في السودان وعدد من البلدان، ومنذ تاريخ يعود إلى أكثر من مئة عام، بدأبٍ حثيثٍ، انهمكت نسوة لم يتلقين أدنى تعليم، بطبيعة حال ذلك الزمان، في ممارسات علاجية نفسية ذات تقنيات عالية حتى بمعايير اليوم العلمية، وذلك عبر طقوس ما عُرف بـ”الزار“، الطقس النسائي الذي مارسته عدد من النساء في عددٍ من بلدان العالم، وعرفته المجتمعات المحلية السودانية حتى وقتٍ قريب.
إهمال المكتبة السودانية
رغم أن “الزار” عادة متأصلة في السودان، بشكله المتعارف عليه أو بأشكال أخرى ذات مسميات أخرى وخصائص مشابهة، كما أنه ظل مُمارسًا بشكل كبير حتى قُبيل عشرات السنين، فإنّ المكتبة السودانية تخلو من الدراسات ذات الصبغة الجادة والمعتبرة عن هذه الظاهرة، إلا محاولة جادة وحيدة.
فقد أصدرت المؤسسة السودانية للتراث الطبي، عام 2008 دراسة شاملة بعنوان: “الزار والطمبرة في السودان” أصدرها كل من الدكتورة سميرة أمين أحمد والكاتب والباحث في الطب الشعبي والمجتمعي البروفيسور أحمد الصافي، رئيس اتحاد الكتاب السودانيين في دورته الأخيرة.
ضم الكتاب بين طياته دراسات وبحوث رائدة، قام بها العالم السوداني التجاني الماحي (1911-1970) في الفترة ما بين 1940- 1970، وكانت عبارة عن مقالين وبحث كتب بخط اليد بواسطة قلم رصاص، عن “الزار” وطقوسه باللغة الإنجليزية، تمت ترجمتهم وتحقيقهم بواسطة الكاتبين مع تضمين ما حوت تلك البحوث والإشارات بين طيات الكتاب، ويمثل ما حوى الكتاب جل المعلومات الواردة بخصوص “الزار” في هذه المقالة، مع إفادات مختصين.
التقنيات والتكتيكات النفسية لطقوس الزار
في أجواء ذات طابع “أرواحي” تبدأ جلسة “الزار”، بجعل “المزيورة” – اللفظ الذي يطلق على من تظهر عليها أعراض الزار – في مركز الدائرة مع بدء ضرب الدفوف والمزامير، مصدرة إيقاعات ذات صبغة موسيقية دائرية ورتيبة تبدأ هادئة لتتصاعد رويدًا رويدًا، لكن مع الحفاظ على هذه الإيقاعات القصيرة.
ومع دوران “بنات العِلبة” حول المصابة بأعراض “الزار” في ظل أجواء ترفع فيها المراقبة الأخلاقية أو حتى البصرية، مع دخول معظم الحاضرين في حالة “جذب”، تترك المرأة المحتفى بها بدورها لتفعل ما رغبت، حيث قد تتلبس المرأة، في أجواء هذا الاحتفائية التحفيزية، بعض الرغبات التي قد تُرى غريبة في بعض المجتمعات أو في مجتمعاتها ذاتها في الأوقات العادية.
فتطلب النساء السودانيات مثلًا أن يدخنَّ السجائر أو حتى قد يطلبن شرب الخمر، فيؤذن لهن بذلك، مقرونًا بتوقع ذلك سلفًا، حيث تحضر النساء القائمات على الطقس، مجموعة من المتطلبات الخاصة بالطقس كالأزياء والأطعمة والمشروبات.
تقول الكاتبة والطبيبة النفسية ناهد محمد الحسن في تعليقها على طقوس “الزار” إن وجود المرأة في مركز الدائرة الاحتفائية، ثم دوران مجموع الحاضرين حولها، يعزز للمحتفى بها إدراكها لذاتها وكينونتها، ومن ثم تسهيل عملية تجلي الرغبات العميقة والدفينة.
يقوم مجتمع المزيورة بعزل المصابة بأعراض الزار في منزلها
تتابع الطبيبة المختصة: “واحدة من هذه التكتيكات النفسية تتم عبر ترحيل “المكبوتات” من منطقة اللاوعي إلى منطقة الوعي، عبر تحفيزها والسماح لها بالتجلي في شكل رغبات وانفعالات، تظل مشروعة ومقبولة أيًّا كان شكلها، بلا إبداء أي شكلٍ من الرفض من قبل الحاضرين”.
وفي خصائصه وتقنياته النفسية، نقرأ للتجاني الماحي، نقلًا عن كتاب “الزار والطمبرة في السودان”: “أما عن طبيعة الزار فإنها تقوم على ظاهرة التنويم المغناطيسي، ونستطيع إدراك حقيقتها التنويمية بالاطلاع على ما كتبه مسمر Mesmer عن المغناطيسية الحيوانية، وشاركو Charko عن حوادث الهيستريا الكبرى”، يتابع الماحي: “لكن أهم المصادر هو كتاب العالم الأمريكي مرتن بيرنس M.Perins المسمى (تعدد الشخصية)”.
