ترجمة وتحرير: نون بوست
عندما وقع محاكمة “نهر” الفلسطينية التي تجاوزت الثلاثين من عمرها، بطلة رواية سوزان أبو الهوى الجديدة بعنوان “ضد عالم بلا حب“، في محكمة إسرائيلية، أجريت المحاكمة بالكامل باللغة العبرية. لم تكتشف نهر حتى دخولها السجن طبيعة جريمتها المزعومة.
مع إجراء المحاكمة مع اقتراب الرواية من نهايتها، يكون القارئ بالفعل على دراية كافية بشخصية نهر – والمتعة التي تشعر بها من جرّ الإسرائيليين على وجه الخصوص في دوامة من الحيرة من خلال التصرف بطريقة غير تقليدية وسلوكها المثير للدهشة في قاعة المحكمة، حيث بدأت بتأدية مزيج من الأغاني العربية، على أمل أن تجعل زوجها بلال – الذي اعتُقل عدة مرات ويمثل نموذجًا للمقاومة – فخورا بها أينما كان:
“بدأت بأغنية “يما مويل الهوى” لضبط مزاجي، على إثر ذلك حذّرتني القاضية من المواصلة. انتظرت بعض الوقت، ثم غنيت كل أغنية أذكرها لعبد الحليم حافظ مثل “الهوى هوايا” تليها الأغنية المفضلة لدي “قارئة فنجان”. شعرت القاضية بحيرة من أمرها ثم غضبت، ثم صرخت في وجهي وعلى وكلاء النيابة والمحامين والمحضرين. وأمرت الحراس بإسكاتي”.
أثناء غنائها، تلخص نهر – الراوي الذي يستخدم ضمير المتكلم – وظيفة أدائها لدور القارئ بقولها: “لقد استعمرت مساحة سلطة المستعمر. لقد حررت نفسي من القيود وجعلت قاعة المحكمة رهن حريتي”.
اتضح أن كلمات نهر تتلاءم مع ما هو أبعد من السياق المباشر، لأن رواية “ضد عالم بلا حب” تشكل بحد ذاتها تحديًا للروايات الاستعمارية واستعادةً للأراضي الفلسطينية بالنسبة لأبو الهوى وشخصياتها على حد سواء.
تنحدر الكاتبة الأمريكية والناشطة في مجال حقوق الإنسان وعالم أحياء من أصول فلسطينية وتحديدا من القدس المحتلة، وهي تقيم حاليًا في ولاية بنسلفانيا. ألّفت العديد من الكتب، بما في ذلك “الأزرق بين السماء والماء” وروايتها الأولى المشهورة، “الصباحات في جنين” – حول أجيال مختلفة لعائلات لاجئة فلسطينية – التي صدرت مترجمة إلى أكثر من 30 لغة وبيعت منها أكثر من مليون نسخة حول العالم. كما أسست أبو الهوى منظمة ملاعب في فلسطين، وهي منظمة تعنى ببناء مساحات ترفيهية للأطفال في ظل الاحتلال الإسرائيلي.
من كتاباتها وظهورها العام، تبدو أبو الهوى – تمامًا مثل شخصية نهر الخيالية – شخصية لا تبالي بأحد، متجاهلة التأثيرات على سمعتها الشخصية أو وظيفتها. فعلى سبيل المثال، قبل بضع سنوات، واجهت علنًا آلان ديرشوفيتز، المقيم السابق في كلية الحقوق بجامعة هارفارد والمناصر لجرائم الحرب الإسرائيلية، في مهرجان بوسطن للكتاب في سنة 2010، وبهدوء دحضت كل حججه.
الزنزانة
ضد عالم بلا حب، هي رواية بها سبعة أقسام، كل قسم يبدأ بمشهد من الزنزانة “الأعجوبة التكنولوجية” حيث سُجنت نهر في ختام محاكمتها، وهي زنزانة انفرادية آلية بالكامل تقريبًا مشهورة في “الدوائر الأمنية” وشركات السجون الخاصة وشركات تكنولوجيا المراقبة وموردي وسائل العبودية المختلفين. وقد كانت تهمتها “الإرهاب” ـ وكأن الخيال السياسي الإسرائيلي يسمح بأكثر من ذلك.
