بعد أيام قليلة من توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين الرئيس المصري الراحل أنور السادات ورئيس وزراء دولة الاحتلال مناحم بيغن في 17 سبتمبر 1978 عقدت الدول العربية مؤتمرًا طارئًا في العاصمة العراقية بغداد، بمشاركة 10 دول، أسفر عن مقاطعة الدول جميعها للقاهرة ماعدا السودان وعُمان والصومال.
وفي تلك الأثناء دُشن حلف يسمى “جبهة الرفض” بزعامة العراق لحشد الموقف العربي الرافض للتطبيع والخطوة المصرية التي وصفت حينها بـ “العار” فيما تم تعليق عضوية مصر في الجامعة العربية التي تم نقل مقرها من القاهرة إلى تونس.
المقاطعة العربية لمصر لم تقتصر على بعدها السياسي فحسب، بل تجاوز الأمر إلى مقاطعة المنتجات المصرية والشركات والأفراد ممن لهم أي علاقة بالكيان الصهيوني، هذا بخلاف تعليق المساعدات المالية العربية التي كانت مقررة لنظام السادات بعد حرب 1973، فيما رفضت الرياض تمويل صفقة طائرات أمريكية للقاهرة، وأوقفت الإمارات وقطر شراكتهما بجانب السعودية بمشروع الهيئة العربية للتصنيع الذي كان مقررًا له أن يقام على أرض مصر.
وبعد 42 عامًا على تلك الاتفاقية، هاهي الإمارات تكرر السيناريو مرة أخرى بإبرامها اتفاق آخر يضاف إلى مسلسل الخيانة كما يصفه الفلسطينيون، غير أن رد الفعل هذه المرة لم يكن كما كان قبل 4 عقود، فلم نرى مؤتمرًا عربيًا للإدانة، ولا مقاطعة معلنة، سياسية كانت أو اقتصادية، ولا حتى شجب واستنكار من باب حفظ ماء الوجه.
وعلى العكس من ذلك سارعت بعض العواصم لإعلان تأييدها ودعمها لتلك الخطوة التي يرونها إنجازًا يحسب لولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد وسط ترقب واستنكار من أنصار التيار العروبي المقاوم، الذي لم يفاجأ بهذه الخطوة التي تعد إشهارًا رسميًا لزواج دام سنوات عدة في السر، وحان الوقت للإعلان عنه بعدما افتضح أمره.
تأييد مصر والبحرين وسلطنة عمان لتلك الاتفاقية ليس بالأمر المستغرب، فمواقف تلك الدول حيال مسار التطبيع وعلاقاتها الحميمية مع حكومة الاحتلال تبلغ من الوضوح ما يغنيها عن التوضيح والتبرير، لكن السؤال الأكثر حضورًا: ماذا عن الحكومات ذات الموقف البيًن فيما يتعلق برفض أي خطوات نحو تطبيع العلاقات مع تل أبيب قبل حصول الفلسطينيين على كامل حقوقهم؟ لماذا لجأت إلى الصمت والتزام الحياد حتى وإن جاء الرفض شعبيًا؟ أي مواءمات تلك التي تدفع الأنظمة إلى التخلي عن المرتكز القومي العروبي الأول وهو القضية الفلسطينية؟
الجامعة العربية.. مسلوبة الإرادة
الجامعة التي انتفضت قبل أربعين عامًا خيًم عليها الصمت هذه المرة، ورغم مرور أسبوع تقريبًا على تغريدة ترامب المشار فيها إلى اتفاق السلام المزمع بين أبو ظبي وتل أبيب، إلا أنه لم يصدر أي رد فعل من الجامعة، وهو ما أثار الكثير من التساؤلات.
تأخر البيت العربي عن اتخاذ موقف كان مثار جدل خاصة وأن الجامعة تشترط لإقامة أي من أعضائها علاقات مع “إسرائيل”، انسحاب اﻷخيرة من الأراضي المحتلة عام 1967، وتمكين الفلسطينيين من إقامة دولتهم المستقلة على حدود 1967، وحل مشكلة اللاجئين.
