ترجمة وتحرير نون بوست
الرجال الثلاثة الذين رتبوا أول اعتراف عربي بدولة الاحتلال “إسرائيل” منذ ستة وعشرين عامًا كلهم في مأزق، كل في بلده.
يسعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بكافة الطرق المتاحة له للحيلولة دون أن ينتخب مواطنوه الأمريكان بشكل منظم في شهر نوفمبر / تشرين الثاني، لأنه لو اقترع عدد كاف منهم فسوف يخسر، كما تشير استطلاعات الرأي الحالية. أما رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فقد أرهقه تدفق المحتجين للتظاهر أمام منزله بسبب تعامله مع أزمة كوفيد.
أما ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، فقد شاهد المشاريع المحببة إلى نفسه تنهار الواحد تلو الآخر، وتغرق في البحر وقد التهمتها النيران، بدءا بالمحاولة الانقلابية في تركيا، ثم حصار قطر، وأخيرا فشل القوات التي تعمل بالوكالة عنه في ليبيا في الاستيلاء على طرابلس.
كل واحد منهم كان بحاجة إلى خبطة دبلوماسية، شيء يمكن أن تصفه وسائل إعلامهم بالتاريخي. يعرف كل واحد منهم ما الذي يمكن أن يحدث له فيما لو خسر السلطة. بالنسبة لنتنياهو وترامب قد يعني ذلك السجن، وبالنسبة لمحمد بن زايد قد يعني النفي أو الموت. وما علاقة الحب بينه وبين “إسرائيل” إلا بوليصة التأمين على حياته. ثلاثتهم تتداخل مصائرهم وتتشابك بشكل غريب.
احتاج محمد بن زايد إلى إيجاد سند إقليمي بديل، وذلك بعد أن أدرك جيدا تراجع قيمة استثماره في ترامب. فلقد صنع لنفسه ما يكفي من الأعداء داخل المخابرات الأمريكية (السي آي إيه) وداخل البنتاغون (وزارة الدفاع)، ليعلم يقينا أنه في اللحظة التي يغادر فيها ترامب سوف تستعيد الدولة العميقة في الولايات المتحدة مكانتها، وتشرع في الانتقام لذاتها.
احتاج نتنياهو إلى إيجاد استراتيجية للخروج من الاحتجاجات والانسحاب من تحالف بال، وصولا إلى سياسة لا يشاركه في التحكم بها أحد. وإذ يغدر تارة أخرى بمعسكره اليميني من خلال تجميده للضم (رغم أنه لم يتخل عنه تماما)، يتمكن هوديني من الهروب السياسي المتكرر بالإفلات من أغلاله مرة ثانية.
تفاخر في مقطع فيديو بثه عبر حسابه في تويتر قائلا: “لأول مرة في تاريخ البلد، وقعت اتفاق سلام يصدر عن القوة – سلام مقابل السلام. وتلك هي المقاربة التي قدمتها لسنوات: صنع السلام ممكن دون التنازل عن الأراضي، ودون تقسيم القدس، ودون تعريض مستقبلنا للخطر. في الشرق الأوسط، يبقى القوي على قيد الحياة – والشعب القوي يصنع السلام.”
أما ترامب، فاحتاج إلى حركة في السياسة الخارجية تصبح معلما، إلى شيء بإمكانه أن يسميه العائد من رأس المال السياسي الذي أنفقه على صهره جاريد كوشنر. نظرا لأن “صفقة القرن” كانت باستمرار ستلفظ أنفاسها بمجرد وصولها، فقد احتاج ترامب إلى شيء ملموس.
لم تفلح أي من الاتصالات المنتظمة بين الأعداء اللدودين في تغيير رفض “إسرائيل” من قبل الجماهير العربية
نهاية العلاقة
إلا أن هذه الصفقة، التي حازت على دعم كل من المغرب والبحرين وسلطنة عمان والمملكة العربية السعودية، تختلف بشكل أساسي عن اتفاقيات السلام التي أبرمتها “إسرائيل” مع مصر أو مع الأردن، حيث كان كل منهما بدوره بداية العلاقة، وكل واحدة منهما بشرت بمفاوضات أوسع ساقت، إلى حين، أملا في التوصل إلى تسوية عادلة للصراع الفلسطيني.
