في شهر فبراير/شباط 2019، افتتحت “إسرائيل” أول سفارة لها في دولة رواندا، لتكون بذلك السفارة رقم 11 في القارة الإفريقية. رقم مهم جدًا، حيث يفوق عدد سفارات الدول العربية الكبرى في القارة السمراء، ما يشير إلى تمكن الكيان الإسرائيلي من خلق تحالفات قوية له مع الدول الإفريقية.
في هذا التقرير، ضمن ملف “التغلغل الإسرائيلي في إفريقيا”، سنتحدث عن أهداف الاهتمام الإسرائيلي بإفريقيا وسعيهم المتواصل للتمكين الدبلوماسي هناك وفك العزلة السياسية التي فرضها العرب عليهم.
علاقات قوية
أدرك الاحتلال الإسرائيلي مبكرًا أن غيابه عن مجريات الحدث الدبلوماسي والسياسي في القارة الإفريقية قد يصب في صالح القضية الفلسطينية داخل المحافل الدولية والإقليمية، لذلك سعى جاهدًا إلى إقامة علاقات قوية مع دول القارة حتى يضمن مساندتهم.
نتيجة لذلك، نجح الكيان الإسرائيلي في إقامة علاقات دبلوماسية مع أغلب الدول الإفريقية، حيث يمتلك حاليًّا 11 بعثة دبلوماسية في القارة السمراء، وتحديدًا في رواندا والسنغال ومصر وأنغولا وغانا وكوت ديفوار وإثيوبيا وجنوب إفريقيا ونيجيريا وكينيا والكاميرون، وثمة العديد من السفراء الإسرائيليين غير المقيمين في دول إفريقية، ومعنى ذلك أن لـ”إسرائيل” علاقات على مستوى سفارة مع 42 دولة إفريقية، أي بنسبة 80% تقريبًا، وهي نسبة مرتفعة إلى حد كبير، في حين أن 15 دولة إفريقية لديها سفارات دائمة في “إسرائيل”.
لم يكن اهتمام الكيان الإسرائيلي بتلميع صورته لدى دول القارة الإفريقية ورسم صورة بيضاء مشعة، منصبًّا على منطقة معينة في إفريقيا، بل شمل جميع الدول
وصلت “إسرائيل” إلى هذه المكانة المتقدمة في إفريقيا نتيجة استعمالها العديد من الأساليب الملتوية خاصة غير الشرعية، فهي خبيرة في هذا المجال، حيث دعمت أنظمة الاستبداد في القارة وقدمت لهم كل الآليات الأمنية والتكنولوجية للحفاظ على ملكهم وسيادتهم، كما أنشأت شركات أمنية خاصة لمساعدتها على ذلك.
لا تكتفي “إسرائيل” بإقامة علاقات دبلوماسية مع الدول فقط بل تطمح إلى إقامة علاقات قوية مع المنظمات الإفريقية، حتى إنها تطمح الآن للحصول على مقعد مراقب في الاتحاد الإفريقي، تلك المنظمة القارية التي تتخذ من أديس أبابا مقرًّا رسميًّا لها، وهو ما جعل قياداتها يعتمدون دبلوماسية الزيارات المتتابعة والمتكررة لعدد من الدول الإفريقية.
وقبل حصولها على هذا المقعد، شارك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سنة 2017 في قمة المجموعة الاقتصادية لدول إفريقيا الغربية (إكواس)، ما اعتبر حينها خطوةً متقدمة في مسار التطبيع بين الكيان الإسرائيلي وهذه المنظمة الإفريقية.
فك العزلة
هذا التغلغل الإسرائيلي في دول القارة الإفريقية، كان الهدف منه فكّ العزلة التي ضربها العرب على الكيان في العقود الماضية، فهذه السفارات والمشاريع الكبرى ودعم الديكتاتوريات الهدف منها ليس تنمية إفريقيا بل التمكين لمشروعهم المناهض للإنسانية.
أراد الإسرائيليون استقطاب الجوار العربي غير المرتبط بعداء مباشر معهم، خاصة في إفريقيا جنوب الصحراء، حتى يخرجوا من عزلتهم التي فرضها عليهم العرب نتيجة اغتصابهم الأراضي العربية في العديد من الدول (فلسطين، الأردن، مصر، لبنان).
وجد رؤساء الأنظمة الاستبدادية الأفارقة في “إسرائيل” مبتغاهم، فهي تقدم لهم التكنولوجيا المتطورة خاصة في المجال الأمني ما يمكنهم من تتبع معارضيهم والتنكيل بهم، فيما المطلوب منهم “بسيط” خاصة بعد تخلي العرب عنهم.
لم يكن اهتمام الكيان الإسرائيلي بتلميع صورته لدى دول القارة الإفريقية ورسم صورة بيضاء مشعة، منصبًّا على منطقة معينة في إفريقيا، بل شمل جميع الدول في غرب القارة وشرقها ومنطقة القرن الإفريقي وجنوبها وحتى شمالها الذي يقطنه العرب.
فضلًا عن فك عزلتها السياسية، تبحث “إسرائيل” عن إقامة علاقات قوية مع حلفاء جدد حتى تكسب كتلة تصويتية مهمة، خاصة أن دولًا أوروبية ذات وزن ثقيل مثل فرنسا تعارض بشكل متزايد الحصار الذي تفرضه “إسرائيل” على قطاع غزة وسياستها الاستيطانية بالضفة الغربية.
