ناقش اجتماع اللجنة التنفيذية لحزب العدالة والتنمية (MYK) في شهر يونيو/حزيران الماضي تقريرًا من 92 صفحة قدمه نائب رئيس الحزب ومسؤول الإعلام والدعاية ماهر أونال، تناول التقرير إستراتيجية وتصورات حزب العدالة والتنمية للعمل في المجال الافتراضي، وذلك من خلال التعريج إلى الأهمية المتزايدة التي تلعبها وسائل التواصل الاجتماعي في توجيه الرأي العام التركي بشكل عام وفئات الشباب بشكل خاص.
وفي هذا الإطار قدم التقرير نموذج مقدم البرامج والفنان المشهور أجون أليجالي الذي استطاع في شهر مايو/أيار الماضي كسر الرقم القياسي العالمي لعدد مشاهدي البث المباشر على الإنستغرام الذي احتفظ به مغني الراب العالمي دانييل هيرنانديز المعروف باسم 6ix9ine بمليوني مشاهد، أما أجون أليجالي فقد حقق 3 ملايين مشاهد، أي ما يعادل عدد مشاهدي إحدى القنوات الفضائية التقليدية، مع ملاحظة مدى تأثر الفئات الشابة وخاصة المراهقة منها بأجون، هذا الأمر دفع وسائل الإعلام التركية إلى تسمية التقرير بـ”تقرير أجون أليجالي”.
لقطة شاشة للبث المباشر الذي قام به أجون أليجالي وشاهده 3 ملايين شخص على الإنستغرام
لاحقًا شكلت الأفكار المقدمة والآليات المقترحة في التقرير المادة الأساسية والمرجعية لقانون “وسائل التواصل الاجتماعي” الذي قدمه حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية وأقره البرلمان التركي في شهر يوليو/تموز الماضي، وتضمن القانون عددًا من المواد المتعلقة بترتيب وتنظيم عمل شركات وسائل التواصل الاجتماعي في تركيا، وضبط علاقتها بمؤسساتها الدولة التركية من خلال مواءمة المحتوى المقدم من هذه الشركات بالقوانين التركية.
من الوطن الأزرق إلى الوطن السيبراني
يعد مصطلح الوطن السيبراني “siber vatan” من أهم المفاهيم التي نظر إليها التقرير، واستند في مقاربتها إلى إستراتيجية الوطن الأزرق “mavi vatan” التي وضعها الأميرال البحري المتقاعد جيم جوردينيز، ونظر من خلالها إلى الإستراتيجية التركية الواجب اتباعها في حفظ سيادتها على حدودها البرية والبحرية خاصة في ظل النزاع والخلاف مع دول شرق المتوسط على ترسيم الحدود الاقتصادية البحرية.
واستنادًا إلى هذه الإستراتيجية وقعت الحكومة التركية اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الليبية، وعلى غرار إستراتيجية الوطن الأزرق التي تحفظ سيادتها البحرية تأتي إستراتيجية الوطن السيبراني “siber vatan” لحفظ سيادة الدولة التركية على فضائها الإلكتروني.
يبدأ التقرير في التنظير لمفهوم السيادة وعلاقته بالتطور التكنولوجي بدءًا من العصر الصناعي الأول الذي تشكل بموجبه مفهوم السيادة على البر والبحر مرورًا بالعصر الصناعي الثاني الذي تطورت بموجبه مفاهيم السيادة لتشمل المجال الجوي وليس انتهاءً بعصر الصناعات الفضائية حين أصبح المجال الفضائي جزءًا من السيادة الوطنية، وفي عصر البيانات الرقمية، أصبح من الضروري أن يشمل مفهوم السيادة المجال الرقمي وتفاعلاته وما يتصل به من مدخلات ومخرجات.