أما هذه، فهي نهاية العلاقة، فلم تجر مفاوضات حول ذلك خارج أسوار قصور اللاعبين المشاركين. ولن تُجرى انتخابات من أجل الحصول على تفويض من الشعب. لم يقترب أي من الفصائل الفلسطينية العديدة والمشاكسة من شيء من ذلك، لأن الإقدام على ذلك كان سيعني التخلي عن القدس عاصمة للدولة الفلسطينية، والتخلي عن المفاوضات على أساس حدود عام 1967، والتخلي عن حق العودة.
لا شأن لهذه الصفقة بالسلام، لقد قابل الزعماء العرب الزعماء الإسرائيليين بشكل منتظم؛ قابل عاهل الأردن، الملك عبدالله الأول، الزعماء الصهاينة قبل عام 1948، واستمر حفيده الملك حسين في التقليد ذاته. لقد أحصى المؤرخ آفي شليم، الذي ألف كتابا عن سيرة حياة الملك حسين، 42 لقاء له مع نظرائه الإسرائيليين. أما عاهل المغرب، الملك الحسن، فلجأ إلى الموساد حتى يتخلص من خصومه.
لم تفلح أي من الاتصالات المنتظمة بين الأعداء اللدودين في تغيير رفض “إسرائيل” من قبل الجماهير العربية.
لا علاقة لاعتراف الإمارات العربية المتحدة بإسرائيل بالبحث عن حل لإنهاء الصراع، بل يتعلق الأمر بإنشاء نظام إقليمي جديد بين المستبدين والمحتلين – بين المستبدين العرب والمحتلين الإسرائيليين. وبينما تنحسب أمريكا من المنطقة، فثمة حاجة إلى مهيمنين جدد عليها، وها هي “إسرائيل” والإمارات تتقدمان للقيام بتلك المهمة.
يتصور مصممو هذه الصفقة أن التجارة، والاتصالات الهاتفية المفتوحة، والسفر والاعتراف بين “إسرائيل”، وأعني جيرانها في الخليج، سوف تتحول إلى حقائق على الأرض لا تراجع عنها، كما هو حال الطرق الالتفافية التي تتجاوز قرى الفلسطينيين، وكما هو حال المستوطنات ذاتها. لا حاجة لأي مفاوضات. كل ما هو مطلوب رفع الراية البيضاء المعبرة عن الهزيمة.
سوف يكون هناك رد فعل على ذلك بين الفلسطينيين، كما في الشارع العربي بشكل عام، ومن الممكن حاليا التمييز بين توجهين
أنا على ثقة بأن الفلسطينيين لن يلوحوا براية الاستسلام البيضاء اليوم، كما لم يفعلوا في أي وقت من العقود السبعة الماضية. لن يتخلوا عن حقوقهم السياسية مقابل حفنة من المال. ولا تحتاج الخطة من أجل أن تنجح أقل من ذلك.
لو كان هذا الانهيار الأخلاقي سيحدث في أي مكان، لحدث في جيب جوعته “إسرائيل” لأربعة عشر عاما – قطاع غزة. ولا يوجد ما يؤشر على أن المقاومة الشعبية ضد “إسرائيل” تضعف. ولن يحدث ذلك في الضفة الغربية، التي تتمتع نسبيا بقدر أكبر من الحرية. فقد وصفت السلطة الفلسطينية القرار بأنه “خسيس”، وبأنه “خيانة” للشعب الفلسطيني وللقدس وللمسجد الأقصى.
وما يسري من موجة غضب وحنق في الشرايين الفلسطينية تجد صداه في أوساط العرب بشكل عام. وكل محاولة نزيهة لرصد الرأي الشعبي حول هذه القضية تأتي بأجوبة يفضل ترامب ونتنياهو ومحمد بن زايد ألا يسمعوها.
خلال العقد المنصرم، زادت، ولم تنقص، النسبة المئوية للعرب الذين يعارضون الاعتراف الدبلوماسي ب”إسرائيل”. فطبقا لمؤشر الرأي العربي، عارض الاعتراف الدبلوماسي في عام 2011 ما نسبته 84 بالمائة، وبحلول عام 2018 ارتفعت النسبة إلى 87 بالمائة.