الموقف الإماراتي ضرب بمرتكزات الجامعة عرض الحائط، كما أنه خالف وبشكل فجً مخرجات قمة بيروت 2002 ضمن مبادرة السلام العربية، التي وقعت عليها جميع الدول العربية، إضافة إلى غض الطرف عن النداءات الفلسطينية التي تطالبها بالتحرك، ولعل أبرزها مطالبة أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية صائب عريقات، الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط، بإصدار بيان إدانة للاتفاق الإماراتي الإسرائيلي أو الاستقالة من منصبه.
رد فعل الجامعة رغم أنه صادم من حيث الشكل (الصمت) إلا أنه لم يكن مفاجئًا في مضمونه (عدم اتخاذ موقف مناهض للإمارات) لاسيما وأن القرار السياسي لهذا الكيان بات رهينًا للإرادة السياسية للدول ذات النفوذ المالي بداخله، وعلى رأسها الإمارات والسعودية، وبالطبع من خلفهما مصر التي تحتضن الجامعة فوق ترابها.
مسارعة القاهرة لتهنئة أبو ظبي بهذه الخطوة في ظل الصمت الرسمي السعودي والحديث عن مسارات جديدة في مسار التطبيع معها بجانب مسقط والمنامة، كل هذا دفع أبو الغيط ومجلسه للسكوت وغض الطرف لحين استجلاء الأمور، رغم أن هذا المجلس بنفس هيئته هو من انتفض قبل أيام لأجل ليبيا، لكن كان ذلك بدعم الثلاثي (الإمارات ومصر والسعودية) المهيمن على القرار داخل الكيان شبه المسلوب لإرادته وتأثيره بعدما فقد مصداقيته واستقلاليته.
الجزائر.. مقاربات أمنية
على مدار العقود الماضية تبنت الجزائر خطًا واضحًا فيما يتعلق بالرفض المطلق لكافة أشكال التطبيع مع دولة الاحتلال، وهو الخط الذي كان يميز سياستها الخارجية مقارنة بالدول العربية الأخرى التي كانت تتأرجح على أوتار التردد والحزم.
التغيرات الواضحة التي شهدها نظام الحكم في الجزائر، مؤخرًا، من الواضح أنها ألقت بظلالها على العديد من الثوابت السياسية ومن بينها الموقف من “إسرائيل”، فجاء الموقف الرسمي للنظام صامتًا حتى كتابة هذه السطور، رغم الإدانة الشعبية الواضحة للخطوة الإماراتية التي وصفتها أحزاب سياسية جزائرية بأنها “طعنة في ظهر القضية الفلسطينية”.
القيادي في الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر، الشيخ علي بلحاج، وصف رد الفعل الجزائري بأنه “صمت مريب، وباعث على القلق على مصير فلسطين والمنطقة برمتها” لافتًا في تصريحات صحفية له أن “اتفاق التطبيع الإماراتي ـ الإسرائيلي يمثل كارثة الكوارث وداهية الدواهي، وأن الموقف العربي الرسمي كان باهتًا وباعثًا على القلق والحيرة، ليس فقط لأنه لا يتناسب وحجم الكارثة، وإنما لأنه قد يخفي ما هو أدهى وأمر”.
بلحاج تساءل عن أسباب ودوافع صمت حكومة بلاده حيال ما حدث، مستنكرًا أن تكون هناك علاقات خفية لايعرف الشعب عنها خاصة في ظل العلاقة القوية التي تربط بين قائد الأركان الراحل قائد صالح مع النظام الإماراتي، والتي من الممكن أن يكون لها تأثير في المشهد الراهن.
قائد أركان الجيش الجزائري الفريق السعيد شنڨريحة، في حديث سابق له كشف “أنّ بلوغ الأهداف الوطنية في مجال سياسة الدفاع الوطني يفرض تبني مقاربات أمنية وطنية، تكون أكثر انفتاحًا واستيعابًا لأساليب مواجهة جديدة” وهي التصريحات التي تزامنت مع استعدادات لتعديل الدستور الجزائري.
التزامن بين تلك التصريحات التي تحمل تخليًا نسبيًا عن الثوابت القديمة وما يثار بشأن التعديلات الدستورية يخشى أن تحمل توجهات جديدة بشأن توسيع صلاحيات الجيش الجزائري خارج الحدود، للإسهام في صياغة الخارطة الجديدة للمنطقة التي ترسمها تل أبيب وحلفائها، وفق ما ذهب القيادي في الجبهة الإسلامية للإنقاذ.
