لم يعد طموح الصين ذات المليار والأربع مائة مليون نسمة محصورًا في أن تكون ضمن الدول ذات الاقتصادات الكبيرة، بل تحّث الخطى لأن تتصدر زعامة العالم في مجالات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.
في عام 2017 حدد الحزب الشيوعي الحاكم في البلاد عام 2030 كموعد نهائي لتحقيق هذا الهدف الطموح لزعامة العالم في الذكاء الاصطناعي (AI)، وَللوصول نحو ذلك الهدف وضع الحزب مجموعة من المعالم التي تم بلوغ المرحلة الأولى منها بحلول عام 2020 كما كان مخطط له.
ناقش الخبراء الأسباب التي عزّزت من قدرات الصين في مجال الذكاء الصناعي وتَحسُّن جودة أبحاثها بهذا الشكل؛ ولاحظوا أن سبب ذلك يعود لِاحتفاظ الصين بالمواهب المحليّة الشابة التي أظهرت نبوغًا في مجال التكنولوجيا، كما أن تدهور العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع منافستها الرئيسية الولايات المتحدة جعل منها وجهة أقل جاذبية لمواهب الذكاء الاصطناعي الصينية.
يتوقع مجلس الدولة الصيني أن تبلغ قيمة الصناعة الأساسية (القيمة السوقية) للذكاء الاصطناعي في الصين 150 مليار يوان صيني (21 مليار دولار). وبحلول عام 2025، تهدف الصين أن تساهم بشكل أساسي في تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي الأساسية وترسيخ مكانتها كرائدة عالمية في أبحاث الذكاء الاصطناعي.
وفي عام 2030 يخطط الحزب الحاكم في الصين أن يتمكن من تطوير “الجيل الجديد” من الخبراء والعاملين بأنظمة الذكاء الاصطناعي، وأن تبلغ القيمة السوقية للذكاء الاصطناعي حوالي 140 مليار دولار.
عملت امريكا على تأجيج خوف الشعب الأمريكي من الصين، وإخراج الشركات الصينية من السوق
حتى في عمليات القرصنة في الخارج، يركز المتسللين الصينيين في الغالب على “الأهداف الاقتصادية”، من سرقة الملكية الفكرية لصالح الصناعات المحلية.
من الواضح أن رؤية الولايات المتحدة لشبكة نظيفة ليست شبكة خالية من الهجمات بل شبكة خالية من الصين، بسبب خوفها من تطور الصين الكبير في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وكذلك قوتها الاقتصادية. ولهذا عملت أمريكا على تأجيج خوف الشعب الأمريكي من الصين، وإخراج الشركات الصينية من السوق، وحث الحلفاء على قطع العلاقات في المجال التقني مع الشركات الصينية.
بداية الحرب المعلنة
مع تنامي المخاوف تجاه الخطر القادم من الشرق، ووضع حد للنمو المتسارع للصين، كان لا بد أن تبدأ الإدارة الأمريكية اتخاذ إجراءات على أرض الواقع، وعليه انتهجت نهج “قص الجناح” وبدأت بِشركة “هواوي” التي أصبحت خلال سنوات قليلة ليست منافسة، وإنما متغلّبة على منافسيها من الشركات الأمريكية.
إذ أعلنت الإدارة الأمريكية في عام 2019 حظر التعامل معها وخاصةً من قبل شركة “جوجل” المشّغل الرئيسي لنظام التشغيل المعتمد في هواتف هواوي “آندرويد”. ومن المحتمل أن تطبق نفس القواعد على صانعي الهواتف الذكية الصينية الآخرى، التي بدأت تتوسع في السوق الأوروبية بشكل هائل.
بعد أن جرى تخفيف الخطر الذي يمكن أن تشكلّه هواوي، جرى البحث عن تهديد محتمل آخر، فأشارت البوصلة نحو تطبيق “تيك توك” الصيني، ففي بداية شهر أغسطس/آب الحالي، صرّح مارك بومبيو، وزير خارجية أمريكا، إنه بموجب مبادرة الإنترنت النظيف التي تسعى إليه الولايات المتحدة، ستزيل الحكومة الأمريكية جميع التطبيقات الصينية غير الموثوق بها” مثل TikTok و WeChat وغيرها من متاجر التطبيقات الأمريكية.
