أعلن الرئيس المالي إبراهيم أبو بكر كيتا تنحيَه عن السلطة بصورة نهائية وحل البرلمان والحكومة، وذلك بعد ساعات قليلة من احتجازه ورئيس الحكومة بوبو سيسي وقائد الأركان العامة للجيش ورئيس الجمعية الوطنية (البرلمان) ووزراء الخارجية والدفاع والاقتصاد، في قاعدة كاتي العسكرية على أطراف العاصمة، من عدد من العسكريين المسلحين.
وقد بث التليفزيون الرسمي للبلاد كلمة لكيتا (75 عامًا) من مقر اعتقاله جاء فيها “أبلغكم بقراري التخلّي عن مهامي، عن كلّ مهامي، اعتبارًا من هذه اللحظة”، مشيرًا إلى أنه قرّر كذلك “حل الجمعية الوطنية والحكومة”، فيما أعلن العسكريون الذين قاموا بعملية الاعتقال في كلمة لهم إغلاق الحدود وفرض حظر التجوال، داعين القوى السياسية والمدنية إلى الانضمام إليهم لإخراج البلاد من أزمتها.
تطور ليس بمستغرب في ظل حالة التوتر التي كان يعيشها الشارع المالي خلال الآونة الأخيرة جراء النزاع المستمر بين نظام كيتا الديكتاتوري وأطياف واسعة من الشعب، لا سيما بعدما وقعت الدولة في براثن الاستعمار الفرنسي بمسماه الجديد، الأمر الذي رفضه الشارع بصورة كبيرة وهو ما تمخض عن عشرات الاحتجاجات التي شهدتها العاصمة خلال العامين الماضيين تحديدًا.
وأيًا ما كان مسمى ما حدث، انقلاب أو تمرد، فإن الرسالة الواضحة هي التخلص من الفساد وأعوان الإليزيه في الداخل، ممن يعملون وفق أجندات تخدم الدولة الأوروبية أكثر من الوطن، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على الحالة المعيشية للمواطن المالي الذي شعر بأنه مواطن من الدرجة الثانية داخل بلاده.
لجنة “إنقاذ”
أعلن معتقلو الرئيس وكبار مسؤوليه تشكيلهم لما أسموه “لجنة وطنية لإنقاذ الشعب”، موضحين أن هدفهم الرئيسي مما حدث القيام بانتقال سياسي مدني يؤدي في النهاية إلى انتخابات عامة في أقرب وقت، وأن تأتي حكومة تراعي مصالح الشعب في المقام الأول.
الناطق باسم العسكريين، الكولونيل إسماعيل واغي، وهو مساعد رئيس أركان سلاح الجو، أشار في تصريحات له احترام مالي لكل الاتفاقات الدولية التي أبرمتها، مضيفًا “نحن، قواتنا الوطنية المجتمعة داخل اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب، قررنا تحمل مسؤولياتنا أمام الشعب وأمام التاريخ”.
وتشهد مالي موجات من المظاهرات والاحتجاجات خلال الآونة الأخيرة بقيادة حركة “5 يونيو” المعارضة وعدد من المستقلين، فيما وصفت المعارضة ما حدث مساء الثلاثاء 18 أغسطس بأنه انتفاضة شعبية وليس انقلابًا عسكريًا كما تسميها بعض وسائل الإعلام الدولية، منوهين أن هذا التطور يعد ذروة الخلاف بين الرئيس والشعب على مدار عامين كاملين.
اصطفاف المعارضة والشارع والمطالبة برحيل السلطة لم يكن موقفًا عبثيًا، فهو نتاج سنوات عدة عانت فيها البلاد من الفساد وسوء الإدارة، حيث عمت المحسوبية والبطالة وغلاء الأسعار وندرة الموارد كل مناحي الحياة، تعزز هذا الوضع المؤلم بتداعيات فيروس كورونا.
وبين جنوب يسيطر على الحكم ويشهد حالة شبه مستقرة، وشمال يعاني من الاضطراب في ظل انتشار الجماعات المسلحة، انبرى آلاف الماليين في الجنوب للتمرد على تلك الوضعية التي يدفع الجميع ثمنها غاليًا، وهو التحرك الذي أتى بثماره بعد 24 شهرًا من العناد السلطوي.
