ترجمة وتحرير: نون بوست
أحيلت القضية إلى المحاكمة في بلد بعيد عن مسرح الجريمة ولم يقع احتجاز أي من المتهمين، وقد تكلّف رفع الدعوى وتوظيف جيوش من المحققين والباحثين والمحامين الملايين من الدولارات. لكن الحكم الصادر يوم الثلاثاء بشأن أخطر اغتيال سياسي في تاريخ لبنان الحديث، ترك الكثير من الغموض والأسئلة المفتوحة، وفي مقدمتها السؤال الجوهري: من الذي أصدر الأمر بتنفيذ الاغتيال؟
بالنسبة للهجوم الانتحاري الضخم الذي نُفّذ بسيارة مفخخة في بيروت عام 2005، والذي هزّ الشرق الأوسط وأودى بحياة رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري و21 شخصا آخر، برأت المحكمة الدولية التي تُشرف عليها الأمم المتحدة، ومقرها في هولندا، ثلاثة متهمين لعدم كفاية الأدلة. وقد أُدين المتهم الرابع، وهو سليم عياش، بالمشاركة في التخطيط لتنفيذ الاغتيال. ولكن إذا تم القبض عليه، سيتعين على المحكمة محاكمته مرة أخرى لأنه الحكم كان غيابيًا.
بعد طول انتظار، خيّب حكم المحكمة الخاصة بلبنان، والتي تم تشكيلها في عام 2009 بناء على طلب من مجلس الأمن، آمال العديد من اللبنانيين وغيرهم ممن كانوا يأملون في أن يكشف التحقيق الدولي عن المسؤولين عن الجريمة ويعاقبهم، بما يساعد على كسر حلقة إفلات مرتكبي جرائم الاغتيال السياسي في البلاد من العقاب.
على الرغم من أن المحكمة صرحت أن سوريا وحزب الله، الميليشيا المسلحة اللبنانية ذات النفوذ الكبير، يملكان الدافع لقتل الحريري، إلا أنها قالت إنها لا تملك الأدلة المباشرة التي تثبت تورطهما في الجريمة.
في هذ الصدد، يقول نديم حوري، المدير التنفيذي لمبادرة الإصلاح العربي، وهو مركز أبحاث يتخذ من باريس مقرا له: “الأمر يشبه أحداث الحادي عشر من أيلول /سبتمبر، حيث وقع اتهام الخاطفين ولم يُتّهم بن لادن.. ينطبق الأمر ذاته على هذه القضية، فالأمر يتجاوز دور عياش”.
ويضيف عياش أنه من غير المرجح العثور على عياش، وهو حسب رأيه “مجرد بيدق” وليس العقل المدبر للهجوم.
وجهت المحكمة التي تُشرف عليها الأمم المتحدة التهمة للبناني واحد في تفجير سنة 2005 الذي أودى بحياة رفيق الحريري، رئيس وزراء لبنان الأسبق.
في الحقيقة، كان الحريري شخصية بارزة على الساحة السياسة اللبنانية، ورجل أعمال ثريا ومؤثرا يتمتع بعلاقات واسعة في الولايات المتحدة وأوروبا والمملكة العربية السعودية، وقد استخدم ثروته وعلاقاته لتعزيز نمو لبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية المدمّرة التي استمرت 15 عامًا وانتهت سنة 1990.
لكن مقتله في 2005 أعلن بداية حقبة جديدة مضطربة في السياسة اللبنانية، تنافست خلالها كتلته السياسية المتحالفة مع الغرب والخليج، مع خصوم مدعومين من سوريا وإيران، بما في ذلك حزب الله، الميليشيا المسلحة والحزب السياسي القوي. تلت ذلك سلسلة من الاغتيالات لشخصيات بارزة أخرى، ولم يتم إدانة أي من القتلة أو معاقبتهم.
في البداية، كان العديد من اللبنانيين يتطلعون إلى أن يؤدي تشكيل المحكمة الدولية إلى تحقيق العدالة، لكن التحقيقات وجلسات الاستماع استمرت لفترة طويلة إلى أن أضحت جريمة القتل من الماضي.
