تحذير: تتضمن هذه المقالة “حرقًا” لبعض أحداث الحلقة الأولى “Nosedive” “انحدار” من الموسم الثالث للسلسلة التليفزيونية (Black Miror)، فإذا كنت تفكر بمشاهدتها، فربما عليك العودة للقراءة بعد المشاهدة.
عن مآلات وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة وظاهرة صور “السيلفي”؛ يتحدث المفكر والكاتب والمترجم المغربي سعيد بنكراد في محاضرة بالعاصمة السودانية الخرطوم ضمن فعاليات جائزة الطيب صالح (زين) الأخيرة، بتفصيلٍ لهذه المآلات المحتملة بسبب سطوة العالم الافتراضي ووسائل التكنولوجيا الحديثة وما دعاه بـ”عولمة الهوية الذاتية”.
ضمن حديثه، استشهد بنكراد بجملة من رواية الأخوة كارمازوف تقول: “سنضع حريتنا عند أقدامهم قائلين، خذونا عبيدًا عندكم، ولكن أطعمونا”.
يصور بنكراد صورة أشد ظلامية حينما يعلن أن المقابل، أيًّا كان، لهذا الاستعباد غير مجزٍ، في سياق ما تناوله من تأثير التكنولوجيا على حياتنا، وأن هذا العائد مهما بلغ أو في أي صورة تجلّى، لأن وعينا وإدراك الواقع والآخرين، يتضمن خديعة أكبر هي عملية التعامل على أساس أن “الافتراضي” -بتعبير “بنكراد- هو مقابل للوجود الحقيقي، وجود الفرد والواقع مباشرة، الذي يدركه عبر عملية “التخيّل” ومنتجها “الخيال”.
يقول بنكراد إن “الافتراضي” لم يكن أبدًا هو “المُتخيَّل” الناتج عن “الخيال” أو حتى وعي مضطرب بالواقع، بل وعي بشيء آخر تمامًا، لن يكون بأي حال للموجودات الحقيقية أو المكنونات الداخلية للفرد نفسه، مما أنتج حالة فِصامية تميّز إدراكنا ووعينا المعاصر للعالم والموجودات.
تظهر لاكي وحيدة أمام مرآة، محاولةً التدرب على عددٍ من طرق الابتسام والضحك، في أثناء ما تحاول التدرب على التعامل مع بشر افتراضيين
وبحسب بنكراد في تلك الندوة، فإن “الافتراضي” هي تلك المسحة التي طغت على مجتمعاتنا، بسيطرة صور “السيلفي” مثلًا، الملتقطة بكاميرات محسّنة، تقوم بالعديد من التعديلات المخادعة لتضفي إحساسًا زائفًا بجمالية الذات والآخرين.
في جانب آخر، كعادتها ظلّت تصدمنا السلسلة التليفزيونية البريطانية “Black Mirror” المبثوثة عبر شبكة “NETFLIX” التي تقدم عبر حلقاتها المبتكرة صورًا شديدة السواد لمآلات التقدم التقني وأثره على المجتمعات الإنسانية، فبشكل مفصل وتنبؤي قدمت الحلقة الأولى من الموسم الثالث صورة للخلل الذي يصيب العلاقات الإنسانية، جراء تخلّق نوع من أنواع نظم التقييم الاجتماعي التقنية، التي في الغالب ستكون النهاية الحتمية للهوس المصاحب للارتباط الشديد بمواقع التواصل الاجتماعي.
“الجشع” مقابلًا لـ”القناعة”
ظاهريًا، تُبدي الحلقة انطباعًا جيدًا في البداية عن بطلة الحلقة “لاكي” (4.2) التي تظهر بدءًا تمارس اليوغا الصباحية، بالإضافة إلى مظهرها الشاب والجميل، حيث تظهر وهي تتواصل عبر هاتفها عبر تقنيات فائقة ومتقدمة للغاية، لتلك الهواتف المتوقع الوصول لها نهاية الأمر مع التقدم التقني المطرد، كما قامت المؤسسات والأنظمة الرسمية المسيطرة، بإلحاق عدسة بصرية تقنية بأعين المواطنين، مما يمكن المواطنين من رؤية قيمة النقاط الخاصة بالشخص الذي أمامك، والبالغ إجمالها 5 نقاط، حيث يبدو أنك إذا بدأت نقاطك في التدني حتى ما دون 2.5، ففي الغالب أنظمة الأمن الذاتية في شركتك أو مؤسستك لن تفتح لك أبوابها مهما فعلت.
