وصلتُ إلى المشفى الميداني بعد الأخبار الواردة بوجود الكثير من المصابين والشهداء، لم أكن أعرف حجم الكارثة التي تنتظرني حتى رأيت عشرات الناس ممدة على الأرض، لكن لا تغطيها الدماء ولا الجروح ولا ثمة هناك آثار غبار قصف، وإنما أفواه مفتوحة تستنجد الهواء والنجدة من أجل الحياة.
ورغم أنني كنت ملمًا بمهارات الإسعافات الأولية من خياطة الجروح والتعامل مع الإصابات الطفيفة إلا أنني وجدت نفسي عاجزًا على التعامل مع هذه الحالات، ولذلك حاولت جاهدًا الاتصال بالإنترنت كي أعرف ما الذي حصل، وحين عرفت غرقت في السواد، إذ لم أتعلم كيفية التعامل مع إصابات الكيماوي ولا أظنني سمعت بها من قبل، إلا أن إجرام الأسد ونظامه يفوقان جميع توقعاتنا ويتخطى كل الحدود الأخلاقية والإنسانية بقتله شعبًا نائمًا بدون دم أو أي أثر.
هذه قصة مختصرة عن يومين طويلين في شهر آب/أغسطس من عام 2013، قضيتهما في مشفى مدينتي داريا بريف دمشق التي كانت محاصرة من قبل قوات الأسد، لم تُصب داريا حينها قذائف الكيماوي، بل كانت مدينة المعضمية وهي جارة بلدتنا من نزلت فيها تلك القذائف المرعبة، حيث توافد المصابون إلى مشفى داريا الوحيد، لأن مشافي المعضمية لم تعد كافية لاستقبال المزيد من الضحايا.
وأذكر جيدًا حينها كيف بدأ النظام حملة عسكرية كبيرة ضد المدينتين، اللتين خاضتا معركة كبيرة ضد الأسد وقواته، قتل الأسد في هجمته على المعضمية 82 من أبناء المدينة إضافة إلى مئات المصابين.
لم تسكت الآلة الحربية للنظام في ذاك الوقت أبدًا، لم يخجلوا من أنفسهم، بل بدأت الطائرات يومها بالقصف فيما حاولت الآلة العسكرية اقتحام المدن، كما كان يتعمد طيران النظام ومدفعيته بقصف الطريق الذي كان يأتي منه المصابون إلى المشفى الميداني في داريا، لم يدعنا النظام نشعر بهول الصدمة طويلًا، إذ أصبحنا مشغولين بالطائرات التي تحوم فوق رؤوسنا.
المجزرة الأكبر
هناك في الغوطة الشرقية، كان عبد الله الحافي والمعروف باسم “شعاع” نائمًا في منطقة المليحة، وهي بعيدة عن بلدة عين ترما 5 كم، ليوقظه رفاقه على عجل ويخبرونه باستشهاد أعداد كبيرة في مدن الغوطة، يسأل عبد الله كيف وأين بذهول تام، يصيح الشباب لشمس “البس والحقنا”، خرج مسرعًا مع أصدقائه ليصل إلى مدينتي سقبا وحمورية اللتين كانتا تستقبلان الحالات المصابة بالكيماوي ولكن كان وضع هذه الحالات مستقرًا.
يأمّن عبد الله وأصدقائه هذه العوائل ببيوت ريثما تهدأ الحالة، فالرعب والذعر منتشر في كل مكان، يقول عبد الله وهو الناشط السوري المدني والشاهد على بعض الفظائع من مجازر الكيماوي في الغوطة الشرقية لـ “نون بوست”، “قبل قصف المدن بالكيماوي بساعات، نام الناس في ليلة صيفية هادئة، ولم يكن هنالك مقدمات لما حصل، الصدمة كانت كبيرة”.
يكمل عبد الله قائلًا: “فرق الإسعاف التي دخلت إلى البيوت، وجدت العوائل نائمة في أسرتها، لم يكن هنالك أي دماء أو جروح، الناس ماتت وهي نائمة”، ويضيف: “في الصباح لم يكتف النظام بما فعله، إنما بدأ حملة عسكرية كبيرة على مدن الغوطة الشرقية، ممهدًا بقصف شديد براجمات الصواريخ والمدفعية والطائرات”.