أما على المستوى الشعبي، فالجزائريون متمسكون بموقفهم الرافض للاتفاقية وكل ماهو على شاكلتها، حيث استنكرت أحزاب سياسية مختلفة التوجهات، بعضها ينتمي للسلطة المركزية “حزب جبهة التحرير الوطني”، الخطوة التي أقدمت عليها أبو ظبي، ووصفتها بأنه “خيانة وطعنة في الظهر” لحقوق الشعب الفلسطيني.
النظام السوري.. سفارة في دمشق أهم
عُرف عن النظام السوري لعقود طويلة موقفه المناهض لكافة أشكال التطبيع، إذ ظل بجوار الجزائر على رأس التيار المقاوم عربيًا لكافة مسارات التقارب مع الاحتلال قبل عودة الحقوق العربية جميعها، لكن الموقف الآن قد تغير بصورة لافتة للنظر، إذ تجاهل النظام السوري بشكل شبه تام التعليق على هذا الاتفاق.
وبعيدًا عما صرحت به مستشارة الأسد، بثينة شعبان، بشأن امتلاك القوة والصمود كحل وحيد لسوريا وفلسطين، وأن تل أبيب لا تعتبر كل مطبع معها صديق، بجانب ما نقل عن حزب البعث الذي اعتبر أن الاتفاق “استسلام وخنوع” وأن حكومته هي الوحيدة في المنطقة التي تتصدى للهيمة الصهيونية على حد قوله، لم يصدر أي موقف رسمي آخر يدين تطبيع الإمارات.
وحتى كتابة هذه السطور لم يصدر عن السلطة الحاكمة في سوريا أي رد فعل، إيجابي كان أو سلبي، بشأن الخطوة الإماراتية، سواء عن طريق وزارة الخارجية أو حتى التلفزيون الحكومي أو وكالة الأنباء الرسمية، وهو ما أثار التساؤلات حول التغير الواضح حيال هذا الملف الذي كان يعد من “الثوابت الوطنية لسوريا”.
خبراء أرجعوا الصمت السوري شبه التام حيال الاتفاقية بأنه مراعاة لمصلحة نظام الأسد مع الحكومة الإماراتية، حيث أعادت أبو ظبي فتح سفارتها في دمشق نهاية 2018 وهي الخطوة التي كسرت عزلة النظام السوري بصورة كبيرة، ومن ثم لا يريد للعلاقات مع أبو ظبي أن تتعكر.
أستاذ العلوم السياسية اللبناني أسعد أبو خليل، يعلق على الصمت الرسمي السوري حيال تطبيع الإمارات بقوله إن “افتتاح سفارة بدمشق هو الأهم” مستعبدًا أن يدين نظام الأسد تلك الخطوة رغم تعارضها الواضح مع توجهات الدولة على مدار سنوات طويلة مضت.
يذكر أن وزير الخارجية في نظام الأسد، فيصل المقداد، كان قد صرح في ديسمبر/ كانون ثاني الماضي، على هامش احتفال السفارة الإماراتية في دمشق باليوم الوطني الـ48، بحضور القائم بالأعمال الإماراتي عبد الحكيم إبراهيم النعيمي، بأن “سوريا لن تنسى أن الإمارات وقفت إلى جانبها في حربها على الإرهاب، وتم التعبير عن ذلك من خلال استقبال الإمارات للسوريين الذين اختاروها حتى تنتهي الحرب الإرهابية على بلادهم ونأمل في عودتهم إلى وطنهم”.
السعودية.. الدعم الصامت
تجاهلت السلطات السعودية إصدار أي موقف رسمي على الاتفاق، ورغم أن معظم مواقفها متوافقة مع السياسة الخارجية للإمارات، لاسيما فيما يتعلق بملف التقارب مع الحكومة الإسرائيلية، إلا أنها التزمت الصمت دون أي موقف معلن، فيما انبرت بعض الأصوات السعودية لدعم هذه الخطوة على مضض.