وعن لماذا لم تجد هذه الممارسة فرصة لاعتمادها بشكل رسميٍ ضمن البروتكولات العلاجية، تجيب ناهد محمد الحسن قائلة: “اعتماد الزار على نظرية الأرواح الطيبة التي تقوم برعاية ومعاقبة كل من يعتدي على المرأة المحتفى بها، خلقت صعوبة في إمكانية اعتماده كوسيلة علمية طبية، كونه يقوم على شيء من الاعتقاد في الماورائيات”.
طقوس الزار الاجتماعية
في مراوغة ماهرة للوصمة الاجتماعية المصاحبة للاضطرابات النفسية والعصبية، يقوم مجتمع “المزيورة” بعزل المصابة بأعراض الزار في منزلها في الغالب، ويكون طوال أيام فترة الطقوس التي قد تمتد لأسبوع، لينهمك القائمون على أمر الزار في خدمة “المزيورة” عبر تلبية جميع احتياجاتها ورغباتها، والاهتمام بزينتها وعطرها، مع إلغاء جميع التكاليف الواقعة على عاتقها بما في ذلك التكاليف الزوجية في حالة كانت السيدة متزوجة.
تصبح فترة العزل حالة استنفار اجتماعية عالية من الجيران والأقارب، تعد إلزامية المشاركة فيها سواء بخدمة “المزيورة” أم بالمساهمة المالية أمرًا مفروغًا منه في أعراف تلك المجتمعات.
قالت الطبيبة النفسية ناهد محمد الحسن، إن وصف “مزيورة” يمكّن المرأة من إبداء حتى غضبها أو انزعاجها من شخصيات بعينها في محيط مجتمعها، دون إبداء الملامة أو العتب عليها.
بعد ذلك يضيف حضور “بنات العلِبة” – المريضات السابقات اللائي كن قد أصبن بأعراض الزار – أجواءً تحفيزية تضامنية تسهل من تخوف “المزيورة”، حيث يمثلن “بنات العِلبة” جزءًا أساسيًا من العملية العلاجية.
الشيخة المعالجة الشعبية
تدير الجلسة “الأرواحية” من تسمى بـ”شيخة الزار” وهي امرأة ارتقت هذه المكانة عبر خبرة طويلة من الممارسة، كما أن لها شروطًا خاصة، تكون في الغالب من النساء اللائي انقطعن عن الرجال، بما يؤهلها أخلاقيًا لهذه المهمة ذات الطبيعة الرعائية، التي تتطلب بالضرورة خلوًا من الرغبات والمسؤوليات ذات الطابع الشخصي، فتكون في الغالب إما أرملة وإما مطلقة.
ويقع على عاتق الشيخة مراقبة حركات وسكنات “المزيورة” في أثناء الجلسة ، وهي التي ستخاطب “الروح” التي تتلبس جسد المرأة، بعد الاستغراق في استكشافها عبر معاينة سكنات وهمهمات “المزيورة”، ويشار إلى أن أرواح “الأسياد” بحسب بحث للتجاني الماحي تتجاوز المئات، ولكل روح خصائصها التي تتجلى بها، وطلباتها التي يجب أن تلبى.
تشير الباحثة والطبيبة النفسية ناهد محمد الحسن إلى وجه الشبه بين متطلبات الوصول إلى درجة “شيخة” ومتطلبات التأهل والاعتماد للمعالج النفسي حسب البروتكولات الطبية الحديثة، فتقول: “عدد جلسات العلاج الجماعية التي يتطلبها بلوغ درجة “شيخة”، هي تقريبًا نفسها التي يتطلبها اعتماد المعالج النفسي، بحضوره لـ50 جلسة علاج نفسي جماعي، تقريبًا”.
يبدو جليًا أن “الزار” وطقوسه لا تمثل اليوم إلا إرثًا ثقافيًا، في ظل انتفاء الحاجة له مع تطور المجتمعات المحلية ومواكبتها للعلاج النفسي بشكله الحديث، لكن قطعًا ما قدمه “الزار” كان بمثابة يد لأحد “الأسياد” امتدت لهؤلاء النسوة في معاناتهن ومآسيهن، ماسحةً على أرواحهن مسحة هادئة بيدٍ، في أثناء تلك السكينة التي تغمر روح إحداهن عقب انتهاء الطقوس الحافلة، وبالأخرى مباعدةً عنهن الوصم بالجنون، في تجلٍّ لذكاء وعبقرية هؤلاء النسوة ومجتمعاتهن التي لطالما وُصِمت بالتخلف.