الناشط عبد الله الحافي “شعاع” في أحد عمليات الإنقاذ
كانت خطة النظام حينها، أن يضرب مدن جوبر وزملكا وعربين بالكيماوي، ومن ثم يقتحم هذه المدن ويسيطر على مسرح الجريمة ومكان قصف الصواريخ الكيماوية ويخفي ذلك عن العالم بحسب الناشط عبد الله، ولكن قوات المعارضة استبسلت حينها بالدفاع عن المدن، لترد النظام في حملته يومها.
واليوم بقي شعاع مهجرًا في إدلب بعد تهجير الغوطة الكبير، وما زال يعمل للثورة ويريد إعلاء صوت ضحايا المجازر الكيماوية التي قام بها نظام الأسد في ذكراها السابعة.
كتب الطبيب سليم نمور منشورًا علىلفيسبوك يستذكر به تلك الليلة بكثير من الأسى، يقول فيه: “لن أنسى تلك الليلة ماحييت وسأحكي الحكاية كل عام”، ويبدأ بسرد القصة التي بدأت “حوالي الثانية ليلًا حين كانت أجهزة الاتصال تكرر النداء كان علينا التوجه فورًا إلى المشافي والنقاط الطبية لقد فعلها السفاح لقد قصفنا بالكيماوي”، يضيف: “كانت السيارات تذهب وتأتي بعشرات المصابين من مختلف الأعمار وتنزلهم في باحة المشفى”.
“كانت صهاريج المياه تسكب ماءها على المصابين لإزالة التلوث وكانت الكوادر الطبية والمتطوعين بوسائل الحماية البدائية تبذل المستحيل للإمساك بروح هنا وروح هناك قبل أن تغادر الأجساد التي أنهكها الكيماوي. كان المشهد العام مروعًا، واحد فارق الحياة والآخر يختنق، بينما يصرخ ثالث، والبقية في سبات عميق”، بحسب وصف الطبيب نمور.
ويكمل نمور: “كنت للحظات لا أصدق ما أرى وأظن أنني أحضر فيلمًا عن يوم القيامة، فزعة أهل الغوطة يومها كانت بعنوان التضامن حتى الموت، هناك من أحضر الملابس للمصابين، وهناك من أحضر ما في بيته من طعام، هناك من استضاف المصابين في بيته وهناك من رعى أيتام السارين، هناك من تطوع لإسعاف المصابين وهناك من تطوع لحفر القبور ودفن الشهداء، وهناك الكثير الكثير ممن استشهد بعد تعرضه لبقايا السارين العالقة بالمصابين أثناء إسعافهم، هذه المرة نجى المصاب ومات المسعف!”.
وعن العدالة الدولية يقول: “بعد أسبوع حضرت لجنة التحقيق الدولية، عاينت المصابين وأخذت عينات من كل ما يخطر بالبال، خرجت بتقريرها الذي يوثق الكارثة بكل تفاصيلها، لكن عدالة العالم تعاملت مع الجريمة بشكل جديد، تعاملت بطريقة حولت فيها الخطوط الحمراء إلى إشارات مرور خضراء!، لقد اكتفت هذه العدالة بمصادرة أداة الجريمة وعفت عن المجرم”.
لكي لا ننسى
في الذكرى السابعة لمجازر الغوطة الشرقية والمعضمية الكيماوية، نظم نشطاء سوريون من مختلف المدن حملةً، تحت عنوان “مناهضة إنكار المجازر الكيماوية في سوريا”، في مسعى إلى توضيح خطر الإنكار وأشكاله ونتائجه على الضحايا والعدالة الدولية، كما تعمل تهدف إلى توثيق محاولات النظام في طمس الحقائق عبر العبث بالأدلة والمقابر وترهيب الشهود واعتقال عوائلهم والتهجير.
وتسعى كذلك إلى رفع الوعي حول الحقائق الخاصة بالكيماوي بما فيها تحميل المسؤوليات، كما أنها تخطط إقامة بعض الفعاليات في العديد من دول العالم من أجل تذكير العالم بذكرى هذه المجزرة عبر الوقفات وتوزيع البروشورات الخاصة بهذا الأمر.
