عرفت العلاقات الإفريقية الإسرائيلية، منذ انطلاقتها بداية خمسينيات القرن الماضي تغييرات كبرى من الاستقرار إلى التوتر رجوعًا إلى الاستقرار مرة أخرى، لكن الواضح أن الإسرائيليين تمكنوا من فرض هيمنتهم في القارة الإفريقية خاصة بعد تخلي العرب عن القضية الفلسطينية وتقربهم إلى تل أبيب سرًا وجهرًا.
نتيجة تخلي العرب عن الفلسطينيين، لم تعد الأنظمة الإفريقية تجد حرجًا في التطبيع مع الكيان الصهيوني، فالسبب الذي كان حائلًا بين بعض القادة الأفارقة والهرولة نحو “إسرائيل” والتطبيع معها لم يعد موجودًا ما دام العرب – أصحاب القضية – قد تنكّروا له.
هذا التقرير لـ”نون بوست”، سيكون بدايةً لملف جديد عن واقع التغلغل الإسرائيلي في القارة الإفريقية، سنتحدث فيه عن أساليب تغلغل “إسرائيل”، خاصة دعم الأنظمة المستبدة وبيع الأسلحة لها، فضلًا عن الشركات الخاصة التي تعتمد عليها “إسرائيل” في هذا المجال.
استقرار فتوتر فاستقرار
بدايةً سنعود قليلًا إلى الوراء، إلى أربعينيات القرن الماضي، وتحديدًا عام 1948، ففي تلك السنة اعترفت ليبيريا بما يُسمى الدولة الإسرائيلية، كأول دولة إفريقية عقدت معها “إسرائيل” معاهدة صداقة وتعاون، وثالث دولة في العالم تعترف رسميًا بالكيان الصهيوني.
في نفس السنة، اعترف نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا بالكيان الإسرائيلي، معلنًا عن علاقات دبلوماسية تطورت بعد ذلك لتشمل مختلف نواحي التعاون الاقتصادي والعسكري.
بعد ذلك بـ10 سنوات زارت غولدا مائير وزيرة الخارجية آنذاك كل من ليبيريا وغانا ونيجيريا والسنغال وساحل العاج. وفي كلمة لها أمام الكنيست قالت: “الدول الإفريقية التي زرتها تضم شعوبًا طيبةً وصادقةً وبعيدةً عن العُقَد، وتستحق بذل المعونات لها، ويجب أن لا تقتصر صداقتنا على أوروبا وأمريكا”.
افتتحت مائير، حينها، سفارة في غانا ثم توسعت رقعة النشاط الدبلوماسي الإسرائيلي لتشمل نيجيريا والسنغال وساحل العاج، وقد ساعدها في ذلك قوة النفوذ الفرنسي في تلك الدول.
في تلك الفترة نجحت “إسرائيل” في إقامة علاقات مع 32 دولة إفريقية، أي عمليًا مع كل دول القارة باستثناء الدول العربية والإسلامية والمستعمرات البرتغالية، واستطاعت أن تفتح سفارات في 30 بلدًا إفريقيًا، بينما احتفظت بعلاقات قنصلية مع جنوب إفريقيا وموريشيوس.
تستفيد الأنظمة القمعية والديكتاتورية في القارة الإفريقية من عمل الشركات الإسرائيلية في تتبُّع أهم معارضيها واختراق أجهزتهم الإلكترونية الشخصية
سنة 1967، تغيرت المعادلة، فبعد الاستقرار بدأ التوتر في العلاقات بين الطرفين، حيث أدى العدوان الإسرائيلي على مصر وسوريا والأردن، آنذاك، إلى تغيير صورة الكيان الإسرائيلي لدى الأفارقة، وبدأت دول إفريقية عديدة في مراجعة علاقتها مع الكيان، حتى إن أربع دول (غينيا وأوغندا وتشاد والكونغو برازفيل) أعلنت قطعها العلاقات مع الصهاينة.
هذا التوتر ازداد حدّة عقب حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 مع مصر وسوريا، حيث أصدرت منظمة الوحدة الإفريقية قرارًا تضمن تحذيرًا رسميًا لـ”إسرائيل” بأن رفضها الجلاء عن الأراضي العربية المحتلة يعتبر اعتداءً على القارة الإفريقية وتهديدًا لوحدتها، وأمام تعنت الإسرائيليين قطعت 31 دولة علاقتها الدبلوماسية مع تل أبيب بشكل جماعي.
سنة 1978، وقّعت مصر و”إسرائيل” اتفاقية كامب ديفيد للسلام، وهو ما مثّل حجة للأفارقة لاستئناف العلاقات الدبلوماسية مع الإسرائيليين، فأعادت زائير (الكونغو الديمقراطية حاليًّا) في مايو/أيار 1982 علاقاتها، وكذلك فعلت ليبيريا في أغسطس/آب 1983، وكوت ديفوار في فبراير/شباط 1980، والكاميرون في أغسطس/آب من العام نفسه، وتوغو في يونيو/حزيران 1987، قبل أن تقع استعادة العلاقات الرسمية، في تسعينيات القرن الماضي، في نحو 40 بلدًا من إفريقيا جنوب الصحراء.
