اكتشاف أكبر حقل غاز في تاريخ تركيا.. ماذا يعني ذلك لاقتصادها؟

الزمان: 19 أغسطس/آب 2020
المكان: المنطقة الصناعية بباشكنت بالعاصمة أنقرة، خلال حفل افتتاح مصنع كاليون للطاقة الشمسية
الحدث: الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يزف بشرى لشعبه أخبارًا هامة وجيدة تفتح عهدًا جديدًا للدولة، سيتم الإعلان عنها الجمعة 21 أغسطس/آب، دون أن يفصح عن تفاصيل بشأنها.
Türkiye’nin ilk ve tek tam entegre güneş paneli üretim fabrikası olan Kalyon Güneş Teknolojileri Fabrikası’nın açılışını gerçekleştiriyoruz. https://t.co/woCpirtoof
— Recep Tayyip Erdoğan (@RTErdogan) August 19, 2020
الزمان: 21 أغسطس/آب 2020
المكان: قصر دولمة باهجة – إسطنبول
الحدث: الرئيس يعلن عن اكتشاف حقل ضخم للغاز الطبيعي في البحر الأسود، يحتوي على 320 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، مما يجعل هذا الكشف الأكبر من نوعه في تاريخ البلاد، ويحمل معه آفاقًا اقتصادية رحبة، تُدخل الشعب التركي إلى عصر جديد.
Millete Sesleniş #MüjdelerOlsun https://t.co/hfNVpPWO9c
— Recep Tayyip Erdoğan (@RTErdogan) August 21, 2020
48 ساعة حبس فيها الشارع التركي أنفاسه، ترقبًا لما يمكن أن تسفر عنه تصريحات الرئيس بشأن الأخبار السارة التي تنقل البلاد إلى عصر جديد من النهضة والنمو، حتى تم كشف النقاب عن التفاصيل، إذ اكتشفت “سفينة التنقيب “فاتح” 320 مليار متر مكعب من احتياطيات الغاز الطبيعي في بئر تونا”، ليؤكد حينها أردوغان: “انتقلنا لمصاف أبرز الدول في العالم من خلال سفينة الفاتح التي نعيش بفضلها فرحة اليوم وكذلك سفينتي ياووز والقانوني”.
المؤشرات الأولية لاكتشاف هذا الحقل تشير إلى احتمال كبير لوجود حقول أخرى في نفس المنطقة، حسب تصريحات الرئيس الذي أضاف أن الهدف من تلك الجهود “وضع غاز البحر الأسود في خدمة أمتنا بحلول 2023 (..) اليوم سنترك إرثا مهما للأجيال القادمة”.
توقيت حساس
يأتي هذا الاكتشاف التاريخي لتركيا في وقت تتصاعد فيه حدة الخلافات الإقليمية بين أنقرة والعديد من العواصم المجاورة، على رأسها اليونان وقبرص بشأن النزاع حول الحقوق المائية والنفطية في شرق البحر المتوسط، وصلت إلى التلويح باستخدام القوة العسكرية أحيانًا.
وتصر تركيا على التمسك بحقها في التنقيب في مياه المتوسط فيما دخلت فرنسا على خط الأزمة عبر تعزيز وجودها العسكري، بينما أعربت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عن قلق الاتحاد الأوروبي إزاء تصاعد التوتر في المتوسط خاصة بعد توقيع اليونان ومصر اتفاقية ترسيم الحدود، وهي الاتفاقية التي أغضبت أنقرة.
وفي الجهة المقابلة أكد الرئيس التركي على استمرار جهوده في التنقيب داخل المنطقة المائية المتوترة بطبيعة الحال، مجددًا تأكيده مرارًا وتكرارًا على أن الضغوط الأوروبية لن تثني بلاده عن مواصلة التنقيب عن الطاقة في مياه المتوسط، الأمر الذي يصًعد من مخاوف الانزلاق نحو مزيد من التوتير.