عودةً إلى الناشط المدني عبد الله شعاع، وهو عضو في حملة مناهضة إنكار مجازر الكيماوي، يحكي لنا عن أهمية العمل على مناهضة ما تفعله روسيا والنظام بطمس الحقائق قائلًا: “هؤلاء الأطفال والناس الذين ماتوا في المجازر، يجب أن يؤخذ حقهم”، مضيفًا أنه في حال السكوت عن المجازر ونسيانها وعدم مناهضة إنكارها فنحن نقول للنظام “ارجع واضرب مرة أخرى”.
الذاكرة السورية يجب أن لا تنسى هذا اليوم بتفاصيله كافة حتى في الدقائق التي ارتكبت فيها المجزرة، سيكون الإنكار والسكوت عنه قتلًا آخرًا لـ 1400 ضحية بتلك المجزرة بحسب ما يقول عبد الله، ويرى بأن الفائدة من هذه الحملات هي التذكير بالمأساة والمعاناة التي أحاطت بهذا الشعب.
يقول الناشط عبد الله: “نحن مثل أي أحد يريد أن ينتقم فيظل دائمًا يسترجع ما يوجد في ذاكرته من أسباب الحقد على هذا نظام بشار الأسد وقواته، كي لا ننسى في يوم من الأيام من قتلنا وأطفالنا”، يضيف عبد الله بأن هذه الحملات لها رسالتين، الأولى للسوريين أنفسهم بأن الأسد وجيشه عدونا الأول فـ “لا تصالح”، والرسالة الثانية هي للعالم وللشعوب الأخرى وتعريفهم بالوجع، على الرغم من أن الناشط السوري متيقن بعدم جدوى الحلول السياسية والدولية العالمية في إعطاء الحقوق للضحايا.
الأسد والسلاح الكيميائي
هجوم الكيماوي عام 2013 على غوطتي دمشق، تبعه الكثير من الضربات الكيماوية في مدن سورية مختلفة، يذكر أنه لم يكن الهجوم الأول ولكنه كان الأكبر والأضخم من حيث عدد الضحايا، حيث أطلقت قوات النظام 10 صواريخ بعد منتصف الليل، واستخدم كميات كبيرة من غاز السارين، لتقتل قوات النظام ما لا يقل عن 1127 شخصًا بينهم 107 أطفال و201 سيدة، وإصابة قرابة 5935 شخصًا.
وتسبَّبت هجمات النظام السوري الكيماوية في مختلف أنحاء سوريا بمقتل ما لا يقل عن 1461 شخصاً خنقاً يتوزعون إلى 1397 مدنياً، بينهم 185 طفلاً، و252 سيدة، كما أُصيبَ ما لا يقل عن 9757 شخصاً. وبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان فإن النظام السوري نفذ “156 هجوماً كيميائياً منذ هجوم الغوطتين بمحافظة ريف دمشق 21 آب/ أغسطس 2013 حتى هجوم عقيربات بريف حماة الشرقي في 12 كانون الأول 2016.”.
تسلسلس زمني عن مجازر الأسد الكيماوية
نفذ النظام 13 هجوماً كيميائياً منذ هجوم عقيربات حتى هجوم مدينة خان شيخون بمحافظة إدلب في 4 نيسان/ أبريل2017، و14 هجوماً كيميائياً منذ هجوم مدينة خان شيخون بمحافظة إدلب 4 نيسان/ أبريل 2017 حتى هجوم مدينة دوما بمحافظة ريف دمشق في 7 نيسان/ أبريل 2018 وهجوماً واحداً عقب هجوم دوما وهو هجوم الكبينة بريف اللاذقية الشرقي في 19 أيار/ مايو 2019.
حمّل تحقيق لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، النظام السوري مسؤولية شن هجمات بغاز للأعصاب، وصوت المجلس التنفيذي للمنظمة بأغلبية ساحقة لإبلاغ سوريا بضرورة إعلانها عن كافة التفاصيل المرتبطة بالمنشآت التي أنتج فيها السارين والكلور اللذان استخدما في هجمات في 2017 وهي ضربة خان شيخون الكيماوية.
تظل الذكرى تطرق أبواب أهالي الضحايا الذين فقدوا أحبابهم بمجزرة الكيماوي يومًا بعد يوم، وما زالوا يحاولون مع العدالة الدولية علّها تأخذ حقهم آجلًا أم عاجلًا وتشفي جزءًا من آلامهم.