التي طالما حملت لواء العروبة ونصرة القضية الفلسطينية، كما أطاحت بورقة التوت عن بعض الأنظمة التي افتضحت ميكافيللتها بصورة فجّة، ضاربة بكل مرتكزاتها الوطنية الثابتة عرض الحائط.
الإعلان عن اتفاق سلام رسمي بين الإمارات و”إسرائيل” لن يغير من الواقع شيئًا، الأمر ذاته لو حدث مع الرياض والمنامة ومسقط والخرطوم، فالتنسيق بين الطرفين المتنامي على مدار سنوات مضت ليس بحاجة لاتفاق يشرعن وجوده، كما أنه لن يؤثر في مسار القضية الفلسطينية، غير أن مثل تلك الخطوات تُظهر الوجه الحقيقي لتلك الدول وتضع الجميع أمام مسؤوليته وصورته الواقعية أمام الشعوب التي طالما تم تخديرها عبر شعارات جوفاء.