تستوقفنا الكويت في كل مرة تعلن فيها بملئ فمها تأييدها الصريح والواضح للقضية الفلسطينية، وتعيد الزهو العربي حين تؤكد أن قضية فلسطين “قضية مركزية في السياسة الكويتية”، فيما تلح بعض الدول العربية على التعامل مع العدو الإسرائيلي كصديق للأمن والسلام، وآخرها دولة الإمارات العربية التي قررت التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي رسميًا بعد سنوات من التقارب المتستر.
استقبلت الأنظمة العربية هذه الخطوة إما بصمت أو باحتفاء أو برفض قاطع، وكانت الكويت إحدى الدول التي لم تدل حكومتها أو ديوانها الملكي بتصريح رسمي، لكن ذكرت مصادر حكومية كويتية مطلعة لصحيفة “القبس” أن “موقف الكويت من التطبيع مع الكيان الصهيوني ثابت، ولن يتغير”، وذلك بالتزامن مع إصدار سبع قوى سياسية كويتية بيانًا مشتركًا يقول: “نعلن بشكل لا يقبل اللبس، أن التطبيع خيانة وليس وجهة نظر، والاعتراف بالكيان الصهيوني (إسرائيل) هو جريمة بحق فلسطين وأهلها والأمة العربية والإسلامية”.
لاقت هذه التصريحات انتقادًا مباشرًا من جاريد كوشنر كبير مستشاري الرئيس الأمريكي الذي وصف الموقف الكويتي بـ”المتطرف”، وسابقًا قال لسفير الكويت في واشنطن عام 2018 إن بلاده “خارج الإجماع العربي”، رغم أن مواقفها جميعها تجاه القضية الفلسطينية هي المعنى الحقيقي للإجماع العربي.
مصر العظيمة دمرها الصهاينة بعد التطبيع ومازالت تعاني أقتصادياً..
الأردن طبعت معهم ولم تستفيد ولم تستغني عن دعم الأشقاء العرب والكويت وصندوقها أولهم ..
موريتانيا تعتاش على قروض الصندوق الكويتي والسعودي ..
عيب علينا هذا الكيان السخيف يعبث بنا بهذا الشكل.#كويتيون_ضد_التطبيع
— صالح محمد الملا (@SalehAlmulla) August 14, 2020
إضافة إلى إطلاق رواد مواقع التواصل الاجتماعي في الكويت هاشتاغ #كويتيون_ضد_التطبيع الذي تصدر قائمة أكثر الوسوم انتشارًا خلال ساعات من إعلان قرار التطبيع الإماراتي، ومن خلاله أكد المستخدمون تمسكهم بالقضية الفلسطينية ودعمهم للشعب الفلسطيني بخلاف الشعوب الإماراتية والسعودية التي لم يكن لها صدى على المنصات الافتراضية خوفًا من الاعتقالات الحكومية بسبب تعبيرها السلمي عن آرائها السياسية المختلفة لموقف السلطات.
الكويت: القضية الفلسطينية قضية مركزية
جعل مؤتمر “وارسو” للسلام في الشرق الأوسط، الذي عقد العام الماضي في العاصمة البولندية يومي 13 و14 من فبراير/شباط بهدف التصدي لنفوذ إيران في المنطقة، الحقائق الجيوسياسية في الشرق الأوسط أكثر وضوحًا، فهذه القمة كانت أول محفل دولي يجمع عربًا وإسرائيليين منذ المحادثات التي شهدتها العاصمة الإسبانية مدريد في تسعينيات القرن الماضي، حيث شاركت أكثر من 40 دولة في العالم، ومن بينها عشر دول من الشرق الأوسط هي: السعودية والإمارات والبحرين ومصر واليمن والأردن والكويت والمغرب وسلطنة عمان.
ورغم دعوة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، السلطة الفلسطينية للمشاركة، فإنها رفضت الحضور لاعتبارها أن المؤتمر محاولة لتجاوز مبادرة السلام العربية، وتدمير المشروع الوطني الفلسطيني، عدا عن كونه “دعاية أمريكية إسرائيلية للترويج لأفكار لا يقبلها أو يتعاطى معها إلا كل خائن للقدس والأقصى وكنيسة القيامة”.