بالتالي فمن الواجب إعادة تنظيم وجود الدولة في هذا المجال بما يتناسب مع خصائصها السيادية، وفي هذا الإطار يقسم التقرير تجارب الدول في فرض سيادتها على المجال الرقمي إلى قسمين أساسيين: الأول تقف الصين وروسيا على رأسه حيث تلعب أجهزة الدولة في هذه البلاد دورًا مركزيًا في إدارة وترتيب المحتوى الرقمي، أما القسم الثاني فهو الدول الغربية والاتحاد الأوروبي، حيث تعتمد هذه الدول على البنية التشريعية والقانونية في ضبط المحتوى الرقمي المقدم.
ماهر أونال
الوعي الرقمي وتحدي صناعة المحتوى
تسعى الإستراتيجية التي اقترحها ماهر أونال إلى تقديم استجابة للتحدي الرقمي على مستوى الدولة التركية أولًا وحزب العدالة والتنمية ثانيًا، فعلى صعيد الدولة التركية فإن التحدي الأساسي الذي تواجهه يتمثل في قدرتها على ضبط عمليات صناعة المحتوى وتداوله في مجال الدولة الرقمي بما يتوافق مع المنظومة القانونية بدايةً وقيم الجمهورية وسيادتها، بالإضافة إلى حماية أمنها القومي ومنع تحوله إلى أدوات للتاثير في سلامة وأمن التفاعل السياسي الداخلي.
أما على صعيد حزب العدالة والتنمية، فيتمثل التحدي في استقطاب جيل “Z” والتأثير عليه خاصة في ظل وجوده القوي والواسع على وسائل التواصل الاجتماعي وإمكانية تأثيره وتأثره بالمحتوى الرائج، الأمر الذي يفرض على حزب العدالة والتنمية العمل على إنتاج محتوى قادر على المنافسة والتأثير، بالإضافة إلى تحييد وعزل المحتوى المضاد.
بناءً على ما سبق، قسمت الإستراتيجية المقدمة مراحل العمل إلى أربع مراحل:
المرحلة الأولى: تقوم على التركيز على رفع الوعي الأخلاقي وتعزيزه لدى مستخدمي الشبكة ووسائل التواصل الاجتماعي، وفي هذا السياق قدم الحزب مقترحًا من 12 مادة للنهوض بالجانب الأخلاقي في المجال الرقمي.
المرحلة الثانية: تقوم على التركيز على رفع الوعي الرقمي لدى مستخدمي الشبكة ووسائل التواصل الاجتماعي، وتحديدًا لدى أفراد الجيل “Z”، وفي هذا السياق تركز هذه المرحلة على محاربة “الإشاعات والأخبار الكاذبة”.
المرحلة الثالثة: تقوم على رفع الوعي المحلي والعالمي بقضايا الشبكة ووسائل التواصل الاجتماعي بالإضافة إلى البدء في إعداد مشاريع القوانين ذات الصلة.
المرحلة الرابعة: تقوم على إقرار وسن القوانين الناظمة للمجال الرقمي في تركيا.
وعلى صعيد الإجراءات العملية، أعلن حزب العدالة والتنمية في شهر يونيو/حزيران الماضي تأسيس مكتب متابعة وسائل الإعلام الرقمية “Dijital Medya Takip Merkezi” وذلك في إطار مركز متابعة الإعلام التابعة لدائرة الدعاية والإعلام في الحزب، ومن المقرر أن يقدم المكتب الجديد خدماته لنواب الحزب في البرلمان التركي وأعضاء اللجنة التنفيذية ومجلس الحزب وكوادره القيادية، بالإضافة إلى متابعة عمليات صناعة المحتوى الخاص بالحزب ومتابعة المحتوى المضاد والأخبار الكاذبة والإشاعات.
ووفقًا لماهر أونال نائب رئيس الحزب ومسؤول ملف الدعاية والإعلام، فإن المكتب يرتكز في عمله على مليوني شخص من أعضاء حزب العدالة والتنمية منتشرين على مستوى تشكيلات الحزب في المدن والأحياء حيث يعمل المكتب كجهة صانعة وموزعة للمحتوى.