تظهر لاكي وحيدة أمام مرآة، محاولةً التدرب على عددٍ من طرق الابتسام والضحك، في أثناء ما تحاول التدرب على التعامل مع بشر افتراضيين.
كانت لاكي قد جاوزت 4.1 وذلك عبر روتين دؤوب تنخرط فيه منذ الصباح، فالنظام تقوم فكرته الأساسية على شيء أشبه بتفاعلات مواقع التواصل الاجتماعي، فمثلًا لو تبسمت في وجهك، من الممكن أن تهبني بعض النجمات التقييمية التي قد تزيد من تقيمي العام، التي سأردها لك بالمقابل، كما تجرِ عادة أنظمة تقايض الامتيازات المجتمعية.
بدأ كل شيء في الانهيار بشكل دراماتيكي للغاية، فبعد أن أيقنت لاكي بشكل شبه حاسم أن فرصة العمر دانت لها أخيرًا، بعد أن تفاجأت بتفاعل من إحدى صديقات طفولتها “ناعومي” (4.8) التي انقطعت عنها منذ زمن، بعد أن تمايزت مجتمعاتهما وافترقت بهما الطرق، لتقوم ناعومي لاحقًا، بعد تفاعلها الفجائي بإجراء اتصال بلاكي لتخبرها فيه أنها على وشك عقد زفافها، لتفاجئها أنها – بوصفها صديقة الطفولة – اختارتها لأن تقدم خطاب الوصيفة العروس.
دخلت لاكي في نوبة هوسية، متوقعة أن هذه الفرصة ستحقق حلمها بالوصول إلى تقييم عالٍ، خاصة أن الحاضرين سيكونون من ذوي التقييم العالي رفقاء ناعومي الذين سيسهم انبهارهم بخطابها وتأثرهم في مدّها بتفاعلات تزيد من تقييمها.
منذ تلك اللحظة، جربت لاكي أشكالًا عديدةً من أشكال البكاء المفترض أن تبدو فيه في أثناء خطابها، لتدخل، في أثناء هذه الأجواء الحماسية، في خلاف مع شقيقها صاحب النقاط الثلاث بالكاد، رايان (3.0) الذي يبدو أنه قنوع للغاية بهذه النسبة، في مقابل شقيقته صاحبة الأحلام العظيمة.
صُبغت معظم خواتيم حلقات السلسلة، بنهايات قابلة للتأويل، لكن الأبرز أنها نهايات تصور شخصيات تدفع أثمانًا باهظة لقرارات اتخذت في لحظات اندفاع
نقاطه الثلاثة تلك، لم يجمعها بأي من الأشكال المجتمعية التواصلية، اللهم إلا عبر مشاركة ألعاب الفيديو الجماعية مع أصدقائه، لتبدو له النقاط الثلاثة كافية للغاية، فقد قال في أثناء ذلك النقاش لشقيقته، إن الأشخاص أصحاب التقييم الأعلى من (4.0) ميالون للانتحار.
تبدو مقولة رايان قابلة للتفسير في ضوء علم النفس، فيعتبر الاكتئاب الذي يصيب عددًا كبيرًا من البشر، واحدًا من أهم أسبابه هي الإخفاقات التي تعقب آمالًا كبيرةً ومتطلعةً لأصحابها، على ضوء توقعات خاطئة في الغالب، وكأفضل تمثيل، وضعت لاكي مجموعة من الآمال العظيمة بشأن بلوغها أملها المنشود، للدرجة التي حسمت فيها أمر مغادرتها للسكن إلى شقة في غاية الفخامة، مجهزة بأحدث الأنظمة التقنية، التي توفر فيما توفر عبر تقنيات الواقع المعزز، شريك حياة وسكن مثالي.