وجد الإسرائيليون مبتغاهم في الأفارقة، حيث تمثل إفريقيا قوة تصويتية كبرى (55 دولة) في المحافل الدولية لا سيما الأمم المتحدة، وهو ما يعني أن بمقدور الأفارقة إحداث تغيير هائل في كسر السياسات الرامية لفرض العزلة الدولية على “إسرائيل”.
سنة 1955، احتضنت مدينة باندونغ بإندونيسيا المؤتمر الأفروآسيوي، لم يتلق حينها الكيان الإسرائيلي دعوة لحضور هذا المؤتمر، كما تم إدانة ممارساته تجاه فلسطين وشعبها، كان ذلك الأمر بمثابة الصدمة الكبيرة للإسرائيليين.
هذه الهزيمة الدبلوماسية في إندونيسيا، أدت إلى انتباه الإسرائيليين لأهمية الدول الإفريقية المستقلة حديثًا، فقد أصبحت هذه الدول الفتية تشكل كتلة تصويتية مهمة في المحافل الدولية والإقليمية، وهو ما استلزم تغييرًا جوهريًا في العقيدة الإستراتيجية للإسرائيليين.
هذا التغيير عبّر عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول ديفيد بن جوريون في عبارات نقلها إيهود أبرئيل أحد كبار مخططي السياسة الإسرائيلية في القارة الإفريقية: “يجب كسر الحصار المفروض علينا من الدول العربية المعادية وبناء الجسور إلى الشعوب المتحررة في القارة السوداء، يُمكننا أن نعرض على الأفارقة ما هو أكثر من الحماسة الدبلوماسية بكثير، فنحن نستطيع مساعدتهم في تنميتهم الاجتماعية والمادية”.
بعد أن تمكن الإسرائيليون من الحصول على الاعتراف الدولي من الدول الكبرى بدأوا يتطلعون للحصول على مزيد الاعتراف من الأفارقة واستمالتهم لصف الكيان خدمة لقضاياه ومشروعه الذي يهدف إلى القضاء على الفلسطينيين، خاصة أن التكتل الإفريقي كان يميل لفلسطين على حساب الكيان الإسرائيلي.
في إطار سعيها إلى توطيد وجودها كدولة طبيعية ذات سيادة، أقدمت “إسرائيل” على إقامة علاقات دبلوماسية مع أكبر عدد ممكن من الدول الإفريقية، مستعملة أساليب عدة في ذلك
عبر عن هذا نتنياهو، فخلال زيارة وزير خارجية غانا في مارس/آذار 2016 قال إنه يتوقع الآن من الأفارقة “تغييرات إضافية في أسلوب التصويت داخل الأمم المتحدة على ضوء القرارات المناهضة لإسرائيل في اللجان الدولية”.
بعد جهد كبير نجح الإسرائيليون في مسعاهم، فقد بدأت دول إفريقية عديدة في عدم التكتل خلف القضية الفلسطينية كسابق عهدها، بعد ذلك بدأت هذه الدول في الامتناع عن التصويت لصالح القضية أو حتى التصويت ضدّها وهو ما يصب في مصلحة الإسرائيليين.
أثر كيان الاحتلال الصهيوني على السلوك التصويتي للدول الإفريقية في الأمم المتحدة والعديد من المنظمات الدولية الأخرى خدمة لمصالحه ودعمًا لمركزه الدولي، كما نجح أيضًا في إضعاف التأييد الإفريقي للقضايا العربية وكسب تأييد الرأي العام الإفريقي له، خاصةً في القضايا ذات العلاقة بالصراع العربي الإسرائيلي.
كتلة تصويتية مهمة
بعد هذه الجهود أصبحنا نرى دولًا ما فتئت تصوت لصالح حقوق الشعب الفلسطيني، ترتد عن مواقفها التاريخية ومبادئها، لتصوت بذلك إلى الكيان الصهيوني، ما يعني نجاح الإسرائيليين في اختراق الكتلة التصويتية للأفارقة.
هذا النجاح تجسد في العديد من المحطات، ففي سبتمبر/أيلول 2015، صوتت دول إفريقية عدة (توغو ورواندا وكينيا وبوروندي) ضد قرار للوكالة الدولية للطاقة الذرية، يطالب “إسرائيل” بالانضمام إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وما يعنيه ذلك من خضوع منشأتها الدولية للتفتيش الدولي باعتبارها الدولة الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط التي لم تنضم إليها.
في يونيو/حزيران 2016، صوتت نيجيريا، ودول إفريقية أخرى، لصالح المرشح الإسرائيلي لرئاسة اللجنة القانونية في الأمم المتحدة، كما امتنعت نيجيريا في 2014 عن التصويت على مشروع القرار العربي في مجلس الأمن، الداعي إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي في مدة لا تزيد على ثلاث سنوات.
سنة 2017، صوتت دولة توغو الإفريقية ضد قرار يدعو الولايات المتحدة إلى سحب اعترافها بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل”، فيما امتنعت 7 دول إفريقية عن التصويت وهو ما يعتبر تأييدًا كبيرًا للدبلوماسية الإسرائيلية في الأمم المتحدة.
استغل الاحتلال الإسرائيلي استعداد العديد من الحكومات الإفريقية للتخلي عن بعض مُثلها السياسية والأخلاقية من أجل الفوز بوعود الدعم السياسي والأمني والاستثمار والتكنولوجيا التي قدمتها الحكومة الإسرائيلية في إطار سعيها إلى توطيد وجودها كدولة طبيعية ذات سيادة، ولكن لم يكن هدفها من إقامة هذه العلاقات مع الأفارقة توطيد وجودها فقط بل هناك أهداف أخرى سنعرفها في باقي تقارير نون بوست ضمن هذا الملف.