الإكرامية أو البقشيش هو مبلغ يضاف لثمن السلعة أو الخدمة التي يحصل عليها الزبائن سواء في المطاعم أم الفنادق أم صالونات التجميل وغيرها، وتختلف ثقافة الإكرامية بين دولة وأخرى، فتجد من يجدها إلزامية ومن يجدها اختيارية ومن يرى فيها أمرًا مهينًا وأقرب للرشوة، وبناءً على ذلك فإن اعتماد مقدم الخدمة أو السلعة على الإكرامية يتباين بين من يعتبرها رافدًا للأجر الذي يتقاضاه ومن يجد فيها الأجر الأساسي بحد ذاته.
أول ظهور للإكرامية
تتضارب آراء المؤرخين بشأن البداية الأولى لظهور الإكرامية، إذ يشير بعضهم إلى عودتها للإمبراطورية الرومانية، فيما يرى آخرون أن نشأتها كانت مرتبطةً بالنظام الإقطاعي عندما كان الإقطاعيون يلقون بقطع النقود للمتسولين في الشوارع بهدف محاولة شراء طريق آمن، ويشير آخرون إلى ارتباطها بالعصور الوسطى المتأخرة عندما كان أصحاب القصور والنبلاء يقدمون بعض القطع المعدنية الإضافية للخدم والعمال من باب تقدير العمل أو التعاطف، ومع ذلك يبقى الجدل قائمًا فيما إذا كان من الممكن اعتبار هذه الممارسات أول أوجه الإكرامية.
زيارة الأصدقاء في منازلهم انتهت بزرع بذور عادة البقشيش
ظهرت الإكرامية بالصورة الأقرب لما نعرفه اليوم في القرن السادس عشر في إنجلترا، حيث كان متوقعًا من الضيوف في المنازل والقصور الخاصة تقديم مبلغ إضافي من المال لخدم المضيف عند انتهاء زيارتهم مقابل الخدمات الإضافية التي يحصلون عليها، ومع مرور الوقت أصبح هذا المبلغ الإضافي عُرفًا من المتوقع دفعه من أي شخص يتناول العشاء أو يقيم في منزل أحد المضيفين أو الأصدقاء.
أوضح الكاتب كيري سيجريف في كتابه Tipping: An American History of Social Gratuities أنه وبحلول عام 1760 أصبح جميع العمال والخدم في البيوت الخاصة يتوقعون الحصول على الإكرامية بغض النظر عن تقديم أي خدمات زائدة، ما يضيف حملًا جديدًا على عاتق الضيوف لدرجة جعلت البعض يعزف عن زيارة أصدقائهم تخوفًا من التكلفة الكبيرة المرافقة لذلك، ويُقال إنه كان من الممكن للضيف غير الكريم أن يجد حصانه قد تعرض للأذى في نهاية الزيارة أو قد يسمع الشتائم من الخدم وتهديده بمعاملته بشكل سيئ عند زيارته اللاحقة نتيجة عدم سخائه!
أثارت هذه الأمور سخط طبقة النبلاء بشكل مهد لبدء محاولاتهم الحثيثة إلغاء نظام الإكرامية المنتشر، ما أسفر عن بعض أعمال الشغب في لندن عام 1764م، ورغم ذلك سرعان ما انتشرت عادة الإكرامية انتشار النار في الهشيم لتصل إلى شريحة واسعة من الفنادق والحانات والمطاعم في بريطانيا ومنها إلى أنحاء أوروبا.
البقشيش كما نعرفه اليوم بدأ في أمريكا كسلوك عنصري
لم تكن عادة الإكرامية منتشرة في الولايات المتحدة الأمريكية حتى بدايات القرن التاسع عشر، حيث بدأت بالانتشار بعد الحرب الأهلية الأمريكية عند تبني الأثرياء الأمريكيين لها بعد زيارتهم لأوروبا، إذ كان بعضهم يقوم بذلك من باب التباهي بالسفر خارج البلاد وإظهار أنهم على دراية بالعادات المختلفة المتبعة في أوروبا والعالم ككل.
تشرح سارو جايارامان المحامية والكاتبة والناشطة الأمريكية في كتابها Forked: A New Standard for American Dining الظروف المحيطة بالبقشيش إبان انتشاره في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أشارت إلى توظيف أرباب العمل للأشخاص الذين كانوا قد تحرروا حديثًا من العبودية وجعلهم يعتمدون فقط على ما يحصلون عليه من الزبائن كإكرامية دون إعطائهم أي أجر وهذا بحد ذاته ناتج عن العنصرية الموجهة لأصحاب البشرة الملونة.
يُذكر أن الكاتبة هي المؤسِسة والمدير المشارك لمنظمة Restaurant Opportunities Center United غير الربحية التي تحمل على عاتقها مهمة النضال من أجل تحسين الأجور وظروف القوى العاملة في المطاعم، والمديرة لمراكز أبحاث Food Labor التابع لجامعة كاليفورنيا الأمريكية.