العديد من الأصوات رجحت اقتراب ضم السعودية لقطار التطبيع، وهو الرأي الذي تعززه الممارسات على أرض الواقع عبر التنسيق الكامل في الكثير من الملفات والتعاون المشترك طيلة السنوات الماضية، إلا أن بعض المصادر تستبعد هذا التوجه للعديد من الأسباب.
مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية “csis”، جون ألترمان، يرى أن “ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، ربما يكون داعما لاتفاق الإمارات مع الاحتلال، إلا أن جميع المؤشرات تدل على مواجهته صعوبة في احتضان فكرة التطبيع حاليا” وذلك في ضوء ما نقلته عنه صحيفة “واشنطن بوست”
ويعتبر ألترمان أن وجود تيار ديني قوي داخل المملكة لا زال يرفض التطبيع مع الاحتلال قبل عودة حقوق الشعب الفلسطيني، واستمرار ثقل القضية العربية الأم خليجيا وعربيا، من الممكن أن يكون حائلا يعطل أي خطط حالية للتطبيع بين الرياض والاحتلال في الوقت الراهن.
العلاقات بين الرياض وتل أبيب لا تقل حميمية عما بينها وبين أبو ظبي، كما المنامة ومسقط، فجميعهم يدورون في فلك واحد، ويمتطون قطار واحد، فهو أشبه بزواج عرفي ينقصه الإشهار، وجاء الرئيس الأمريكي ليقوم بدور المأذون لإعلان هذه الزيجة نظرًا لما يمكن أن ينجم عنها من مكاسب له على المستوى الشخصي قبيل الانتخابات الرئاسية التي يأمل من خلالها أن يقود بلاده لولاية ثانية.
الصمت السعودي الرسمي لا ينكر حقيقة الدعم والتأييد والمباركة للخطوة الإماراتية التي من المستبعد أن تحدث دون مراجعة واستشارة الحليف الأكبر خليجيًا، غير أن الخوف من الضغوط الداخلية واهتزاز الصورة التي طالما عززت من ثقل المملكة إقليميًا هو السبب وراء الإبقاء مؤقتًا على الوضع على ماهو عليه لحين إشعار أخر.
السودان.. التطبيع قادم
وانضم السودان هو الآخر لفريق “المحايدين” وإن كان أكثرهم تطرفًا، لاسيما بعدما أثير بشأن انضمام الخرطوم لقافلة التطبيع، والحديث عن قرب توقيع اتفاق سلام مشابه للاتفاق الإماراتي، وهو ما يتعارض بشكل كبير مع التوجه العام السابق للبلاد، والذي كان ينظر لـ”إسرائيل” على أنها العدو الأبرز للعرب.
التزام السلطة السودانية الصمت حيال الخطوة الإماراتية نتاج طبيعي لتشكيلة المجلس الحاكم من جهة، والبراغماتية السودانية من جهة أخرى، حيث نجح محمد بن زايد في تجنيد بعض أفراد الحكم في البلاد وعلى رأسهم محمد حمدان دقلو “حميدتي” والذي يوصف بأنه رجل الإمارات في السودان، وهو من كان عراب بن زايد لجلب المرتزقة وإرسالهم للقتال نيابة عن القوات الإماراتية في اليمن وليبيا.
وفي الناحية الأخرى تسعى الحكومة السودانية الحالية بقيادة عبدالله حمدوك إلى تقريب وجهات النظر مع الولايات المتحدة لرفع اسم البلاد من قوائم الإرهاب، بجانب إلغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة منذ عقود، والتي كان لها أسوأ الأثر على اقتصاد السودان طيلة السنوات الماضية.
حمدوك وحكومته ومن خلفهما ضغوط جنرالات المجلس السيادي تحرص على عدم استعداء واشنطن، واضعة نصب أعينها مصالحها الخارجية بعيدًا عن أي مرتكزات قومية أو دينية، فالميكافيللية ربما تكون الحل لإنقاذ البلاد من مأزقها الراهن، وعليه فإن أي رد فعل سلبي تجاه التطبيع الإماراتي من المرجح أن تكون له تداعيات سلبية تتجنبها الحكومة في الوقت الراهن.
يذكر أنه في 16 أغسطس/ أب الجاري كشف وزير الاستخبارات الإسرائيلي إيلي كوهين النقاب عن أن “إسرائيل” والسودان على وشك توقيع اتفاقية سلام بينهما، قائلًا إنه “يتوقع أن تتم هذه الخطوة التاريخية قريبًا، ربما قبل نهاية العام الحالي”، حسبما نقلت عنه هيئة البث الإسرائيلي.