محطات في مسار الأزمة
رغم حالة الاحتقان الشعبي جراء سياسات كيتا المدعوم فرنسيًا، خلال الأعوام الماضية، فإن الأزمة دخلت نفقها المظلم مارس الماضي، في أثناء الإعداد للانتخابات التشريعية، حيث تم اختطاف زعيم المعارضة المالية الشهير صوميلا سيسي، في سابقة هي الأولى لشخصية لها هذا الثقل، الأمر الذي أجج الشارع السياسي برمته.
ورغم الأجواء الملتهبة بسبب اختطاف زعيم المعارضة بجانب تفشي فيروس كورونا المستجد، فإن السلطات أصرت على إجراء الجولة الأولى من الانتخابات رغم اختطاف وكلاء انتخابيين بجانب أعمال تخريبية في بعض مراكز الانتخاب.
وفي 30 مارس 2020 أعلنت المحكمة الدستورية النتائج الأولية للانتخابات وجاء معظمها لصالح حزب الرئيس الذي يتقلد السلطة منذ 2013، الأمر الذي أدى إلى نشوب مظاهرات، فيما دشن الإمام المؤثر محمود ديكو وعدد من أحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني تحالفًا قويًا دعا إلى الاحتجاج والضغط على الرئيس لمطالبته بالتنحي.
واستجابة للتحالف المعارض الذي تم تدشينه نهاية مايو، خرج بضعة آلاف من المواطنين الماليين في تظاهرات جابت شوارع العاصمة، هتفوا خلالها ضد الرئيس، رافعين شعارات استقالته من منصبه، ورغم تلك الأجواء الملتهبة جدد الرئيس الثقة في رئيس الوزراء بوبو سيسيه وكلفه بتشكيل حكومة جديدة، وهو ما أثار حفيظة الغاضبين الذين واصلوا تظاهراتهم المطالبة بإقالة الرئيس والحكومة معًا.
وأمام تلك التظاهرات الاحتجاجية القوية، استجاب الرئيس إلى الضغوط الممارسة عليه وذلك عبر إعلانه مراجعة قرار المحكمة الدستورية بشأن الانتخابات التشريعية، لكنها الخطوة التي لم ترض المتظاهرين وقادة المعارضة الذين هددوا باللجوء إلى العصيان المدني.
وفي 10 يوليو أخذت المواجهات منحى أكثر عنفًا، حيث تحولت باماكو إلى مسرح للاحتجاج العنيف، ما أسفر عن مقتل شخصين على الأقل وإصابة أكثر من 70، بخلاف التلفيات التي تعرضت لها بعض الممتلكات، مع وعود الرئيس مواصلة الحوار لتهدئة الأوضاع.
واستمرت موجات المد والجذر بين النظام والمعارضة دون التوصل إلى حل مرضي، حتى وصل الأمر إلى تمرد بعض العسكريين الذين اعتقلوا الرئيس وبعض أفراد السطة في إحدى القواعد العسكرية القريبة من العاصمة، ما ترتب عليه التنحي وحل الحكومة والبرلمان، في تحول هو الأخطر خلال الآونة الأخيرة.
قلق دولي
توالت ردود الفعل الدولية التي عبرت عن قلقها وإدانتها للتطورات الأخيرة في المشهد المالي، حيث طالب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بالإفراج الفوري وغير المشروط عن الرئيس المالي وأعضاء حكومته المحتجزين في قاعدة كاتي العسكرية.
فيما جمدت المجموعة الاقتصادية والنقدية لغرب إفريقيا (إكواس) عضوية مالي وأغلقت الحدود معها، كما طالبت بتجهيز القوة العسكرية لدول المجموعة ضمن خطتها للتعامل مع الأزمة، بينما جددت دول الإيكواس – التي تضمّ إلى جانب مالي 14 دولة أخرى – معارضتها الحازمة لأي تغيير سياسي غير دستوري، وتدعو الجيش للالتزام بمبادئ الجمهورية.
كما طالب الناطق باسم الحكومة التشادية بإطلاق سراح الرئيس وأعضاء حكومته، والعودة إلى ثكناتهم، مؤكدًا أن بلاده تؤيد قرار وموقف “إكواس” في مسعاها لحل الأزمة، محذرًا من تفاقم الوضع وخروجه عن السيطرة، في الوقت الذي طالبت فيه دول إفريقية أخرى كالنيجر بعقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي، وهو المطلب ذاته الذي نادت به فرنسا.