أعطت الممالك الخليجية “إسرائيل” المزيد من الثقة في قدرتها على تسجيل نقاط دبلوماسية وسياسية في العالم العربي والإسلامي دون تقديم تنازلات للفلسطينيين
ساند مصطفى البرغوثي الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية هذا الموقف، ورأى أن “مؤتمر وارسو يسعى عمليًا لإعادة رسم خريطة الصراعات والتحالفات في العالم والشرق الأوسط، ولا يخفي أقطابه سعيهم لجعل “إسرائيل” دولة شقيقة للمحيط العربي، على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، ومع استمرار ترسيخ الاحتلال ونظام الأبرتهايد العنصري ضد الفلسطينيين”.
وسرعان ما تحولت هذه الاعتقادات والمخاوف إلى واقع، فمن إحدى نتائج القمة أنه في أعقاب زيارات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى عُمان وتشاد، أعطت الممالك الخليجية “إسرائيل” المزيد من الثقة في قدرتها على تسجيل نقاط دبلوماسية وسياسية في العالم العربي والإسلامي دون تقديم تنازلات للفلسطينيين.
يبني المسؤولون الإسرائيليون هذه الثقة من خلال اعتمادهم على صيحات المناهضة لإيران وخوف معظم حكام دول مجلس التعاون الخليجي من دور إيران في زعزعة استقرار المنطقة وتهديد أمن أنظمتهم الملكية أكثر من أي عمل عدواني أو انتهاك ترتكبه “إسرائيل” ضد فلسطين المحتلة أو سوريا أو لبنان، وهو ما شجع المحتل الإسرائيلي على دق أبواب الممالك الخليجية بكل جسارة، خاصةً بعد مناقشة هذه القضية في مؤتمر “وارسو” وانفتاح قادة الخليج العربي على فكرة أن “إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها ضد العدوان الإيراني”.
نوقشت هذه الفكرة بصدق ووضوح خلال القمة، إذ ذهب أحد الدبلوماسيين البحرينيين إلى حد القول إن إيران تمثل “تحديًا سامًا” للشرق الأوسط أكثر من احتلال “إسرائيل” لفلسطين، وبهذا التصريح انتهى مظهر دول مجلس التعاون الخليجي الستة الداعمة لحقوق الفلسطينيين في العاصمة البولندية، وخرج الحكام من المؤتمر برؤية مشتركة ملخصها أن “الوجود الإيراني أكثر خطورةً من المحتل الإسرائيلي”.
حينها صرح نتنياهو للصحفيين بأن “رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزراء خارجية الدول العربية الرئيسية وقفوا معًا وتحدثوا بقوة غير عادية ووضوح ووحدة ضد التهديد المشترك للنظام الإيراني”.
ونتيجة لذلك، أدانت الفصائل الفلسطينية المختلفة القادة الذين شاركوا نتنياهو المنصة في بولندا ومنهم جمال محيسن، عضو اللجنة المركزية لفتح، الذي انتقد مؤتمر “وارسو” من خلال التأكيد أن المسؤولين الأمريكيين “يحاولون إخضاع الفلسطينيين وممارسة ضغوط سياسية ومالية على القيادة الفلسطينية لإجبارها على قبول خطة ترامب”، ومن حركة حماس، وصف القيادي يحيى موسى جميع المسؤولين العرب الذين حضروا القمة بالـ”خونة”.
ومع ذلك حافظت الكويت على موقفها في عدم ذوبان الجليد في العلاقات مع “إسرائيل”، مواصلة تعاملها مع المحتل الإسرائيلي كقوة استعمارية، فبعد مرور ثلاثة أيام على المؤتمر، كرر رئيس مجلس الأمة الكويتي مرزوق الغانم “موقف الكويت المبدئي والحازم” المعارض لتطبيع العلاقات مع “إسرائيل”، مؤكدًا أن الكويت كانت واحدة من الدول العربية القليلة التي لم تستسلم للضغوط.