الهيئة أضافت أن الاتصالات مستمرة منذ فترة بين تل أبيب والخرطوم، إضافة إلى أن جهود كبيرة تبذلها بعثات من كلا الطرفين من أجل إسراع الخطى للتوصل إلى هذا الاتفاق، الذي يأتي تتويجًا للتنسيق المتبادل خلال الأونة الأخيرة، الذي بلغ مداه بلقاء نتنياهو رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان في مدينة عنتيبي الأوغندية في شباط/فبراير الماضي، حيث اتفقا على “بدء التعاون المؤدي إلى تطبيع العلاقات” بين الجانبين.
قطر.. تساؤلات حول الصمت
رغم تصريحات رئيس لجنة الدفاع والداخلية في المجلس الاتحادي الإماراتي علي النعيمي، التي قال فيها “إن جميع الدول العربية باركت اتفاق التطبيع الإماراتي مع الاحتلال الإسرائيلي عدا دولة قطر” إلا أنه وحتى اللحظة لم يصدر أي موقف رسمي من الدوحة تجاه هذا الاتفاق.
وفي مقابل الصمت الرسمي حيال التطبيع الإماراتي جاءت القوى الناعمة عبر أدواتها الإعلامية والثقافية لتندد بهذا التحرك، الذي سعت من خلاله قطر إلى حفظ ماء الوجه شعبيًا، خاصة وأن الآلة الإعلامية الإماراتية والسعودية هاجمت تلك الحملة بدعوى افتتاح مكتب للتمثيل التجاري الإسرائيلي في الدوحة.
رئيس وزراء قطر الأسبق، حمد بن جاسم، علق على الاتفاق الإماراتي بقوله إن “وجهة نظري في هذا الصدد معروفة، وهي أن السلام لا بد أن يقوم على أسس واضحة حتى يكون التطبيع دائمًا ومستمرًا ومقنعًا للشعوب”، متسائلًا عبر تغريدة له على حسابه على تويتر “هل جاء إعلان الاتفاق الآن دعمًا للرئيس الأمريكي في الانتخابات المقبلة؟ أم هو في الوقت نفسه ثمن لتمرير صفقة طائرات الـF35 التي طلبتها الإمارات من واشنطن ووعد نتنياهو بالمساعدة في تمريرها؟ أو هو كذلك لتحسين صورة أبوظبي في أمريكا؟ أم هدفه انقاذ خطة السلام التي أعلنت عنها الإدارة الأمريكية وعرفت بصفقة القرن ولاقت رفضًا عربيًا وعالميًا؟ وهل هناك لدى أبوظبي خطة سلام لا نعرف عنها من شأنها إعادة الحقوق الفلسطينية والعربية؟!”.
وفي رده على الموقف المشابه لبلاده حينما افتتحت مكتب تجاري إسرائيلي في العاصمة الدوحة عام 1996 بعد مؤتمر مدريد للسلام، وإن كان البلدين لا يقيما علاقات دبلوماسية بينهما، قال بن جاسم “كان هدفنا من ذلك تشجيع “إسرائيل” على الإنسحاب من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة إلى حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967، بما في ذلك القدس الشرقية المحتلة، وفق المقررات الدولية والمبادره العربية للسلام التي طرحها (العاهل السعودي الراحل) الملك عبدالله رحمه الله”.
الكويت.. مزاج تنقصه الرسمية
تعد الكويت من الدول القليلة صاحبة الموقف الثابت الرافض للتطبيع مع دولة الاحتلال، فبعد ساعات قليلة من الإعلان عن الاتفاق الإماراتي جددت مصادر حكومية وشعبية كويتية التأكيد على أن “موقف الكويت من التطبيع مع إسرائيل ثابت ولن يتغير”.
المصادر الحكومية في تصريحات أدلت بها لصحيفة “القبس” الكويتية قالت إن “الكويت على موقفها وستكون آخر دولة تطبع مع إسرائيل”، ورغم ذلك لم يصدر عن الحكومة الكويتية ولا الديوان الأميري أي تصريح رسمي تجاه هذا الاتفاق، في موقف يفسره البعض بعدم رغبة البلاد في الصدام مع حلفاءها الخليجيين خاصة في ظل العلاقات المتوترة بينهم خلال الأونة الأخيرة.