في الأشهر الأخيرة، اندلعت الاحتجاجات ضد الفساد وسوء إدارة النخبة السياسية، لاسيما بعد انهيار الاقتصاد والعملة بشكل شبه كامل. كما شهدت البلاد انفجارا هائلا في مرفأ بيروت أودى بحياة أكثر من 170 شخصًا وجرح ستة آلاف آخرين.
تقول مديرة مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت مهى يحيَ، إنها شعرت وكأن المحكمة تعيش في “حقبة مختلفة”. جاء الحكم في وقت كان يتجادل فيه السياسيون اللبنانيون حول إمكانية فتح تحقيق دولي في تفجير بيروت.
من المحتمل أن تقوض قرارات المحكمة المحدودة آمال الكثيرين في محاسبة المسؤولين عن الانفجار. وتتساءل يحيَ قائلة: “إذا كانت النتيجة بعد 15 سنة وتشكيل محكمة خاصة بلبنان وتعيين محققين دوليين، على هذا النحو، فكيف سيقع محاسبة أي شخص مسؤول عن انفجار مرفأ بيروت؟”.
أفراد من الطوارئ وهم يفحصون المكان بعد انفجار السيارة المفخخة التي أسفرت عن مقتل الحريري و21 شخصًا آخر.
حضر سعد الحريري، نجل رفيق الحريري الذي شغل بدوره منصب رئيس وزراء لبنان في السابق، جلسة النطق بالحكم يوم الثلاثاء، وصرّح للصحفيين بعد صدور الحكم إنه قبله هو وأسرته. وعلى حسابه في تويتر، وصف سعد الحريري الحكم بأنه “لحظة تاريخية، وهو رسالة للذين ارتكبوا هذه الجريمة الإرهابية وللمخططين وراءهم، بأن زمن استخدام الجريمة في السياسة من دون عقاب ومن دون ثمن، انتهى”.
وقد أصدرت المحكمة حكمها بعد ساعات من تقديم القضاة بيانات موجزة عن القضية، ومرافعات فريقي الادعاء والدفاع.
واعتبرت المحكمة القتل عملا إرهابيا بدوافع سياسية ووصفت المتهمين الأربعة، وهم سليم عياش، وحسن حبيب مرعي، وحسين حسن عنيسي، وأسد حسن صبرا، بأنهم من أنصار حزب الله.
قبل أشهر من مقتله، استقال الحريري الأب من منصب رئاسة الوزراء احتجاجا على التدخل السوري المستمر في شؤون البلاد، بما في ذلك بقاء القوات السورية على الأراضي اللبنانية.
لم يذكر القضاة الجهة التي خططت للهجوم، لكنهم قالوا إنه “من المحتمل جدا” أن يكون القرار النهائي باغتياله قد اتُخذ بعد الاجتماع الذي عقده الحريري مع عدد من السياسيين في 2 شباط /فبراير 2005، وقرروا خلاله المطالبة بـ “الانسحاب الفوري والكامل للقوات السورية من لبنان”.
بعد مرور شهر على عملية الاغتيال، نزل المتظاهرون إلى شوارع بيروت تنديدا بسوريا
بعد مقتل الحريري، توجّهت أصابع الاتهام إلى سوريا التي نفت أي دور لها في الجريمة. قد أدى الهجوم المروّع الذي أسفر عن إصابة المئات، وترك فجوة كبيرة بالقرب من الواجهة البحرية لبيروت، إلى خروج أكثر من مليون متظاهر إلى شوارع لبنان. وبالتزامن مع ضغوط دولية، أجبرت الاحتجاجات سوريا على سحب قواتها من لبنان.
قال القضاة في ملخص قرار الحكم الذي جاء في 2600 صفحة، إن خطة الاغتيال قد اعتمدت على كمية هائلة من المتفجرات عالية الجودة، حيث كان الهدف منها إثارة “الخوف والذعر” الذي يتردد صداه في جميع أنحاء لبنان والإقليم.
