وفقا للإدارة الأمريكية فإن الحرب على داعش قد تستغرق ثلاث سنوات على الأقل، وقد تمتد على الأرجح لما بعد فترة الرئيس الحالي أوباما، أّما نيوت جينجريتش، رئيس مجلس النواب الأمريكي من العام 1995 إلى العام 1999، وهو سياسي ومؤرخ وأستاذ تاريخ، فقد قال في مقابلة له حول الموضوع: “كمؤرّخ أقدّر ان الحرب على داعش قد تتطلب ما بين 10 إلى 15 عاما إذا ما كانت مكثّفة وعنيفة، وقد تمتد إلى 50 عاما”!.
لكن وبما أنه من غير المعقول أن يدخل أحدهم حربا وينتظر 50 عاما ليعلن أنه نجح أوانهزم فيها، فسنركّز على التقييم الأول وهو ثلاث سنوات لهذه الحرب، وانعكاستها على المنطقة والنتائج المتوقعة لها في ظل المعطيات الإقلمية والدولية الموجودة لدينا اليوم.
تقوم الحرب اليوم على ثلاثة عناصر أساسيّة، أوّلها القيادة الأمريكية للتحالف واستخدام سلاح الجو لإنزال الضربات الأعنف بالتنظيم. ثانيها، استخدام القوّات البريّة لمحاربة داعش وجها لوجه واستعادة السيطرة على على الأراضي التي تقع في حوزة “داعش” وملئ الفراغ الذي يتركه القصف. ثالثها، الدعم المالي واللوجستي للعمليات.
أمّا عن تكلفة الحرب، فقد كلّفت العمليات المحدودة التي قامت بها الولايات المتّحدة في شهر آب/ أغسطس الماضي قبل الاعلان رسميا عن تدشين الحملة وبدء الحرب حوالي 7.5 مليون دولار يوميا. أما بعد انطلاق الحرب على داعش، فتشير التقارير الى أنّ الحرب ستكلّف واشنطن مئات الملايين من الدولارات يوميا بالرغم من عدم وجود قوات أمريكية بريّة على أرض المعركة.
جوردن آدام على سبيل المثال، وهو أحد المسؤولين السابقين عن موازنات الأمن القومي في إدارة الرئيس السابق بل كلينتون، يقدّر ان التكلفة الاجمالية قد تصل الى 1.5 مليار دولار شهريا (نفس موازنة وكالة الفضاء ناسا تقريبا)، يعني حوالي 16 مليار دولار سنويا. (حوالي 10 مليار دولار للحملات البريّة وما بين 6 الى 8 مليار لتدريب قوات على الأرض وتسليحها).
أمّا فيما يتعلّق بالوقائع الموجودة على الأرض اليوم مع انطلاق هذه الحملة، فهي على الشكل التالي: العامود الفقري للقوات البريّة التي ستخوض المعارك ضد داعش على الأرض في اطار حملة قوات التحالف التي تقودها الولايات المتّحدة ستتمثل بالميليشيات الشيعية التابعة لايران والميليشيات الكرديّة. أمّا العامود الفقري السياسي الذي يعطي الغطاء الشرعي للتحالف للعمل في المنطقة فهو الدول العربية، أمّا الطرف الأكثر فعالية في تأمين المتطلبات اللوجستية والتمويل فهي الدول الخليجية.
ضمن هذه المعطيات، وآخذين بعين الاعتبار انّ الحملة تركّز في الأساس على ما يسمى الخيار الأمني والعسكري في مواجهة “داعش” وتتجاهل تماما تفكيك العناصر الأساسية التي ادّت الى ولادتها والمتمثلة في الأنظمة الديكتاتورية والطغيان والسياسة الطائفية والعنصرية لعدد من الانظمة يأتي على رأسها الأسد والحكومة العراقية، وعلى فرض أنّ الحملة نجحت في السنوات القليلة القادمة في تدمير الجزء الأكبر من قدرات تنظيم الدولة دون حدوث تغيير جذري في المعطيات القائمة حاليا على بقية الفاعلين، فان شكل المنطقة بعد هذه المعركة سيكون كما يلي:
1) سيطرة تامة لإيران على الأرض في المجال الممتد من شمال منطقة شرقي البحر الأبيض المتوسط وحتى مضيق باب المندب جنوبا، أي في المنطقة الممتدة من شمال الساحل السوري الى صنعاء وذلك عبر أذرعها المختلفة من أحزاب وميليشيات وجماعات وتنظيمات، اكتسبت خلال العقدين الماضيين على الأقل خبرات عملاتيّة في مجال حرب العصابات والارهاب وخضعت لتدريب وتسليح وتنظيم وادارة من قبل الحرس الثوري- فيلق القدس بقيادة الجنرال قاسم سليماني، وهي ترتبط عقائديا وأيديولوجيا بالمرشد ولها روابط تنظيمية مع ايران وتسير في سياق سياسة واحدة بأجندة واحدة وأمر واحد.
2) ومن المتوقع ان يؤدي ذلك أيضا الى عرقلة تغيير أي “ستاتيكو” فيما يتعلّق بتبعيّة الانظمة السياسية في هذه المنطقة المذكروة اعلاه لايران. فعملية بناء اي جيش عراقي وطني وأي أجهزة أمنية وطنية ستكون مستحيلة في ظل حقيقة انّ هذا الجيش وهذه الأجهزة ستكون مضطرة الى استيعاب عدد كبير من أعضاء هذه الميليشيات، وهو ما يعني عمليا انها ستكون الحاكم الفعلي والمسير الاساسي لاي جيش واي اجهزة أمنيّة، ولا شك ان ذلك سيؤثر على قرارات وسياسات اي رئيس حكومة عراقي بحيث سيكون مضطرا الى مراعاة مطالبها (على فرض انه وطني ولا يتبع لايران اصلا) مما يعني ضمان ولاء اي نظام عراقي قادم لطهران بشكل تام ومن داخل العراق.