الكويت ترى أن تبني موقف رسمي رافض لما فعلته الإمارات ومن خلفها السعودية والبحرين وعمان ربما يزيد من حجم وعمق الشرخ في جدران العلاقات الخليجية، وعليه كان الصمت هو الحل المؤقت، مع إعطاء الضوء الأخضر لكافة القوى الشعبية والسياسية بالتعبير عن رأيها بكل حرية.
وبالفعل أعلنت سبع قوى وتكتلات سياسية كويتية، تشكل الغالبية العظمى من خارطة البلاد السياسية، في بيان مشترك لها، رفضها المطلق للتطبيع مع “الكيان الصهيوني أو الاعتراف به”، مضيفة أن “إعلان إحدى دول مجلس التعاون الخليجي (الإمارات) اعترافها بالكيان الصهيوني الغاصب ونيتها لإقامة علاقات كاملة جاء بلا مبرر أو فائدة لهذه الدولة أو للأمة العربية والإسلامية”.
تونس.. تبادل أدوار
وفي تونس كان المشهد مغايرًا، فرغم اعتلاء القضية الفلسطينية قائمة أوليات الخطاب السياسي للرئيس التونسي الحالي، قيس سعيد، خلال حملته الانتخابية، إلا أنه سرعان ما تبدل الأمر مع أول اختبار عملي على أرض الواقع، فلم يصدر عن الرئيس حتى اللحظة أي موقف رسمي إزاء الخطوة الإماراتية.
تراجع اهتمام الرئيس بالقضية الفلسطينية التي كانت أحد أبرز أسباب التفاف الجماهير حوله في 2019، أثار الكثير من التساؤلات حول ما اعتراها من تغير واضح، فيما أرجعه خبراء سياسيون تونسيون لاعتبارات عدة أبرزها تجنّب الدخول في صدام مع الإمارات من جانب، وأمريكا كحليف لـ”إسرائيل” من جانب أخر، إلى جانب هشاشة الوضع الداخلي، الذي لا يسمح لتونس باتخاذ موقف قوّي.
وبينما تُواجه الإمارات بقيادة الثورة المضادة لإفشال عملية التحول الديمقراطية في تونس، لم يستطع الرئيس الذي اعتقد البعض أنه جاء من رحم الثورة، أن يتخذ موقفًا رسميًا ضدها، رغم ضربها لمرتكزات الدولة التونسية الخارجية عرض الحائط.
الكاتب الصحفي والمحلل السياسي التونسي، بولبابة سالم، يرى أن بلاده “لا تريد أن تخسر علاقاتها مع الإمارات لأن إصدار موقف سيكون له ثمن، على غرار طرد السفير التونسي وطرد العمالة التونسية البالغة حوالي 25 ألف تونسي، باعتبار أن الإمارات دولة غير ديمقراطية وتتعامل بعنجهية كبيرة”.
سالم في تصريحات له يعتبر أن أي موقف مناهض للتطبيع الإماراتي الإسرائيلي سيكون ثمنه غاليًا، وتابع “الدول التي تكون في وضعية اقتصادية هشّة لا يمكنها اتخاذ قرارات قوية، وتونس تعيش وضعا داخليا هشّا، ولا تريد أن تستعدي أحدًا والدخول في خصومة مع الإمارات، وحتى تغذية مناخ التوتر الداخلي”.
من جهته يرى الأكاديمي السياسي طارق الكحلاوي، أن السلطات في تونس تنتظر موقف رسمي عربي للانضمام إليه، حتى لا تضع نفسها في موقف يحسب عليها بعد ذلك، مضيفًا “تونس تجاري الملفات التي في علاقة مع الإدارة الأمريكية بحذر كبير، وتتجنب الصدام معها”.
وعن صمت الرئيس يرى الكحلاوي أنه “ترك مجال المناورة في هذه القرارات الدقيقة لوزارة الخارجية وآليات الدبلوماسية التقليدية، خاصة وأن تونس عضو (غير دائم) في مجلس الأمن الدولي، ولا يريد الانفراد بموقف واضح ويترك الأمور لآليات الدبلوماسية التقليدية لتمارس عملية صناعة القرار”.