اقتصاديًا.. يأتي هذا الإنجاز ليبعث الأمل في نفوس الشعب التركي نحو غد أفضل بعد العثرات الاقتصادية التي تعرضت لها البلاد في الأونة الأخيرة نتيجة عدة أسباب، بعضها سياسي والأخر اقتصادي، تعزز وقعها السلبي مع ظهور فيروس كورونا المستجد وتداعياته التي ألقت بظلالها على اقتصاديات الدول عمومًا ومنها تركيا.
وفي إطار آخر يعد هذا الاكتشاف تتويج لجهود حثيثة بذلتها الحكومة التركية لتعزيز حضورها في سوق الطاقة العالمي، وفي الوقت ذاته فإنه سيكون خطوة محورية لتغيير قواعد اللعبة، خاصة وأن تركيا تعتمد اعتماداً شبه كامل على الاستيراد لتلبية حاجاتها من الطاقة، فحجم استيرادها للغاز في عام 2019 بلغ حوالي خمسين مليار متر مكعب، في حين تنتج أقل من 1% من حاجاتها للغاز، وفق التقارير الرسمية.
ورغم أن هناك محاولات عدة لاكتشافات الغاز في البحر الأسود إلا أنها لم تستغل بالصورة المثلى، على رأسها الاكتشاف الرئيسي الذي قامت به شركة “أو أم في بيتروم” الرومانية قبل 8 أعوام في المياه العميقة، وعليه جاء الاكتشاف التركي ليغير الكثير من النظرة العامة لموارد البحر الأسود.
وفي هذا الشأن يعلق العضو المنتدب لشركة “ميركل إنرجي للاستشارات” (Merkel Energy consultancy)، كريستوف ميركل، بقوله “لا أعتقد أنه من المفاجئ أن تكون هناك المزيد من الاكتشافات في تلك المنطقة.. وستكون دول مثل بلغاريا وأوكرانيا واليونان، من أشد المهتمين بشراء هذا الغاز إذا قررت تركيا تصديره”، مضيفًا في تصريحات نقلتها وكالة “بلومبيرج” أنه بناء على حجم الاكتشاف، يتوقع أن تتراجع عمليات الاستيراد عبر خط ترك ستريم (خط أنابيب الغاز الطبيعي بين روسيا وتركيا).
وقوبل هذا الإنجار بترحيب جميع التيارات السياسية في البلاد، حيث عبر حزب الشعب الجمهوري المعارض على لسانه نائب زعيمه، أحمد أقين، عن سعادته بهذا الاكتشاف العظيم، مؤكدًا على دعم الحزب تحقيق تركيا استقلالها بالكامل في مجال الطاقة.
كما هنأت وزارة الدفاع التركية عبر رسالة نشرتها على مواقع التواصل الاجتماعي، الرئيس والحكوة بهذا الاكتشاف، مؤكدة أن مثل هذه الإنجازات تبعث السرور في نفوس الشعب التركي، مضيفة: نتمنى أن تجلب هذه البشرى العظيمة التي زفها رئيسنا الخير لشعبنا.
فؤاد أقطاي، نائب الرئيس التركي، أكد في تعليقه على هذا النجاح أن بلاده باتت قاب قوسين من تحقيق الاستقلال في مجال الطاقة، لافتًا إلى أنهم سيواصلون العمل والإنتاج والنضال في سبيل تركي، أما رئيس البرلمان مصطفى شنطوب، فأوضح أن تلك الاكتشافات تعد نقطة تحول تاريخية لبلاده.
65 مليار دولار قيمة اقتصادية
إصرار أنقرة على الوصول إلى نتائج إيجابية من وراء عملية التنقيب يكشف حجم المكاسب المتوقعة من وراء هذا الاكتشاف الذي لم يأت من فراغ، فخلال الأونة الأخيرة قامت شركات طاقة شهيرة مثل “شل” و”بي بي” بعمليات بحث تراوح بين 100 و150 عملية على نفقتها، لكن باءت جميعها بالفشل.
ورغم أن تلك الشركات العالمية لم تحصل على مقابل تلك العمليات من تركيا، إلا أن أنقرة خفضت تكاليف البحث والتنقيب من خلال الاعتماد على سفنها الخاصة وبالجهود الذاتية، وبعد قرابة 9 عمليات حفر في المياه العميقة بالبحرين المتوسط والأسود عبر سفينتي “الفاتح” و”ياووز”، تم هذا الاكتشاف.
وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي، فاتح دونماز، في أول تصريح له بشأن المكاسب المتوقع تحقيقها من وراء هذا الاكتشاف قال إن القيمة الاقتصادية لاحتياط الغاز المكتشف في البحر الأسود تُقدر بنحو 65 مليار دولار، مضيفًا أنه من الصعب التكهن بأسعار الغاز والنفط في المستقبل، وفق ما نقلت عنه وكالة “الأناضول“.
دونماز أوضح أن صعوبة التكهن بالقيمة السعرية لمخرجات هذا الاكتشاف في المستقبل يرجع إلى أن أسعار النفط والغاز متعلقة ببعضها في الأسواق العالمية، منوهًا أنه بالنظر إلى أسعار الغاز خلال آخر 5 سنوات، “يمكننا القول إن القيمة الاقتصادية لهذا الحجم من الغاز الطبيعي تُقدر بنحو 65 مليار دولار”.
يذكر أن متوسك استهلاك الشعب التركي من الغازالطبيعي سنويًا يترواح بين 45 إلى 50 مليار متر مكعب، وفي ضوء المعطيات المتاحة وفق تصريحات وزير الطاقة فإن حقل الغاز المكتشف مؤخرًا سيسد حاجة البلاد لنحو 7 إلى 8 أعوام، مع الوضع في الاعتبار احتمالية العثور على حقول إضافية مستقبلا.
إنقاذ الاقتصاد التركي
باحثون يرون أنه من المتوقع أن يكون لهذا الاكتشاف دور محوري في إنقاذ الاقتصاد التركي من عثراته، والنهوض به إلى الأمام بعيدًا عن الوضعية الحرجة التي يعانيها منذ فترة، فمثل هذا الإنجاز سيساعد النظام الاقتصادي في البلاد على تخفيض العجز في الميزان التجاري، ومن ثم الحساب الجاري، خاصة وأن أنقرة من أكثر البلاد استيرادًا لمصادر الطاقة حسب الباحث الاقتصادي في جامعة إيجه بإزمير محمد إبراهيم.
وأكد الباحث أن هذا الاكتشاف سيساهم في تخفيض الطلب على العملات الأجنبية وبشكل خاص الدولار، الأمر الذي سينعكس إيجابًا على العملة الوطنية “الليرة” ويحافظ على استقرارها أمام العملات الاجنبية، هذا بجانب دوره المأمول في جذب الاستثمار الأجنبي وتطوير قطاع الطاقة في البلاد ما يساعد لاحقا على إجراء إصلاحات هيكلية في الاقتصاد، وفق تصرحياته لـ “الجزيرة”.
أما من ناحية مستقبل الاستيراد التركي لمصادر الطاقة والذي يرهق خزانة الدولة بصورة كبيرة،فأكد أستاذ الاقتصاد والتمويل في جامعة “أرتوكلو” متين أيرول، أنه بهذا الاكتشاف وغيره من الاكتشافات المتوقعة لاحقًا، فإن البلاد لم تتوقف عن الاستيراد فحسب، بل ربما تصدره للخارج، لدول مثل بلغاريا وأوكرانيا كونهما من أشد المهتمين بشراء هذا الغاز.
وأضاف الخبير الاقتصادي أن توفير قيمة واردات الغاز من الخارج سيزيد من مناعة الاقتصاد من الصدمات الخارجية، لاسيما ما يتعلق بأسعار الطاقة العالمية، وهي الصدمات التي هزت الكثير من اقتصاديات دول العالم الذي تعتمد على الطاقة كأكبر الموارد الاقتصادية.
وبينما تدخل تركيا في نزاعات إقليمية مع دول عدة بشأن التنقيب عن الغاز في مياه شرق المتوسط، إذ بها تحقق أكبر اكتشاف في تاريخها داخل حدودها المائية، ليجد الأتراك أنفسهم على مشارف عصر جديد من النهضة والرخاء في انتظار التوظيف الأمثل لمثل تلك الاكتشافات بما يحقق الاستقادة القصوى منها.