يمتلك الكيان الإسرائيلي، حاليًّا، 11 بعثة دبلوماسية في القارة الإفريقية، وتحديدًا في رواندا والسنغال ومصر وأنغولا وغانا وكوت ديفوار وإثيوبيا وجنوب إفريقيا ونيجيريا وكينيا والكاميرون، وثمة العديد من السفراء الإسرائيليين غير المقيمين في دول إفريقية، في حين أن 15 دولة إفريقية لديها سفارات دائمة في “إسرائيل”.
الجوسسة والتنصت
تخلي العديد من الأنظمة الإفريقية عن بعض مُثُلهم السياسية والأخلاقية، لم يكن مجانيًا، فقد أفلح الإسرائيليون في التسويق لكيانهم على أن لديهم خبرات أمنية متطورة في مكافحة الإرهاب، وأنهم أنتجوا وسائل تكنولوجية متطورة للمراقبة والتنصت والجوسسة.
يقدم الكيان الإسرائيلي نفسه على أنه الخبير الأول في مجال الاستخبارات والتدريب العسكري، وقد ركز في تفاعلاته الإفريقية منذ البداية على هذه المسائل التي تمت ترجمتها على شكل شركات أمنية تحاول دائمًا إثارة مخاوف أنظمة الحكم الإفريقية من معارضيهم.
أحد أحدث برامج الاختراق والتجسس التي تروج لها “إسرائيل” ما يعرف باسم “بيغاسوس”، وبرز اسم برنامج “بيغاسوس” في السنوات الأخيرة كأحد أكثر الأنظمة خطورة في التجسس على الهواتف الخلوية، ويستخدم للتنصت على نشطاء حقوق الإنسان ومراقبة رسائل البريد الإلكتروني واختراق التطبيقات وتسجيل المحادثات.
نتيجة تقدم جماعات مسلحة في غرب إفريقيا وشمالها، فإن دولًا إفريقية مثل كينيا وإثيوبيا أصبحت تهتم كثيرًا بالحصول على التقنية الإسرائيلية في مجالات الدفاع والأمن إضافة إلى تبادل المعلومات الاستخباراتية.
استغلت “إسرائيل” حاجة العديد من القادة الأفارقة إلى التنصت والتجسس على معارضيهم والحصول على الوسائل التقنية الكفيلة بتحقيق ذلك الغرض، فهي تقدم للأنظمة برامج وتكنولوجيا التجسس، كما تقدم لهم الدعم اللوجستي الأمني من خلال توفير المعلومات الأمنية التي تُجمَع بواسطة الاستخبارات الإسرائيلية.
تستخدم “إسرائيل” شركة التقنيات الشهيرة “إن إس أو” (NSO)، وهي شركة إسرائيلية تعمل في المجال الأمني والتكنولوجي، وتُنتج عددًا من برامج التتبُّع والمراقبة، وذلك لدعم تعاونها مع الأنظمة الإفريقية الحاكمة في المجال الأمني، وتستفيد الأنظمة القمعية والديكتاتورية في القارة الإفريقية من عمل هذه الشركات في تتبُّع أهم معارضيها واختراق أجهزتهم الإلكترونية الشخصية، حتى تسيطر على الوضع وتحكم قبضتها على دواليب الدولة الصغيرة والكبيرة.
ففي توغو مثلًا، استخدم النظام برامج “بيغاسوس” فائقة التطور لاستهداف رجال الدين الكاثوليك ونشطاء المجتمع المدني والمعارضين السياسيين، رغم ما يشكله الأمر من خطر على الحريات والديمقراطية في البلاد.
شركات أمنية خاصة
فضلًا عن شركات التكنولوجيا، أنشأ الكيان الصهيوني شركات المرتزقة، ومن أبرزها شركة “ليف دان” وشركة “الشبح الفضي” وشركة “بنيتل إنترناشيونال سكيوريتي” التي تتولى تدريب وتسليح مليشيات قبلية لحماية الرؤساء والشخصيات السياسية المهمة.
أصبح أمن العديد من الدول الإفريقية مرتهنًا لهذه الشركات الأمنية التي تعمل بشكل سافر على تحطيم استقلالية هذه الدول، فقد استباحت هذه الشركات حرمة دول إفريقيا في ظل غياب تام لقانون ينظم عملها.
وتعتبر الشركات الأمنية الخاصة إحدى الأذرع العسكرية للأنظمة الاستبدادية، ويُؤكد انتشارها بشكل متزايد في إفريقيا عجز المنظومة السياسية لدول القارة عن مجابهة آليات اختراق السيادة، فبدل حماية الحدود وصيانة السيادة، تتجه تلك الأنظمة إلى قمع الشعوب الإفريقية.