وفي الجهة المقابلة ورغم تأخره إلا أن موقف البرلمان (تسيطر عليه حركة النهضة) الذي جاء منددًا بالاتفاقية ربما حقق التوازن النسبي في المعادلة، حيث اعتبر هذه الخطوة “تعديًا على حقوق الشعب الفلسطيني، وتهديدًا صارخا لحالة الإجماع العربي والإسلامي، خاصة على المستوى الشعبي”.
ليبيا.. تباين يعكس الأجندات
الموقف الرسمي الليبي إزاء التطبيع الإماراتي يعد انعكاسًا واضحًا للخارطة السياسية في البلاد التي يلقى فيها اللواء متقاعد خليفة حفتر، دعمًا مفتوحًا من أبو ظبي وحلفها، إذ يستعد وزير خارجية الحكومة الموازية المنبثقة عن مجلس النواب المجتمع بطبرق عبد الهادي الحويج إلى زيارة الإمارات لبحث مسألة انضمام حكومة بلاده لاتفاق التطبيع.
ورغم ما يثار بشأن معارضة بعض المسؤولين وأعضاء مجلس النواب لهذا الموقف بحسب مصادر برلمانية في طبرق، إلا أنه لا يوجد موقف رسمي منهم، إذ أن هناك مخاوف من حدوث بلبلة ومعارضة حال اتخاذ أي خطوة في هذا المضمار، وهو ما قد يزيد من حدة الانقسام الذي يعيشه معسكر حفتر في شرق البلاد.
الصمت الرسمي لفريق حفتر خشية رد الفعل المحلي، لا يخفي توجهه المؤيد تمامًا للإمارات، حليفته وداعمه الأكبر، هذا بجانب رغبته الجنرال الشخصية في تحسين علاقته مع واشنطن، راعية اتفاق إشهار التحالف بين الإمارات و”إسرائيل”، وهو ما قد ينعكس على موقفها من حكومة الوفاق التي تدعمها.
وفي الجهة المقابلة، اعتبر عضو المجلس الرئاسي للحكومة الليبية محمد عماري، أن اتفاق التطبيع يمثل “خيانة غير مستغربة من الإمارات“، لافتًا إلى أن هذه الخطوة “نتيجة طبيعية للدور التخريبي والتدميري الذي تمارسه الإمارات في ليبيا وسوريا واليمن، وكذلك محاصرة الشعبين القطري والفلسطيني والشعوب الحرة في المنطقة”.
تصريحات عماري الذي كان قد دعا المجلس الرئاسي في 16 مايو/ أيار الماضي، إلى قطع العلاقات مع الإمارات، تأتي بصورة منفردة بعيدًا عن الموقف الرسمي لحكومة السراج التي التزمت هي الأخرى الصمت، لأبعاد تتعلق بعلاقتها بالولايات المتحدة وبعض حلفاءها الأوروبيين وتجنب الصدام أو توتير العلاقات في هذه المرحلة الحساسة سياسيًا وأمنيًا.
دحلان.. عرًاب التطبيع الحاوي
لا يخفى على أحد دور القيادي الفتحاوي المفصول محمد دحلان في إبرام هذا الاتفاق، فالرجل هو عرًاب التطبيع وحلقة الوصل بين محمد بن زايد والمسؤولين في تل أبيب، غير أن رد فعله حيال هذه الخطوة تضمن خبثًا سياسيًا أراد من خلاله مسك العصا من المنتصف.
لم تصدر عن دحلان أي تصريحات، إيجابية كانت أو سلبية، مكتفيًا ببث مقطع مصور لأحد القيادات في تيار الإصلاح الديمقراطي، سمير المشهراوي، مؤكدًا خلاله رفضه الكامل للتطبيع وإن كان يختلف في طريقة التعبير عن هذا الرفض، مستنكرًا حرق علم الإمارات وصورة بن زايد.
المقطع لفت إلى أن الزعيم الراحل ياسر عرفات لو كان حيًا لرفض مثل هذه الممارسات (حرق العلم وصورة ولي عهد أبو ظبي)، بل على العكس لقام بزيارة للإمارات، وعاتبهم من خلالها على هذه الخطوة، على حد قوله، داعيًا إلى شرف الخصومة حين يكون خلاف بين طرفين.