مكتب متابعة الإعلام الاجتماعي في حزب العدالة والتنمية
قانون وسائل التواصل الاجتماعي
مرر البرلمان التركي مشروع قانون “تنظيم وسائل التواصل الاجتماعي” وذلك بدعم من حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية. ضم القانون عددًا من المواد المتعلقة بتنظيم وترتيب عمل شركات وسائل التواصل الاجتماعي في تركيا، وجاءت أهم بنود القانون في التالي:
1- تعريف شركات التواصل الاجتماعي كـ”مزودي الشبكة الاجتماعية”: ووفقًا لمشروع القانون فإنه يتم التفريق بين مزود خدمة الإنترنت “شركات الإنترنت” ومزود خدمة “مواقع التواصل الاجتماعي”، بحيث تتحول شركات التواصل الاجتماعي إلى هيئات قانونية تمثل أمام هيئة التكنولوجيا والاتصالات التركية كشركات مزودة لخدمات التواصل الاجتماعي.
2- إزالة المحتوى المخالف خلال 4 ساعات: وفقًا لمشروع القانون فإن الشركات المزودة لخدمات التواصل الاجتماعي ملزمة بإزالة المحتوى المخالف خلال 4 ساعات من تبليغها من الهيئات والشركات المختصة.
3- وجود ممثل عن الشركات المزودة لخدمات “التواصل الاجتماعي”: يفرض مشروع القانون الحاليّ على الشركات “المزودة لخدمات التواصل الاجتماعي” أن تعين ممثلًا واحدًا على الأقل أمام هيئة التكنولوجيا والاتصالات التركية على أن يكون مواطنًا تركيًا.
4- وفي حال عدم تعيين الشركات المزودة لخدمات التواصل الاجتماعي ممثلًا لها خلال 30 يومًا من أخطارها، تفرض هيئة التكنولوجيا والاتصالات التركية غرامات تصل إلى 10 ملايين ليرة تركية، وفي حال استمرت في تجاهل القرار تصل العقوبة الإدارية إلى 30 مليون ليرة تركية، ولاحقًا وفي حال استمرار الشركات المقدمة للمحتوى بتجاهل الأمر فإنه يحق لهيئة التكنولوجيا والاتصالات التوجه نحو محكمة الصلح والتدرج في القرارات حتى الحظر الكامل.
أمام الدولة التركية تحد كبير يتمثل في القدرة على تقديم أداء مهني يتجاوز الاعتبارات السياسية في عملية التعامل مع المحتوى الرقمي
5- يفرض مشروع القانون على الشركات المزودة لخدمات التواصل الاجتماعي التفاعل مع الطلبات التي تقدمها الهيئات المعنية خلال 48 ساعة من تقديم الطلب، وفي حال رفض هذه الشركات إزالة المحتويات المخالفة، فإنه من حق الدولة فرض غرامات مالية وإدارية على هذه الشركات.
ختامًا.. هل تتجه تركيا إلى تقييد المجال الرقمي؟
أثار قانون وسائل التواصل الاجتماعي الجدل داخل وخارج تركيا بشأن مستقبل النشطاء الرقمي، حيث اتهمت بعض الجهات الدولة التركية بالسعي والعمل على تضييق المحتوى الرقمي، الأمر الذي نفته الحكومة التركية التي أكدت أن القانون جاء في إطار مسعى الدولة التركية لتنظيم التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي، مستشهدة بقوانين مشابهة موجودة في عدد من الدول الأوروبية كفرنسا وألمانيا، أي أن الدولة التركية اختارات الطريقة الغربية المستندة إلى تعاون الشركات مع البنية القانونية في الدول الفاعلة فيها، دون أن تذهب إلى الطريقة الصينية في التعامل التي تقوم على تدخل الدولة بأجهزتها في عمليات ضبط ومراقبة التفاعل العام على وسائل التواصل الاجتماعي.
رغم ذلك فإن أمام الدولة التركية تحديًا كبيرًا يتمثل في القدرة على تقديم أداء مهني يتجاوز الاعتبارات السياسية في عملية التعامل مع المحتوى الرقمي.