أدت هذه الممارسات إلى اعتقاد بعض الزبائن أنه من الطبيعي تقديم مبلغ من المال لمن هم حسب نظرهم أقل منهم، وساد اعتقاد استمر حتى بدايات القرن العشرين مفاده أن قبول العامل للإكرامية هو إقرار من نفسه أنه من طبقة أدنى ما سبب ترسيخ فكرة الطبقية المجتمعية في وقت كان المجتمع فيه واقعًا في براثن العنصرية، ونجد هذا واضحًا في رسالة صحفي أمريكي يدعى جون سبيد عام 1902م حيث قال: “الزنوج يأخذون الإكرامية بالطبع، فالمرء يتوقع ذلك منهم ذلك. إنها علامة على دونيتهم، لكن إعطاء البقشيش لرجل أبيض هو أمر محرج بالنسبة لي”!
في دراسة نُشرت بمجلة Journal of Applied Social Psychology عام 2008 أشار الباحثون إلى أنه حتى عند تقديم الإكرامية للعمال البيض فإنهم قد يحصلون على مبالغ أعلى مقارنة بغيرهم.
كيف تحول البقشيش من عادة إلى قانون؟
بحلول أواخر القرن التاسع عشر شكل العمال السود ما يقارب نصف العمال في مجال الضيافة، وفي عشرينيات القرن الماضي كثفت المطاعم التي كانت تخسر المال بسبب القوانين السائدة حينها جهودها في التشجيع على الإكرامية ما جعلها تصبح أقرب للقانون، وبالفعل هذا ما حدث لاحقًا، إذْ أقر الكونغرس الأمريكي أول قانون للحد الأدنى للأجور عام 1938 بشكل يسمح للولايات باستثناء تحديد الحد الأدنى لأجور العمال الذين يتلقون إكرامية رضوخًا للضغوط القوية من قطاع المطاعم، وبذلك أصبح العامل يحصل إما على الحد الأدنى للأجر الأساسي أو يتلقى الإكرامية بموجب القانون ما يعني أن الحد الأدنى لأجر العامل الذي يتلقى الإكرامية يساوي صفر دولار!
استمر الأمر على حاله حتى عام 1966 عندما صدر قانون جديد ينص على إلزام تحديد حد أدنى لأجور العمال الذين يتلقون الإكرامية ومع ذلك كانت أجورهم تساوي نصف أجور العمال الآخرين، ومع استمرار الجهود أقر الكونغرس الأمريكي رفع الحد الأدنى لأجور العمال عام 1996 بناءً على اقتراح من هيرمان كاين الذي كان يترأس جمعية المطاعم الوطنية في ذلك الوقت وتم تحديد أجر العمال الذي يتلقون الإكرامية بما يساوي 2.13 دولار في الساعة وهو الحد الذي ما زال ساري المفعول إلى يومنا هذا مقابل الحد الأدنى العام المساوي لـ7.25 دولار في الساعة.
محاولات بائسة لوقف نظام الإكرامية
رغم وجود حركات مناهضة لنظام الإكرامية مثل حملة أجر واحد عادل (One Fair Wage) ودعوات من أصحاب المطاعم الكبرى للقضاء على نظام الإكرامية كما حدث عام 2015 عندما أعلن داني ماير أحد أكبر ملاك المطاعم في نيويورك إبطال نظام الإكرامية في جميع مطاعمه وحذا حذوه ملاك مطاعم أخرى فإننا نجد عند الرجوع إلى وزارة العمل في الولايات المتحدة أن القوانين التي تلزم أرباب العمل بدفع الحد الأدنى للأجر العام للعمال بغض النظر عن وجود الإكرامية من عدمه موجودةٌ فقط في 10 ولايات أمريكية.
يُذكر أنه وبعد 5 سنوات من إبطال ماير لنظام الإكرامية في مطاعمه، صرح الشهر الماضي بعودة نظام الإكرامية لسابق عهده وذلك لأنه غير راغب في رفض أي تعويض إضافي قد يكون متاحًا للموظفين في وقت الأزمة الاقتصادية، خصوصًا مع حقيقة أنه تم تسريح نحو 95% من الموظفين منذ شهر مارس الماضي، ومع ذلك أعرب ماير أنه ما زال يؤمن بأن نظام الإكرامية يساهم في عدم المساواة في الأجور وعدم استقرارها وغيرها من المشاكل وأكد دعمه لحملة One Fair Wage الوطنية للقضاء عليه.
في حديث لجايارامان مع واشنطن بوست تشير الكاتبة إلى أن هذا التاريخ الأسود الطويل للبقشيش ما زال يلقي بظلاله حتى وقتنا الحاليّ، إذ إن نظام الإكرامية الحديث ما زال يحمل في طياته الكثير من العنصرية، فالعمال الأكثر تأثرًا به والأشد فقرًا هم من أصحاب البشرة الملونة وبالتحديد النساء، ما يفتح المجال لمشاكل أكثر مرتبطة بالتحرش الجنسي وعدم المساواة.