دحلان الحالم بخلافة محمود عباس أبو مازن في قيادة السلطة الفلسطينية لا يسعى لإحداث أي صدام مع المزاج العام للشعب الفلسطيني الرافض لأي شكل من أشكال التطبيع، وعليه غازل الرجل هذا المزاج بالإعلان عبر هذا المقطع عن رفضه للتطبيع وإن كان حالمًا حكيمًا وسطيًا في عتابه على أبو ظبي.
يذكر أن مندوب “إسرائيل” السابق لدى الأمم المتحدة داني دنون، كان قد تحدث عن دور دحلان في إتمام الاتفاق مع الإمارات، وعن زيارته إليها، لافتًا في مقابلة له مع الإذاعة العبرية أن “محمد دحلان موجود في أبوظبي، وهو مقرب من صنّاع القرار، ولا يريد أن يرى القضية الفلسطينية تتقدم، تحت قيادة الرئيس الفلسطيني محمود عباس”.
دنون أشار إلى رغبة دحلان في العودة إلى المشهد السياسي مرة أخرى، لكن عندما يغادر أبو مازن الملعب، ليُمهد الطريق، بدعم من الإمارات والسعودية ومصر، أمام عرًاب التطبيع، خاصة وأنه سيكون من الشخصيات المرضي عنها داخليًا وإقليميًا وأمريكيًا، وهو الحلم الذي لا يغادر مخيلته ساعة واحدة.
الأزهر والكنيسة.. صمت قهري
الإعلان المبكر للنظام المصري عن دعمه الكامل للتطبيع الإماراتي الإسرائيلي وضع المؤسسة الدينية في البلاد (الأزهر والكنيسة) في موقف حرج للغاية، فما عاد يمكنهما إصدار أي مواقف تخالف الموقف الرسمي، وعليه كان اختيار الصمت هو الحل الوحيد.
فالأزهر المعروف عنه مناهضته لكافة أشكال التطبيع على مدار عقود طويلة مضت، صاحب البيانات المتعددة في هذا الشأن، اكتفى بالصمت حيال تلك الخطوة التي تتعارض وثوابته الوطنية والدينية، تجنبًا الدخول في جولة جديدة ضمن معركة الصدام مع نظام السيسي.
الأمر ذاته مع الكنيسة المصرية، والتي ترفض التطبيع جملة وتفصيلًا، إذ لم يحدث منذ تولي البطريرك كيرلس السادس الكرسي البابوي عام 1959، أن زار أي من اعضاء الكنيسة القدس، وكان البطريرك شنودة الذي توفي عام 2012 رافضًا لزيارة القدس وهي تحت الاحتلال الإسرائيلي، وهو موقف البابا الحالي، تواضروس الثاني الذي أعلن اكثر من مرة تمسك الكنيسة المصرية بهذا الموقف ما دامت القضية الفلسطينية قائمة بدون حل جذري.
حتى حينما زار تواضروس مع وفد يتألف من ثلاثة أساقفة وكاهن وشماس، للمشاركة في جنازة مطران القدس والشرق الأدنى الأنبا أبراهام، في نوفمبر 2015، الزيارة التي أثارت العديد من التساؤلات حول تغير الموقف الكنسي المصري حيال القضية الفلسطينية، أكدت البطريركية المرقسية في بيان لها أن هدف زيارة تواضروس “هو المشاركة في جنازة مطران الشرق الأدنى فقط، وأنها لا تعني كسر قرار المجمع المقدس بمقاطعة السفر إلى القدس تحت الاحتلال الإسرائيلي، وهو القرار الصادر عام 1980”.
دوافع عدة تسوقها الأنظمة لتبرير موقفها المتخاذل حيال القضية الفلسطينية وملف التطبيع مع الكيان الصهيوني، إلا أنها سرعان ما تسقط أمام إصرار الشعوب العربية على التشبث بموقفها الرافض لفتح باب الحوار مع العدو المغتصب، أيا كانت المبررات، ليؤكد الشعب العربي على منهجه البيًن في هذا الملف، السياسة لكم والشارع لنا.