عليك فقط أن تراقب رد الفعل
سوف يكون هناك رد فعل على ذلك بين الفلسطينيين، كما في الشارع العربي بشكل عام، ومن الممكن حاليا التمييز بين توجهين.
بين الفلسطينيين، سوف تجبر هذه الصفقة فتح وحماس، الخصمين اللدودين منذ الحرب الأهلية في غزة عام 2007، على أن يرتميا في أحضان بعضهما البعض. بدأ ذلك يحدث على مستوى الشباب منذ فترة، وها هو يحدث الآن على مستوى القيادات أيضا بفضل درجة الغضب والإحساس بالغدر في أعلى قمة الهرم القيادي داخل منظمة التحرير الفلسطينية.
إذا كان نتنياهو وابن زايد على الخط يتحدثان عبر الهاتف، فالشيء ذاته ينطبق على الرئيس الفلسطيني محمود عباس، والزعيم السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية. لقد رحبت حماس برد الفعل القوي من قبل السلطة الفلسطينية على الاتفاق الإماراتي. فقد صرح مصدر في حماس لموقع عربي 21 بأنه يرى في موقف السلطة الفلسطينية فرصة سانحة لعمل سياسي وميداني مشترك في الضفة الغربية وقطاع غزة.”
تنص الوثيقة على أن عودة دحلان إلى الوطن ترتبط بالتوصل إلى اتفاق سلام مع “إسرائيل” بدعم من الدول العربية
إذا كان هذا الإحساس بالغاية المشتركة بين أكبر فصيلين فلسطينيين متنافسين مستداما -علما بأن عباس لم يكن على استعداد في الماضي لقبول أي شريك له في حكم فلسطين- فإننا نشهد بداية نهاية إلقاء القبض على نشطاء حماس في الضفة الغربية على أيدي عناصر الأمن الوقائي الفلسطيني.
كان ذلك يتم في الماضي برئاسة جبريل الرجوب، الذي يحتل الآن منصب الأمين العام لحركة فتح. إلا أن الرجوب اليوم يحضر مؤتمرات صحفية مع نائب رئيس حركة حماس صلاح العاروري، في إشارة إضافية إلى أن التقارب الحاصل بين الفريقين يستجمع مزيدا من الزخم.
في المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقد عبر شبكة الاتصالات مع العاروري، قال الرجوب: “سوف نقود معركتنا معا تحت راية فلسطين لإقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة على حدود 1967، وسوف نحل مشكلة اللاجئين على أساس القرارات الدولية.”
خطة دحلان
ما كان ليغيب رد الفعل ذلك عن توقعات “إسرائيل” وشركائها العرب، لذلك كان جوابهم هو الدفع بمحمد دحلان، القيادي الفلسطيني المنفي/ أو أحد أتباعه، ليكون الرئيس الفلسطيني التالي.
كنت قد كشفت عن هذه الخطة قبل أربعة أعوام، إذ إنها كتبت بالأسود والأبيض في وثيقة تخلص النقاشات التي جرت بين الإمارات العربية المتحدة وكل من الأردن ومصر.
تنص الوثيقة على أن عودة دحلان إلى الوطن ترتبط بالتوصل إلى اتفاق سلام مع “إسرائيل” بدعم من الدول العربية.
جدير بالذكر أن دحلان نفسه، الذي يقيم منفيا في أبوظبي، لم يصرح بشيء حول الاتفاق. إلا أن فصيله داخل فتح، الذي يسمي نفسه “حركة الإصلاح الديمقراطي”، أصدر بيانا يقول فيه إنه “تابع باهتمام كبير البيان الأمريكي الإماراتي الإسرائيلي المشترك، الذي أعلن عن بدء مسار تطبيع العلاقات، والمتضمن تجميد قرار ضم “إسرائيل” لأجزاء من الضفة الغربية المحتلة.”
وأطلق عليه أنصاره خلال نهاية الأسبوع لقب “القائد”.