الاتحاد الأوروبي أدان هو الآخر ما أسماه “محاولة الانقلاب الجارية في مالي”، بينما عبرت الولايات المتحدة عن قلقها بشأن الوضع الميداني في الدولة الإفريقية، وقال مبعوثها الخاص لمنطقة الساحل إن بلاده تعارض جميع التغييرات غير الدستورية للحكومة.
رسالة إلى الإليزيه
كثير من الخبراء يرون أن سقوط نظام كيتا جرس إنذار ورسالة شديدة اللهجة لفرنسا، التي طالما ساندت الرئيس وكانت بمثابة الداعم الأكبر له في مواجهة تطلعات شعبه، وذلك في مقابل حصولها على العديد من الامتيازات التي رهنت القرار السياسي للبلاد لصالح الإليزيه.
تعتبر فرنسا التي تضع يدها على مالي منذ نهاية القرن التاسع عشر أن الدولة الإفريقية تلك هي قاعدة النفوذ الفرنسي المتبقي داخل القارة السمراء، وعليه ظلت حاضرة وبقوة في المشهد بتفاصيله كافة، حتى تحولت مالي إلى ما يشبه المستعمرة الفرنسية.
حتى بعد أن نعمت البلاد باستقلالها عام 1960 ظلت تحت إمرة الحاكم الفرنسي أيضًا، وبات القرار السياسي في قبضة الحكومة الباريسية، فلا سلطة للنظام الحاكم في مالي دون الرجوع إلى الإليزيه، وهو ما عظم من مشاعر الاحتقان الشعبي تجاه الأنظمة الحاكمة لهذا البلد.
ومنذ 2013 تنشر فرنسا قرابة (4500 عسكريًا) داخل الدولة الإفريقية في إطار قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2085 الصادر في 20 من ديسمبر/كانون أول 2012، الذي يسمح بإنشاء قوة دولية لدعم مالي في حربها لاستعادة الشمال، وهي القوة الموجودة حتى الآن دون أي إنجاز محقق على أرض الواقع.
وقد تحولت مالي إلى مستنقع استنزاف للجيش الفرنسي حيث تكبد خلال السنوات الثمانية الماضية العديد من الخسائر المادية والبشرية، قُتل خلالها قرابة 41 جنديًا فرنسيًا على الأقل، بينهم 17 في عام 2019، وهي ثاني أكبر خسارة بشرية لفرنسا منذ حرب الجزائر.
وتفنيدًا للادعاءات الفرنسية بشأن مبررات الوجود طيلة السنوات السبعة الماضية والعمل على تخليص البلاد من الأعمال المتطرفة، فإنه وحتى كتابة هذه السطور فإن الجماعات الجهادية لا تزال تكثف من عملياتها ضد الجيش الوطني، بل الأمر تجاوز الاستهداف الشمالي إلى التوسع في الوسط والجنوب، وكذلك دول الجوار، النيجر وبوركينا فاسو.
إصرار فرنسا على البقاء في مالي يحمل العديد من الرسائل والدلالات الخاصة بحرص الإليزيه على الإبقاء على واحدة من أكثر قواعده السياسية والعسكرية في القارة الإفريقية، غير أن ما حدث خلال الساعات الماضية ربما يضع النفوذ الفرنسي الإفريقي على المحك.. لذا كان الطلب بتدخل دولي في أسرع وقت لإعادة الأمور إلى ما قبل الأمس.
على كل حال فإن غد مالي لن يكون كما الأمس، فسقوط كيتا ونظامه خطوة نحو إنشاء نظام سياسي مدني يقوم على التعددية، أخذًا بزمام الأمور نحو المشاركة الشعبية في الحكم والاستقلال بالرأي والإرادة بعيدًا عن ارتهان القرار بأجندات أجنبية، وهو ما يضع العديد من التحديات أمام المستعمر الفرنسي للإتيان بنظام يدين له بالولاء والطاعة كما كان… فهل ينجح؟ هذا ما سيجيب عنه الشارع المالي وتيار المعارضة الذي بات اليوم في وضعية أقوى مما كان عليه في السابق.