كانت والدتها، التي كانت من بين اللاجئين القادمين من حيفا سنة 1948، حاملا عندما جعلتها “إسرائيل” مرة أخرى لاجئة في سنة 1967. هربت مع زوجها عبر نهر الأردن عند جسر الملك حسين الذي انهار:
“أخبرتني ماما: “لقد صليت إلى الله أنا ووالدك، وعقدت صفقة مع النهر. قلت إنني سأسميك على اسمه إذا لم يبتلع أيًا منا. “… لكن تسميتي باسم الأردن سيكون غريبا جدا. لذلك أطلقت علي اسم نهر”. نشأت نهر (مثل أبو الهوى) في الكويت، حيث يُمنح عدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين إقامة مؤقتة ويظلون من الطبقة الدنيا. لكنها كانت تحب العيش في الأردن: “لقد كان منزلي، وكنت من الرعايا المخلصين للعائلة المالكة”.
تزوجت نهر من محمد، الذي وصل إلى الكويت بعد إطلاق سراحه من السجن الإسرائيلي، ويوصف بأنه بطل مقاومة – على الرغم من أننا علمنا مع تواصل الأحداث أن سجنه كان له علاقة بأحداث وقعت في سياق علاقته بجندي “إسرائيل”ي اسمه إيتامار (يسميه “تمارا”). لكنه يتخلى عن نهر ويرجع إلى امرأة تدعى تمارا، مما يدمر مفاهيمها الخيالية عن الحب والزواج ويمهد الطريق لمستقبل مليء بالرجال.
بالنسبة للكتاب من عيار أبو الهوى، من الصعب معرفة الأشياء التي يتقنونها. لكنك تعلم أنهم يفعلون شيئًا ما أو أشياء كثيرة بشكل صحيح، لاسيما عندما تجد نفسك تتوقف بشكل مؤقت للتفكّر في عملية التفكير التي أدت إلى تكوين جملة معينة أو تطوير شخصية معينة أو وصف ظاهرة بسيطة بطريقة جديدة.
بعد ذلك تعرفت نهر على امرأة كويتية مسنة تُدعى أم براق، التي تقربت منها بعد أن شاهدتها ترقص في حفل زفاف، وهي تدير عملاً للدعارة من نوع ما. بدأت دون قصد بالانضمام إلى المجموعة ثم ابتزتها أم براق لتواصل العمل معها. لذلك قررت استخدام دخلها من هذه الأنشطة ووظائفها الأخرى لدفع تكاليف الدراسة الجامعية الخاصة بشقيقها.
حول “ما يسميه الناس الذين لا يعرفون الرقص الشرقي” بشكل جيد، كتبت أبو الهوى: “رقصنا يدور حول الفوضى والاضطراب، إنه مناقض للسيطرة. يتعلق الأمر بالتخلي عن سلطة الجسد، ومنح الاستقلال الذاتي لكل عظم وأربطة وأعصاب وألياف عضلية ناهيك عن الجلد والخلايا الدهنية وكل عضو فينا”.
أما بالنسبة لتخلي نهر عن جسدها للرجال، تبرع أبو الهوى في نقل طبقات الصراع المتنوعة، حيث قالت: “اشترى كل منهم قطعة صغيرة مني وأخذوها إلى الأبد. أتذكرهم جميعًا”. في الثاني من شهر آب/ أغسطس 1990، أرسلت أم براق نهر للرقص في حفلة لضباط الجيش السعودي، حيث تم إنقاذها في نهاية المطاف من التعرض لاغتصاب الجماعي عندما غزا العراق الكويت. في هذا الصدد، قالت نهر: “صدام حسين أنقذ حياتي في تلك الليلة، وطوال فترة تواجد العراق في الكويت، كنت امرأة سعيدة ومتحررة”.
لكن سرعان ما ساءت الأمور عند بداية الغزو الأمريكي والانسحاب العراقي الذي بعده بدأت الكويت في معاقبة سكانها الفلسطينيين على قرار زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات بالانحياز إلى صدام. اعتقل شقيق نهر من قبل قوات الأمن وفقد إحدى عينيه. بعد إطلاق سراحه، تغادر الأسرة إلى الأردن، بصفتهم لاجئين مرة أخرى. في هذه الأثناء، أشارت نهر إلى أن “الانتقال من مكان إلى آخر هو مجرد شيء يتعين على المنفيين فعله. مهما كان السبب، فالأرض التي نقف عليها ليست ثابتة”.