هذه الشركات الأمنية الخاصة، أسسها عدد من الضباط الإسرائيليين المتقاعدين ممن لهم علاقات واسعة مع القادة والرؤساء الأفارقة، وسبق أن كشفت المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا أن هؤلاء الضباط يُسَجِّلون هذه الشركات في دول أوروبية وفي دول أخرى نظرًا إلى الحساسية التي تُثيرها جنسيتهم الإسرائيلية.
بعد تخلي العرب عن قضيتهم المركزية الأولى، وجد الكيان الإسرائيلي، أرضًا خصبةً في إفريقيا ما جعله يمدّ أذرعه ويبسط نفوذه هناك
سبق أن نبهت العديد من المنظمات الحقوقية إلى مدى النفوذ والحصانة المطلقة التي تتمتع بها هذه الشركات الأمنية في العديد من الدول الإفريقية، وهو ما يُبرز “الاختراق الإسرائيلي الرسمي للدول الإفريقية، والتحكُّم في مقدَّراتها السيادية”.
اندلاع بعض النزاعات الإفريقية والحاجة التي أبدتها بعض الدول الضعيفة أو الديكتاتورية إلى الدعم الأمني، فضلًا عن انسحاب الدول العظمي وعجز الأمم المتحدة عن تعبئة القوات اللازمة، ساهم بشكل كبير في انتشار هذه الشركات، وزاد انتشار هذه الشركات الأمنية الخاصة من قمع الشعوب المضطهدة واستباحة المجال الإفريقي استخباراتيًا وارتهان استقلال الدول الإفريقية وحرمة كيانها لصالح هذه الشركات التي ترتبط مباشرة وعلانية مع الموساد الإسرائيلي.
دعم الأنظمة الاستبدادية
ضمن أساليب التغلغل في القارة الإفريقية أيضًا، اعتمد الإسرائيليون على سياسة دعم أنظمة الحكم الاستبدادية هناك، فهي غالبًا ما تدرّب كتائب الحرس الرئاسي – أهم التشكيلات العسكرية وأكثرها تأهيلًا وتسليحًا – حتى تحمي حلفاءها على رأس السلطة.
يوجد في دول القارة الإفريقية المئات من المستشارين العسكريين الإسرائيليين – ممن لهم خبرة في محاربة الجماعات المسلحة – وتتمثل مهمتهم في تدريب حراس الرئاسة الأفارقة وأجهزة الاستخبارات، ففي الكاميرون مثلًا تلقت وحدة الحرس الرئاسي، أهم وحدة عسكرية عملت على حماية حكم الديكتاتور بول بيا لمدة 33 عامًا، تدريبات على يد آفي سيفان إي، وهو ضابط متقاعد بالجيش الإسرائيلي، ومعه عدد من ضباط وجنود وحدات النخب لقوات الكومندوز البحرية الإسرائيلية “شايطت”.
ليس هذا فقط، بل يوجد عدد كبير من المستشارين والخبراء الإسرائيليين في صفوف جيوش دول إفريقية، خاصة في كينيا وأوغندا، لتدريب عناصرها ومدِّهم بالسلاح، خصوصًا في سلاح الطيران والزوارق الحربية والمدفعية والأجهزة الإلكترونية ومعدات الاتصال.
دعم الأنظمة المستبدة يظهر جليًا في رواندا أيضًا، فقد سبق أن دعمت “إسرائيل” قوات الحكومة الرواندية التي كان يسيطر عليها الهوتو في حربهم ضد جماعة التوتسي في تسعينيات القرن الماضي، وزودتهم بالرصاص والبنادق والقنابل اليدوية، وقد تسببت هذه الحرب الأهلية في جرائم إبادة جماعية وسقط فيها نحو مليوني قتيل.
في الكاميرون مثلًا، ماير هيريس المستشار الأمني للرئيس بول بيا، هو نفسه رئيس كتيبة التدخل السريع، وهي القوة الأفضل تجهيزًا والأفضل تدريبًا في البلاد، ليس كاميرونيًا، بل جنرال متقاعد في الجيش الإسرائيلي.
وتعد كينيا وأوغندا الحليفتين الرئيسيتين للكيان الإسرائيلي في القارة الإفريقية، وهو ما يفسّر إرسال مستشارين خاصين ووحدات قتالية صغيرة وطائرات دون طيار ومعدات المراقبة والقوارب البحرية السريعة لدعم الأنظمة هناك.
بعد تخلي العرب عن قضيتهم المركزية الأولى، وجد الكيان الإسرائيلي، أرضًا خصبةً في إفريقيا ما جعله يمدّ أذرعه ويبسط نفوذه هناك، خاصة أن العديد من أنظمة الحكم الاستبدادية في القارة السمراء وجدوا بها مبتغاهم.