وهي، بحسب زعمه، تهديدات كبيرة للبيانات الشخصية للمواطنين الأمريكيين، ناهيك عن أدوات للمحتوى الحزب الشيوعي الصيني.
موجب الأنترنت النظيف، ستزيل الحكومة الأمريكية جميع التطبيقات الصينية غير الموثوق بها
من جانبه صرح اليكس ستاموس، كبير مسؤولي الأمن السابق في فيسبوك، بأن “تيك توك” الذي تم ذكره كثيرًا كان مجرد قمة جبل الجليد فيما يتعلق بالتطبيقات الصينية التي تدعو للقلق، التطبيق الذي يقترح ستاموس على الولايات المتحدة أن تكون أكثر حذرًا منه هو “WeChat” المملوك لشركة “Tencent”، وبالفعل أقرّ الرئيس الأمريكي قانونًا بحظر كلا التطبيقين من العمل في الولايات المتحدة.
التهم الموجهة للصين
“التجسس” وسرقة “بيانات” المواطنين الأمريكيين، هي أبرز التهم التي وجهتها الحكومة الأمريكية للبرامج والتطبيقات الصينية، وهي السبب وراء توّجه الحكومة الأمريكية لإنشاء الإنترنت النظيف، حيث جاء في بيان بومبيو: “إن الهدف الرئيسي لإنشاء الإنترنت النظيف هو الحفاظ على المواطنين الأمريكيين من الجواسيس الصينيين ورقابتها”.
وأضاف: “بموجب الإنترنت النظيف، ستزيل الحكومة الأمريكية جميع التطبيقات الصينية غير الموثوق بها مثل TikTok و WeChat من متاجر التطبيقات الأمريكية، التي تشكل تهديدًا للبيانات الشخصية للمواطنين الأمريكيين بشكل كبير”.
وشدد بيان الخارجية الأمريكية على منع استخدام الخدمات السحابية التي يمكن استضافتها أو الوصول إليها من قبل الشركات الصينية، مثل “علي بابا” و”بايدو” و”تينسنت”، وسرقة البيانات الحساسة بما في ذلك أبحاث لقاح COVID-19 التي لا ينبغي أن تصل إلى الخصوم الأجانب.
قد يكون هذا غير منطقي بعض الشيء أثناء الوباء حيث فتح الباحثون في جميع أنحاء العالم مجموعات البيانات الخاصة بهم للتعاون، لأن الفيروس التاجي هو “تهديد عالمي”.
الإنترنت النظيف الذي تسعى إليه الولايات المتحدة
حدد بيان الخارجية الأمريكية ملامح “الإنترنت النظيف” الذي تسعى إليه الولايات المتحدة، عبر خمس مبادرات رئيسية، تضمن فيها إبعاد الصين نهائيًا عن أي اتصال مع شبكة الولايات المتحدة.
وهذه المبادرات الخمس هي كالتالي:
1- الناقل النظيف “Clean Carrier”: لضمان عدم اتصال شركات النقل -نقل البيانات- غير الموثوق بها في الصين بشبكات الاتصالات الأمريكية، إذ تشكل مثل هذه الشركات خطرًا على الأمن القومي للولايات المتحدة ويجب ألا تقدم خدمات اتصالات دولية من وإلى الولايات المتحدة.
2- متجر نظيف “Clean Store”: تهدف هذه المبادرة لإزالة التطبيقات غير الموثوق بها من متاجر تطبيقات الأجهزة المحمولة في الولايات المتحدة. إذ بينت الخارجية في بيانها أن هذه التطبيقات -تطبيقات الهواتف الذكية- تهدد خصوصيتنا، وتنشر الفيروسات، وتنشر الدعاية والمعلومات المضللة.
3- التطبيقات النظيفة “Clean Apps”: لمنع الشركات المصنعة غير الموثوق بها من التثبيت المسبق للبرامج -أو إتاحتها للتنزيل- في متجر التطبيقات، ومنع الشركات الأمريكية من تنزيل تطبيقاتهم على متجر “هواوي” لأنها “ذراع” للحكومة الصينية التي تنتهك حقوق الإنسان، بحسب بيان الخارجية.