خالد الجارالله: من المؤلم أن يكون هناك تشكيك في الموقف الكويتي حيال القضية الفلسطينية وموقف الكويت منذ البداية كان ولا يزال داعم للقضية الفلسطينية على كافة المستويات#الكويت #كونا
(أ.ف)
— كـــــــــــونا KUNA (@kuna_ar) February 17, 2019
وردًا على صورة من وارسو ضمت دبلوماسيًا كويتيًا مع مسؤولين عرب وإسرائيليين آخرين، أكد نائب وزير الخارجية الكويتي خالد الجارالله أن الصورة الجماعية لا تدل على أي تغيير في موقف الكويت تجاه “إسرائيل” وأنها “ستكون آخر من يطبع معھا”، معلنًا أن المراقبين “أخطأوا في الاعتقاد بأنه يمكن اختزال التطبيع في صورة جماعية”، وبرر مشاركة بلاده بكون مؤتمر “وارسو” محفلًا كبقية المحافل الدولية العديدة والأخرى التي تشارك فيها، وتكون “إسرائيل” موجودة في هذا المحفل سواء كان في إطار الأمم المتحدة أم مستويات أخرى عديدة.
وتبعت هذه التصريحات العديد من المواقف والمناورات الدبلوماسية ضد “إسرائيل” في سياسة الكويت الخارجية التي تؤكد من خلالها رفضها الانضمام إلى اتجاه دول مجلس التعاون الخليجي في الاقتراب من المحتل الإسرائيلي.
اتضح ذلك، عندما أرادت “إسرائيل” من مجلس الأمن أن يطالب لبنان بعدم السماح باستخدام أراضيه ومواطنيه لشن هجمات “عدوانية”، وذلك في إطار دعمها في الدفاع عن نفسها ضد العدوان الإيراني، وتبعًا للمعطيات انحازت الكويت إلى جانب لبنان في جلسة طارئة عقدها مجلس الأمن الدولي أواخر العام 2018 لمناقشة موضوع “أنفاق حزب الله”، حين أكدت أن عملية “الدرع الشمالية الإسرائيلية” أكثر تهديدًا للمنطقة من “حزب الله”، وكان هذا الموقف متناقضًا مع حكومة البحرين التي قدم فيها وزير الخارجية دعمه إلى تل أبيب ضد القوة الشيعية المهيمنة في لبنان والمدعومة من طهران.
أبرز أوجه الدعم الكويتي للقضية الفلسطينية
ساهمت الكويت في دعم القضية الفلسطينية بكل الأدوات التي تملكها، فقد تمكنت من خلال عضويتها المؤقتة في مجلس الأمن تحقيق بعض النجاحات الدبلوماسية، إذ قال مندوب الكويت منصور العتيبي ذات مرة: “دولة الكويت تعهدت قبل أن تتسلم مقعدها غير الدائم في مجلس الأمن مطلع العام 2018 ببذل كل المساعي والجهود لدعم القضية الفلسطينية باعتبارها قضية العرب والمسلمين وأن هذا التعهد يأتي انطلاقًا من التزام الكويت في حمل هموم وتطلعات الشعب الفلسطيني”.
أفشلت الكويت مشروع قرار تقدمت به الولايات المتحدة لمجلس الأمن، يتضمن إدانة لحركة المقاومة الفلسطينية في غزة، وتحديدًا حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي”
ومنذ البداية أعربت الكويت عن اهتمامها بفتح سفارة كويتية في فلسطين، واعتبرت هذه الخطوة مقدمة نشاطات وإنجازات أخرى في إطار دعم القضية الفلسطينية، فقد قدمت مشروع قرار لتوفير حماية دولية للفلسطينيين وتوقف الجيش الإسرائيلي عن “استخدام أي قوة مفرطة وغير متناسبة وعشوائية”، إلا أن واشنطن أجهضت هذا المشروع مع استعمالها حق النقض “الفيتو”.
في المقابل، أفشلت الكويت مشروع قرار تقدمت به الولايات المتحدة لمجلس الأمن، يتضمن إدانة لحركة المقاومة الفلسطينية في غزة، وتحديدًا حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، يضاف إلى ذلك، دعوتها إلى جلسة طارئة لمجلس الأمن عام 2018 لبحث الوضع في غزة بعد قتل “إسرائيل” 62 فلسطينيًا وإصابة أكثر من ثلاثة آلاف آخرين قرب السياج الفاصل بين غزة و”إسرائيل”.