والنتيجة؟ أحرقت صوره في رام الله بالأمس هي وصور محمد بن زايد.
الإمارات العربية المتحدة سوف تستثمر أموالا من شأنها أن تعزز الاقتصاد الإسرائيلي
في الماضي، لعب دحلان بدهاء على الانقسامات بين حماس وفتح. ولبرهة قصيرة كان هناك كلام حول تقارب بين دحلان وحماس، وذلك بفضل علاقة قديمة انبعثت فيها الروح من جديد بين يحيى السنوار، زعيم حماس داخل قطاع غزة، ودحلان. ويذكر أن الاثنين كانا ذات يوم في الماضي زملاء دراسة. وقد اجتمع الاثنان معا في مباحثات سرية عقدت في القاهرة.
ذهب أدراج الرياح كل ما قام به من أعمال سابقة، بما في ذلك دفع تكاليف الأعراس في غزة، وتكوين الأنصار، وتشكيل المليشيات في مخيم بلاطة. بدعمه للاتفاق، أقدم دحلان على خطوة لا قبل له بالتراجع عنها، وإن كان إدراك هذه الحقيقة سيستغرق وقتا.
في أرجاء الوطن العربي بشكل عام، يتجلى الأثر المباشر الثاني لهذا الإعلان في إدراك أن مطالب الربيع العربي بالديمقراطية في العالم العربي ومطالب الفلسطينيين بالسيادة إنما هي شيء واحد.
لهذه المطالب أعداء مشتركون، وهم المستبدون العرب الذين مارسوا في سحقهم للديمقراطية توحشا غير مسبوق. ولها هدف مشترك ألا وهو المقاومة الشعبية للأوليغاركيين الذين يهيمنون على السلطة، عسكريا واقتصاديا.
لم يكن نتنياهو يبالغ حينما قال، مساء الخميس، عندما أعلن عن الصفقة، إن الاعتراف الصادر عن الإمارات العربية المتحدة سوف يثري “إسرائيل”، وأضاف رئيس الوزراء الإسرائيلي: “هذا أمر بالغ الأهمية لاقتصادنا ولاقتصاد المنطقة ولمستقبلنا.”
وقال إن الإمارات العربية المتحدة سوف تستثمر أموالا من شأنها أن تعزز الاقتصاد الإسرائيلي. بالضبط. فبدلا من استثمار أمواله في الأردن أو في مصر، وكلاهما في حاجة ماسة إلى المال، سوف يبدأ صندوق الثروة السيادي الأغنى في منطقة الخليج بالاستثمار في “إسرائيل”، التي تعتبر بالمقارنة اقتصادا ضخما في قطاع التكنولوجيا المتقدمة.
ما هذا الاتفاق سوى واقع افتراضي، ولسوف يتطاير في مهب الريح بفعل ثورة شعبية جديدة
لا يقتصر الأمر على ازدراء محمد بن زايد للديمقراطية العربية (ومن هنا يأتي قمعه للحركات الديمقراطية الشعبية). بل هو أكثر ازدراء لأبناء شعبه الذين يلقي بهم في بالوعات اقتصاد جديد في عصر ما بعد النفط.
سوف تفشل هذه الرؤية البائسة أسرع من معاهدات الأردن ومصر مع “إسرائيل”، والتي أقيمت هي الأخرى على الرمل، فهي لن تؤدي إلا إلى مزيد من الصراع.
بينما في الماضي كان بإمكان زعماء “إسرائيل” التظاهر بأنهم يقفون متفرجين على جلبة الدكتاتورية في العالم العربي، يربط هذا الآن الدولة اليهودية بالإبقاء على الاستبداد والقمع من حولها. لم يعد بإمكانهم من الآن فصاعدا التظاهر بأنهم ضحايا “جوار جائر”، فقد باتوا عموده الأساسي.
ما هذا الاتفاق سوى واقع افتراضي، ولسوف يتطاير في مهب الريح بفعل ثورة شعبية جديدة، ليس فقط في فلسطين، بل وفي كافة أرجاء العالم العربي. وقد تكون تلك الثورة قد بدأت بالفعل.
المصدر: ميدل أيست آي