قال زعيم حزب الله حسن نصر الله، مرارا إن المحكمة مؤامرة غربية، وهدد بمطاردة كل من يتعاون معها. لم يعلق الحزب على الحكم الصادر يوم الثلاثاء على الفور، إلا نصر الله صرح لاحقا أن حزب الله لا يعطي قرارات المحكمة أي اعتبار.
وقال ممثلو الادعاء إن أبرز شخصية من بين المشتبه بهم هي مصطفى أمين بدر الدين، وهو من أقدم الأعضاء في فريق العمليات الخاصة لحزب الله، ومن المقربين من كبار قادته. لكن القضية المرفوعة ضده أُغلفت عندما قُتل في سوريا عام 2016.
بالنسبة لمنتقدي المحكمة، فإن هناك فرقا شاسعا بين محاكمة بعض نشطاء حزب الله الذين لا يحتلون مناصب رفيعة، والنتائج التي توصل إليها محققو الأمم المتحدة الذين تم إرسالهم إلى بيروت بعد الاغتيال بوقت قصير.
وفي أحد تقاريرهم، وصف المحققون الاغتيال بأنه عملية محترفة ومعقدة تتطلب “دعما لوجستيا كبيرا”، وتمويلا هائلا، و”دقة عسكرية في التنفيذ”.
قدم المدعي العام الألماني ديتليف ميليس الذي أشرف على تحقيق ثان في 2005، وبعد أبحاث استمرت ستة أشهر، قائمة تضم ما يقارب 20 مشتبها، من بينهم عدد من كبار المسؤولين اللبنانيين والسوريين.
وقال دبلوماسيون إن ميليس ترك المهمة في ذلك الوقت على مضض، بعد أن تم تحذيره من مؤامرتين لاغتياله. وقُتل حينها ما لا يقل عن ضابطي شرطة لبنانيين ساعدا في التحقيقات.
سعد الحريري، نجل رفيق الحريري ورئيس وزراء لبنان السابق يغادر المحكمة يوم الثلاثاء. قال الحريري للصحفيين إنه وعائلته قد قبلوا بالحكم.
بنى المدعون الجزء الأكبر من القضية على أدلة ظرفية، معظمها تسجيلات طويلة من الهواتف المحمولة التي استخدمها العملاء خلال أسابيع من تعقبهم لتحركات الحريري سرا.
طالب جميع محامي الدفاع الذين عينتهم المحكمة ببراءة المتهمين، مؤكدين أنه لا يوجد أي دليل على أن موكليهم قد استخدموا تلك الهواتف المحمولة. وجادل المحامون بأن سجلات المكالمات بإمكانها أن تكشف عن مكان وتاريخ وتوقيت المكالمة، إلا أنها لا تؤكد هويات المستخدمين.
وقد كان من المقرر النطق بالحكم في السابع من أغسطس/آب، لكن تم تأجيله بعد انفجار مرفأ بيروت. وقد أثيرت أسئلة حول التكلفة المالية الباهظة للمحكمة، حيث بلغ عدد الموظفين 400، بما في ذلك المدعون العامون، وأحد عشر قاضيا متفرغا.
دفع لبنان نصف الميزانية السنوية للمحكمة، أي 60 مليون دولار، بمساعدة من السعودية، وجاء النصف الآخر من تبرعات الدول الغربية ودول الخليج العربي. إلا أن العديد من المنتقدين رأوا أنه من غير المبرر أن تخصص كل هذه المبالغ من أجل محاكمة متهم واحد غائب.
وعلّقت إحسان فايد، زوجة طلال ناصر رئيس فريق الأمن الخاص لرفيق الحريري، والذي قُتل معه في الحادث، عبر الهاتف، قائلة إن المحكمة جمعت الأدلة وحددت المشتبه بهم وحكمت على رجل واحد.
وقالت فايد إنها تأمل “أن يتم القبض عليه، ليقودنا إلى العقل المدبر وراء هذه الجريمة”.
المصدر: نيويورك تايمز