وقس على هذه الحالة حالات الدول المذكورة في الحزام أعلاه، علما انّ طهران قبل اندلاع المعركة مع داعش نجحت في تنصيب رئيس في العراق ومنع رئيس من السقوط في سوريا والمفاوضة على تنصيب رئيس في لبنان والعمل على الاطاحة برئيس في اليمن، فكيف سيكون حالها بعد الانتصار على داعش؟. ستؤدي هذه المكاسب أيضا الى تحسين وضع ايران في اي مفاوضات (على فرض انهم لم يتوصلوا الى اتفاق حتى حينه).
3) ما لم يتم التخلّص من الأسد حتى حينه، فقد تتدفق الميليشيات الشيعية المزهوّة بالانتصار على “داعش” الى داخل سوريا من جديد وسيقضي ذلك على أي آمال بالاطاحة بنظام الأسد، وسيكرّس عمليا تقسيم سوريا الى عدّة قطاعات في أحسن الاحوال، قطاع يسيطر عليه الاسد، وقطاع المعارضة بمختلف فصائلها، وقطاع الأكراد.
4) وبمناسبة ذكر الأكراد، فانهم سيكونون عمليا في وضعية “الإستقلال” سواء في سوريا أو في العراق، وسيكون من الصعب على اي حكومة عراقية فرض شروطها على أربيل في وقت اثبتت فيه مرة اخرى انها حليف موثوق للغرب يمكن الاعتماد عليه، وفي ظل حقيقة انّ تدفّق الاسلحة الغربية اليهم بالإضافة الى تمتعهم بشبه استقلالية مالية نتيجة تصدير النفط ستجعلهم في موقع الند لأي حكومة عراقية. ناهيك عن وضعية كركوك التي يبدو أنّهم ل يتنازلوا عنها مستقبلا بعدما دخلوا اليها.
أمّا الحزب الديمقراطي الكردي (أكراد سوريا)، فانه سيكون قد فرض نفسه على الغرب كورقة موثوقة لمحاربة المتطرفين وادارة المناطق التي يسيطر عليها، ولا شك ان هكذا منطق سيكسبه شرعية في اعينهم وسيكون قد حظي هو الآخر بما يحتاجه من أسلحة تمكنه على الاقل من الدفاع عن حدود مشروعه.
5) أمّا السنّة في المنطقة، فسيكونوا مشتتّين ومنقسمين ومتبعثرين ولاجئين، عمليا سيكونون بمثابة أقليّة من حيث السلوك والتصرفات والمخاوف، وستكون هناك مجموعات مسلحة عشوائية هنا وهناك لا تقدم ولا تؤخر في اي حسابات استراتيجية في ظل غياب أي مشروع سياسي وفي ظل غياب أي ممثل شرعي وفي ظل غياب اي تضامن حقيقي.
6) أمّا الدول الخليجية، فستكون قد أنفقت كل هذه الأموال في الحملة هباء، فبينما هي تقاتل “داعش” ستكون إيران قد عززت حضورها كما شرحنا من على يمين دول الخليج وشمالها وجنوبها، ولا شك أن ذلك مضافا إليه الفشل في الحصول على عراق مستقر وآمن بمشاركة سنيّة فعلية، والفشل في إسقاط الأسد سيقوّض من مصداقيتها لدى الشرائح الشعبية داخليا، ناهيك عن أنّ الاستمرار في دعم الثورات المضادة التي تغلق الباب امام الاسلاميين المعتدلين للتعبير عن أنفسهم سيؤدي في النهاية إلى ولادة جيل جديد من المتطرفين في المنطقة بأكملها في وقت لن تكون فيه جيوش هذه الدول بقادرة على مواجهة إيران تقليديا، وبما أنّها لا تملك ما يخوّلها أصلا أن تكون موجودة على الأرض في المنطقة، فإنها لن تكون قادرة على مواجهة الميليشيات الإيرانية أيضا، وهذه كلها أسباب ستعزز من البيئة المناسبة لإعادة إنتاج ونشر المتطرفين لنعود الى نفس الدائرة المفرغة من جديد.
في النهاية لا بد لنا من أن نتذكر ان هذا مجرد سيناريو وان بناء سيناريوهات في ظل معطيات متغيرة ومتحولة بشكل متفاوت ومتسارع في واحدة من اكثر مناطق العالم غليانا على الاطلاق يجعل من عملية بناء سيناريو صعبة للغاية، ومع هذا فان ما هو مذكور اعلاه مبني على معطيات المرحلة الحالية مع افتراض عدم حصول تغير جذري فيها باستثناء تدمير الجزء الاكبر م قدرات “داعش”، علما انّ المخرجات اللاحقة ستقودنا بعدة سنوات قليلة الى كوارث أكبر سيعود على أثرها من جديد من هو أسوء من داعش، وبهذا يكون الانتصار مجرد اعلان صاحبه خسائر فادحة في معسكر ومكاسب للمعسكر الآخر، لنعيد خلط الحسابات من جديد.