بعدما قامت لاكي بتقييم سلبي لرايان، بما يترتب عليه خصم من نقاطه، قائمًا بالرد عليها بالمثل، في ظل هذا الانفعال، تصطدم لاكي بإحدى السيدات (4.8) في الطريق وهي خارجة من مسكنها المشترك مع رايان، لتسكب على ملابس السيدة مشروبًا كانت تحمله السيدة، لتنتبه أن السيدة التي تحمل ملامح غاية في الصرامة، تفهم هذه الصرامة مقرونة بتقيمها العالي الذي ظهر منذ أن تمعنّت لاكي بوجه السيدة، لتقوم بتقديم اعتذار هلِع متعجل ومرتبك، لم تعره السيدة أدنى اهتمام وهي تستخدم هاتفها لترك تفاعل سالب تجاه لاكي، تاركة إياها في حالة اضطرابية سيئة جراء الحدثين المتسارعين.
حتى هنا سنحتفظ ببعض التفاصيل التالية للمشاهد الأساسية، إرجاءً لمتعة الراغبين في مشاهدة الحلقة كاملة، على أنه يمكن القول إنّ النهاية ستكون سوداوية للغاية، فهي السِمة التي حافظت عليها (NETFLIX) طوال حلقات مواسم المسلسل التي تجسّد كل حلقة فيه موضوعًا مختلفًا، مع الحفاظ على ثيمة المسلسل الأساسية، تسليط الضوء على التقدم التقني.
شبهة نزعات “محافظة”
صُبغت معظم خواتيم حلقات السلسلة، بنهايات قابلة للتأويل، لكن الأبرز أنها نهايات تصور شخصيات تدفع أثمانًا باهظة لقرارات اتخذت في لحظات اندفاع.
الوصائية والتهديد المبطن، لم يكن سِمة عالم اليوم فقط، نبِه الإمام علي بن أبي طالب، كرّم الله وجهه، منذ القرن السادس الميلادي، إلى أن المجتمعات دائمًا ما تحاول كبح التغيّرات الطبيعية والحادثة باستمرار، وذلك في مقولته الشهيرة: “لا تقسروا أبناءكم على أخلاقكم؛ فهم مخلوقون لزمان غير زمانكم”.
طبيعة السلسلة التليفزيونية “BLACK MIROR” مركزة في الأساس على النقد والتخوف من التقدم التقني، لكن أيضًا ربما تذكرك هذه التحذيرات والنبوءات السوداوية بالتذمر والانتقادات العديدة التي ربما وجهت لك من أفراد أكبر سنًا في الأسرة، نظير انشغالك بهاتفك لأوقات طويلة، بما يشابه هذا التهديد الذي تبثه “NETFLIX”، مقابل المال الذي يدفع لها جراء التسُّمر لساعات طوال أمام شاشاتها، مصحوبًا بتدفق الأدرينالين في أجسادنا.
أمر آخر متعلق بالحلقة، معظم الشخصيات التي أظهرت تبرم ومقاومة مع هذه الأنظمة وعداء هي شخصيات من فئات عمرية جاوزت الأربعين في الغالب، كما تبدو غالبًا فئات ذات تقييم متدنٍ في النظام، إضافة إلى أن رايان الذي صور بوصفه غير متكيفٍ مع النظام، إلا أن صبغة أساسية ظلّت تلازم حياته وهي الغرق أيضًا في عالم افتراضي، عبر الغياب تمامًا بممارسة الألعاب الإلكترونية، عبر تقنية نظارات الواقع المعزز.
في قصيدة “رقصة الحياة” للشاعر الأمريكي تشارلز بوكفوسكي صاحب النظام/ الأسلوب المغاير، ترجمة سامر أبو هوّاش، نقرأ:
“المنطقة التي تفصل الدماغ عن الروح
تتأثّر بالتجربة بشتّى الطرق
بعضهم يفقد عقله ويصبح روحًا:
المجنون.
بعضهم يفقد روحه ويصبح عقلًا:
المثقّف.
بعضهم يفقد الاثنين:
المقبول اجتماعيًّا”.