بطبيعة الحال، كانت “إسرائيل” السبب وراء هذه الحالة، التي بالإضافة إلى افتكاكها لأراضي الفلسطينيين، سعت إلى استئصال مفهوم الذات الفلسطينية – وذلك في إطار إبادة جماعية في الأساس لمحو الحيز الذي يمكن أن يشغله الفلسطينيون، وحقهم في الحياة في المقام الأول. ولكن من المؤسف بالنسبة لـ”إسرائيل” أن السكان لن يتنازلوا عن هذا الحق بسهولة تامة.
في عمان، اكتسبت والدة نهر شهرة من خلال تطريز أثواب الزفاف، مما دفع نهر إلى التفكير: “كان علي أن أصبح شخصًا آخر، شخصًا على الطرف الآخر من العار والاغتصاب والنفي، وذلك تقديرا كاملا لحقيقة أن والدتي، وهي أرملة بسيطة لم تدرس سوى في التعليم الابتدائي، كانت فنانة غير عادية. كانت والدتي صانعة للجمال، وأمينة رائعة على الثقافة والتاريخ”.
في النهاية، عندما يتطلب الأمر خياطة ثوب لحفل زفاف نهر الثاني – هذه المرة ستتزوج بلال شقيق محمد، وهو عضو مهم في المقاومة الفلسطينية – تصف والدتي عملها اليدوي باعتباره عملا من أعمال المقاومة بحد ذاته: “لقد فكرت كثيرًا في هذا وقررت استخدام أنماط أساسية لثوب القدس، لأننا مُحينا من قصتها وحجرها”.
يأتي تعريف بلال بفضل اتفاقية أوسلو – الكارثية – التي وقع توقيعها سنة 1993، والتي سمحت لنهر باستعادة وثيقة هويتها الفلسطينية والسفر إلى فلسطين لتأمين طلاقها من محمد. وقد بدأت عودتها إلى الوطن بالاستجواب الجزائي الإجباري والانتظار لمدة ستة ساعات على الحدود الأردنية الفلسطينية، وعلى إثرها، أخذت تُحدّق في المناظر الطبيعية وتنفست الصعداء.
ذكريات عن رحلات الطفولة وقصص أفراد الأسرة والجيران، وحتى تلك التي تصورت أنني قد تخلصت منها، وتجاهلتها… لقد كانوا في استقبالي، واحتضاني في ظل تشردنا الجماعي من هذا المكان الذي تدور فيه كل قصصنا”.
تابعت مشيرة إلى أن عملية العودة تعدّ بمثابة استعادة للأرض والتاريخ وتأكيد على أن “إسرائيل” حاولت جاهدة القضاء على الفلسطينيين: “من هنا بدأنا حيث ولدت أغانينا، ودُفن أجدادنا”. لقد جعلني صوت الأذان: “الذي تغلغل في صميمي، وأصابني بالقشعريرة، أُغمض عيني واستمع إلى نداء الصلاة”.
تُقيم نهر مع بلال ووالدته في الضفة الغربية، حيث أقام المستوطنون اليهود متجرًا على أرض العائلة. كان قد أُطلق سراح بلال حينها من السجن الإسرائيلي بموجب اتفاقية أوسلو، وكان يأخذها في نزهات طويلة، ويعلمها عن النباتات المختلفة التي تعترضهم وعما “يرتبط بها من أشكال التقاليد الشعبية، واستخداماتها في مجال الطهي، وقيمتها الطبية”.
كانا يقطفان الزعتر البري معا، والرمان من حين لآخر. “لم تكن الحياة في الكويت أو عمان برية مثل فلسطين”. في الواقع، أحد المجالات التي تتفوق فيها أبو الهوى بلا شك هو نقل مركزية الأرض والزراعة إلى الوجود الفلسطيني – وهو رابط جوهري لم تتمكن “إسرائيل” من اجتثاثه باستخدام القنابل والجرافات.
كانت هناك بساتين الزيتون الخاصة بالعائلة، التي تكون هدفًا للهجمات المسلحة ومحاولات إشعال النيران من قبل المستوطنين والجنود، خاصة خلال موسم الحصاد. أما فيما يتعلق بآداب الزراعة الأخرى من قبل من يسمون أنفسهم بأزهار الصحراء، كانت “إسرائيل تقنن المياه للفلسطينيين، وخاصة المزارعين، ثم تنتقل لمصادرة المزارع والبساتين التي تحتضر بسبب إهمالها”.