إلى جانب ذلك، اعتمدت الكويت على المقاطعة في التعبير عن موقفها تجاه الشأن الفلسطيني، ففي 24 من يونيو/حزيران دعا مجلس الأمة الكويتي إلى الانسحاب من مؤتمر البحرين باعتباره تمهيدًا لصفقة القرن وتضييعًا للحقوق العربية في فلسطين وتكريسًا للاحتلال الإسرائيلي، ثم تبع هذه الخطوة تصريح من وزير الخارجية الكويتي صباح الخالد يقول فيه: “نقبل ما يقبل به الفلسطينيّون، ولن نقبل ما لا يقبلون به”، كما قاطعت سابقًا مؤتمر ريادة الأعمال الدولي في البحرين في 18 من أبريل/نيسان على خلفية مشاركة وفد إسرائيلي.
أما اقتصاديًا، فقد أعلنت حكومة الكويت عام 2014 أنها لن تتعامل مع 50 شركة بسبب دورها في المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية بالأراضي الفلسطينية المحتلة في خطوة رحب بها نشطاء باعتبارها نجاحًا بارزًا لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS).
وجود عناصر من الكيان الصهيوني مشاركة في مؤتمر ريادة الأعمال في البحرين يستوجب الانسحاب الفوري للوفد الكويتي
ممثّلاً بوزير التجارة خالد الروضان وباقي المشاركين إلتزاماً بموقف القيادة الكويتية والشعب الكويتي الرافض للتطبيع.#خليجيون_ضد_التطبيع
— عبدالله أحمد الكندري (@abalkandari) March 28, 2019
ومع إعلان خطة “صفقة القرن” الأمريكية أبقت الكويت على خطابها التأييدي للقضية الفلسطينية في المنصات الدبلوماسية، إذ أعلن مجلس الأمة (البرلمان) الكويتي، رفضه القاطع، داعيًا إلى اتخاذ موقف عربي وإسلامي ودولي وداعم للشعب الفلسطيني على اعتبار أن هذا الاتفاق “يتضمن تنازلًا مرفوضًا عن الحقوق الفلسطينية والعربية والإسلامية في الأراضي المحتلة”، مؤكدةً أن الحل العادل للقضية الفلسطينية لا يتحقق إلا بقرارات الشرعية الدولية.
القانون الكويتي (صدر عام 1964) يحظر التعامل مع الإسرائيليين أفرادًا وشركات أو التعامل حتى مع من يعملون لمصلحة الاحتلال
وأمام المؤتمر الطارئ للاتحاد البرلماني العربي المنعقد في العاصمة الأردنية عمان، أمسك رئيس مجلس الأمة الكويتي مرزوق الغانم، نسخة من “صفقة القرن” المزعومة، وألقاها في سلة النفايات، مؤكدًا أن تلك الصفقة “ولدت ميتة” و”مكانها مزبلة التاريخ”، ولم يكن هذا المشهد الوحيد الذي حظى باحتفاء الشعوب العربية، فقد سبق أن هاجم الغانم قبل عامين رئيس وفد “إسرائيل” إلى مؤتمر الاتحاد البرلماني الدولي الذي عُقد في روسيا قائلًا له: “اخرجوا من القاعة إن كان لديكم ذرة كرامة.. يا محتلين يا قتلة الأطفال” على الملأ.
بعيدًا عن الدبلوماسية الشكلانية، فإن القانون الكويتي (صدر عام 1964) يحظر التعامل مع الإسرائيليين أفرادًا وشركات ويمنع حتى التعامل مع من يعملون لمصلحة الاحتلال، وهو القانون الذي كان سببًا في تفجير جدلًا في قوانين الطيران، ففي عام 2016 تقريبًا حجز راكب إسرائيلي رحلة من فرانكفورت إلى بانكوك، يتخللها محطة توقف في الكويت، حيث كان من المفترض أن يركب طائرة للخطوط الكويتية تقله إلى وجهته النهائية لكن بمجرد علم الشركة الكويتية بجنسية الراكب، ألغت الحجز مباشرة.
وفي هذه الأثناء، يأتي الموقف الكويتي تجاه التطبيع الإماراتي مع المحتل الإسرائيلي مجددًا كمعز للشعب الفلسطيني الذي يبدو أن الدعاية الأمريكية الإسرائيلية نجحت جزئيًا في تهميش قضيته مقابل توجيه تركيز حكام الخليج على التهديد الإيراني في المنطقة والتعامل مع “إسرائيل” على أنها السبيل الأمثل إلى تحقيق السلام والأمن والازدهار الاقتصادي، مع شرعنة عدوانها المستمر على الفلسطينيين وتجاهل حقيقتها بكونها كيانًا غير شرعي واستعماري في الأساس.