تهدف هذه الإجراءات إلى إبقاء التكنولوجيا الصينية خارج الشبكة الأمريكية، وإخراج التطبيقات التي تشكل تهديدًا لأمن بيانات المستخدمين وخصوصيتهم
4- سحابة نظيفة “Clean Cloud”: هدف هذه المبادرة هو منع المعلومات الشخصية الأكثر حساسية لمواطني الولايات المتحدة والملكية الفكرية الأكثر قيمة للشركات، بما في ذلك أبحاث لقاح COVID-19، من التخزين والمعالجة على أنظمة قائمة على السحابة تملكها شركات صينية مثل “Alibaba” و “Baidu” و “Tencent”.
ومن المثير للاهتمام سماع عرض بومبيو عن سبب لجوء البلدان الأخرى، على سبيل المثال إلى خدمة “AWS” السحابية من “Amazon”، والتي تستخدمها وكالة المخابرات المركزية ووكالة الأمن القومي.
5- كابل نظيف “Clean Cable”: تهدف هذه المبادرة لضمان عدم تخريب الكابلات البحرية الناقلة لِإشارة الإنترنت والتي تربط الولايات المتحدة بالإنترنت العالمي من قبل الصين، بغية جمع المعلومات الاستخبارية.
وإجمالًا تهدف هذه الإجراءات، بحسب بيان الوزارة “إلى إبقاء التكنولوجيا الصينية خارج الشبكة الأمريكية، وإخراج التطبيقات التي تشكل تهديدًا لأمن بيانات المستخدمين وخصوصيتهم”.
تجسس الولايات المتحدة على البيانات
الولايات المتحدة هي إمبراطورية لا جدال فيها للقراصنة في العالم، إذ تؤكد الأدلة المؤيدة مثل “WikiLeaks” و”PRISM” و”Equation Group” و”Eye of Sauron” أن المراقبة مستمرة من الولايات المتحدة وتكشفها للجميع.
وعندما يتعلق الأمر بسرقة البيانات من شركات الاتصالات، تحتل الولايات المتحدة دائمًا المرتبة الأولى في العالم، فهي تمارس ضغطًا كبيرًا على الشركات المزودة لخدمة الاتصالات في الولايات المتحدة أمثال “AT&T” و”Verizon” وشركات النقل الأخرى للحصول على إمدادات البيانات.
تنظر وكالة الأمن القومي إلى التطبيقات على أنها “مناجم بيانات” مع احتياطيات ضخمة من البيانات يتم حصادها
كما تستخدم وكالة الأمن القومي (NSA) محطات قاعدة مزيفة تسمى “Dirtbox”، بين جهتي الاتصال على الهاتف الجوال بغية التجسس على المكالمات، فمن خلال “Dirtbox”، يقومون بمحاكاة إشارات المحطات الأساسية للاستفادة من البيانات وسرقتها من الهواتف المحمولة، وبفضل “Dirtbox”، تم جمع 62.5 مليون بيانات هاتفية في فرنسا.
ما يعني أن مطالبات بومبيو بإزالة التطبيقات الصينية من متاجر التطبيقات، على اعتبار أنها أدوات اختراق للحكومة الصينية لا يلغي حقيقة تمتع الولايات المتحدة بالبراعة في تحويل التطبيقات إلى وحدات مراقبة، فقد كشفت وثائق مسربة من “PRISM”، أن وكالة الأمن القومي تنظر إلى التطبيقات على أنها “مناجم بيانات” مع احتياطيات ضخمة من البيانات يتم حصادها، وبالتالي تستثمر بكثافة لتحقيق هذه الغاية.
كما تشير الوثائق إلى أنه تحت ضغط وكالة الاستخبارات، اختارت “Twitter” و”Facebook” و”YouTube” و”Skype” و”Google Map” وحتى “Angry Birds”، المشاركة في برامج التجسس ومشاركة البيانات مع الوكالة.