من أجل إنقاذ أشجار اللوز المحتضرة، تمكن بلال من تحويل المياه من المستوطنة – وهو إجراء يتطلب من نهر توصيل الأنابيب في الظلام بينما كان بلال يطلق المفرقعات النارية لإلهاء الجنود في المنطقة. لكن المفرقعات تسببت في القبض عليه مرة أخرى بينما نجت أشجار اللوز.
يمتلك بلال قطيعا من الأغنام والماعز يعتني به راعي غنم يدعى جندل – إلى أن أطلق عليه الجيش الإسرائيلي النار وأرداه قتيلا. وقالت نهر بكل حزن: “لقد ساهم جندل في استمرارية التقليد الفلسطيني القديم. وكان ذلك أيضاً في طريقه إلى الزوال، وربما كان ذلك هو الهدف من قتل جندل وحيواناته. فقد كان يعرف تلك التلال كما كان يعرف جسده”.
انضمت نهر تدريجيًا إلى أنشطة المقاومة، وبدا للحظة أن فلسطين ستكون المكان الذي تكون فيه الأرض أخيراً ثابتة تحت قدميها. لكن عائلتها بقيت في الأردن، وعلى الرغم من أن فلسطين كانت “المكان الذي أنتمي إليه … إلا أن الكثير من أفراد عائلتي لا يزالون مشتتين في أماكن أخرى”. وأضافت قائلة إن “هذا هو ما يعنيه النفي والحرمان من الميراث – عبور الحدود المغلقة، وعدم الإنتماء إلى أي مكان. فالبقاء في مكان واحد يعني تمزيق أطراف المرء إربا”.
ضد عالم بلا حب
تجد نهر في بلال ما لم تكن تعتقد أنها ستجده لدى أي رجل آخر: “علاقة عاطفية حميمة كانت تحطم قلبي بأكثر الطرق تأكيدًا على الحياة”. وكان عنوان الكتاب، ضد عالم بلا حب، إشارة إلى سطر في مقال بقلم جيمس بالدوين قرأه بلال لنهر خلال “شهر العسل” أثناء حظر التجوال في ربيع سنة 2002، حين تعمدت “إسرائيل” إحداث فوضى في الضفة الغربية وارتكاب مجزرة في جنين.
يُذكر أن بالدوين كتب في مقاله رسالة إلى ابن أخيه بيج جيمس يصف فيها ولادة بيج جيمس: قائلا “ها أنت ذا: لتكون محبوبًا. أن تكون محبوبًا، يا عزيزي، يمكن أن يكون صعب قليلا وتماما، ولكن هذا لابد أن يُقوّيك ضد العالم الفاسد”.
رُشّح كتاب ضد عالم بلا حب في القائمة القصيرة لجائزة كتاب فلسطين.
لم يمض وقت طويل بعد ذلك، حتى زُجّت نهر في السجن وأصبح بلال عضوا في القوات المسلحة. في الواقع، تعتبر رواية أبو الهوى رواية آسرة بشخصيات أكثر إنسانية في تعقيداتها وتناقضاتها. فعلى سبيل المثال، كان بلال شيوعيا ولكنه كان يذهب أيضًا إلى المسجد (ففي مشهد الزنزانة، طلبت نهر كتابًا عن الشيوعية بعنوان “كيف تدمر الشيوعية الإنسانية”).
لا شك أن التعليقات الصريحة لا تخلو أيضاً من “انعدام الاحترام”. أما قسم الإشعارات ـ وهو قسم محزن في حد ذاته تكشف فيه أبو الهوى تفاصيل عن أسرتها وماضيها ـ فيجعل صدى القصة أكثر عمقًا.
في كلتا الحالتين، من المحتمل أن تكون الدقة أكثر فاعلية – كما هو الحال عندما ينتهي الأمر بكل من نهر وأم براق المحتضرة في الصفحات الأخيرة من الرواية في السجن، والذي يجعلنا نفكر في معنى ذلك لتجيبنا نهر بأن “الأمر قد يثبت أن الدولة سوف تجد دوماً وسيلة لسجن الأحرار الحقيقيين، الذين لا يتقبلون القيود الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية”. من الواضح أن أبو الهوى في حد ذاتها ليس لديها وقت للقيود. وبما أن العالم لا يزال خاليا من الحب كما كان دائمًا، فهناك على الأقل كتب مثل هذا الكتاب لتقوينا.
المصدر: ميدل إيست آي