يشهد الاقتصاد الكويتي أزمة عاتية لم يكن يتوقعها أكثر الخبراء تشاؤمًا، وصلت إلى حد احتمالية العجز عن دفع رواتب الموظفين والعمال بالدولة، وهو الوضع الذي لم تشهده البلاد منذ استقلالها عام 1961، الأمر الذي أثار الكثير من التساؤلات عن أسباب ما وصلت إليه الأوضاع الحاليّة.
لم يكن الكويتيون بمعزل عن الضربات الموجعة التي تقلتها اقتصادات الدول منذ بداية العام الحاليّ بسبب تداعيات فيروس كورونا المستجد، غير أن الدولة الخليجية التي تعتمد – كغيرها من دول مجلس التعاون – على موارد النفط كركيزة الاقتصاد الأولى وجدت نفسها في مأزق أكثر عمقًا إثر تراجع أسعار المادة الخام خلال الآونة الأخيرة.
كان وزير المالية الكويتي براك الشيتان قد حذر، مساء الخميس 20 من أغسطس/آب من أن بلاده لا تمتلك سوى ملياري دينار (أي ما يعادل 6.6 مليار دولار) من السيولة في خزينتها، وأن هذه الأموال تكفي لتغطية رواتب الدولة حتى شهر أكتوبر/تشرين الأول المقبل، وما بعد ذلك ما زال في إطار المجهول.. فما الذي أوصل الدولة الغنية إلى هذه المرحلة؟
أزمة اقتصادية خانقة
العديد من الأسباب أدخلت الاقتصاد الكويتي إلى غرفة الإنعاش رغم أصوله المليارية الكبيرة كونه أحد أكبر الاقتصادات في المنطقة، على رأسها أزمة النفط الأخيرة وتهاوي الأسعار بالصورة التي تسببت في تراجع إيرادات الدول النفطية بصورة لا يمكن استيعابها.
وأمام تلك الأزمة اضطرت البلاد لتقليص إنتاجها اليومي من 3.12 مليون برميل إلى 2.2 مليون في نطاق الإجراءات الجماعية لمجموعة أوبك بلاس الهادفة إلى الحدّ من تدهور الأسعار، وهو ما كان له أبلغ الأثر على معدلات النمو الاقتصادي خلال العام الحاليّ.
عجز الموازنة من المتوقع أن يتفاقم إلى 47 مليار دولار خلال السنة المالية الحاليّة 2020 /2021، إضافة إلى نفاد الاحتياطي العام وشح السيولة
وبحسب التقارير الرسمية الصادرة عن وزارة المالية فقد سجلت الكويت خلال السنة المالية الماضية 2019 – 2020، عجزًا بمقدار 18.4 مليار دولار، بزيادة 69% عن العام السابق، فيما كشف الشيتان أن العجز الذي سجلته بلاده منذ شهر أبريل الماضي وحتى نهاية يوليو الماضي بلغ 4 مليارات دينار (12.1 مليار دولار)، وهو مؤشر خطير ربما يهدد السيولة النقدية حال عدم إجراء إصلاحات مالية في أقرب وقت على حد قوله.
وقد كشفت وثيقة حكومية أنه في حال استمر الوضع على ما هو عليه فإن عجز الموازنة من المتوقع أن يتفاقم إلى 47 مليار دولار خلال السنة المالية الحاليّة 2020 /2021، إضافة إلى نفاد الاحتياطي العام وشح السيولة، مرجعة هذا المأزق إلى تراجع الإيرادات النفطية، وزيادة الإنفاق في شتى القطاعات لمواجهة أزمة كورونا، هذا بخلاف انخفاض حجم صندوق الاحتياطي العام من 16.5 مليار دولار في بداية السنة المالية الحاليّة إلى 13 مليار دولار في خلال 3 أشهر فقط.
وكانت وكالة ستاندرز آند بورز للتصنيف الائتماني السيادي قد غيرت النظرة المستقبلية لتصنيف الكويت، الشهر الماضي، من “مستقرة” إلى “سلبية” عند مستوى “أي أي سالب” في ضوء التحديات المالية التي تواجه تمويل الموازنة العامة، التي أوضحتها البيانات الصادرة عن الحكومة الكويتية.
وتعتمد الكويت، عضو منظمة أوبك، على النفط كأكبر مورد اقتصادي لديها، حيث تمثل الصناعة النفطية فيها أكثر من 50% من الناتج المحلي الإجمالي، و95% من الصادرات و80% من الإيرادات الحكومية، وهو ما يعظم من تأثير التهاوي الكبير الذي شهده سوق النفط خلال العامين الماضيين.
تعدد الأسباب
الأزمة الاقتصادية في الكويت لم تكن وليدة الهزة المالية التي تسببت فيها أسعار النفط وزيادة الإنفاق بسبب كورونا وفقط، بل هناك دوافع أخرى تزامنت مع تفاقم الأزمة كان لها تأثير كبير في مضاعفة وطأتها، على رأسها حالة القلق السياسي التي انتابت الشارع بسبب مرض أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح الموجود حاليًّا في الولايات المتّحدة لاستكمال العلاج.
عدم وجود تفاصيل كاملة عن مرض الأمير وحالته الصحية بجانب غياب السيناريو الرسمي لخلافته على رأس الدولة في ظل ما يعاني منه ولي العهد الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح من أوضاع صحية غير مستقرة بجانب كبر سنه، تسبب في تهيئة المناخ للحديث عن صراعات داخل الأسرة الحاكمة على منصب الأمير، كل هذه الأمور انعكست سلبًا بطبيعة الحال على الحالة الاقتصادية.
أمام غياب التوافق بين مجلس الوزراء ومجلس الأمة بشأن إقرار قانون الدين العام، بجانب استمرار تداعيات مواجهة كورونا، سواء زيادة الإنفاق أم تراجع معدلات النمو، فإن الوضع يزداد سوءًا يومًا تلو الآخر
وبعيدًا عن الدوافع الاقتصادية والسياسية يرى خبراء أن النتيجة التي وصلت إليها البلاد حاليًّا تعود إلى أخطاء متراكمة على مر السنين، تسببت في إهدار موارد الدولة وسوء إدارتها بالشكل الملائم، ما تسبب في حرمان الشعب الكويتي من المليارات سواء المهدر منها أم غير المستغلة.
أنصار هذا الرأي يميلون إلى أن الخطأ الأكبر لدى دول الخليج عامة يتمحور حول الاعتماد الكامل على موارد النفط والارتهان بها، دون تنويع مصادر الدخل، وهو رهان يحمل المغامرة، إذ إن أي هزة يتعرض لها سوق النفط ستؤثر مباشرة في صلب الاقتصاد وهو ما تكشف في أزمة الأسعار الأخيرة.
قانون الدين العام
في محاولة للخروج من هذا المأزق أحالت الحكومة للبرلمان مشروع قانون الدين العام الشهر الماضي، هذا المشروع الذي يسمح لها باقتراض نحو 65 مليار دولار على مدى 30 عامًا، وهو ما كانت تعول عليه البلاد لعبور المرحلة الحرجة التي تواجهها.
وزير المالية يرى ضرورة إقرار القانون الذي من المفترض أن يوفر السيولة المؤقتة للدولة في مواجهة عجز الميزانية، إلا أنه في الجهة المقابلة هناك من يعتبر أن القانون بصيغته الحاليّة وفي ظل افتقاده لبعض البنود المهمة، في مقدمتها تحديد أوجه الصرف، سيؤدي بطبيعة الحال إلى مزيد من تدهور الأوضاع وتفاقم مستويات العجز.
وأمام غياب التوافق بين مجلس الوزراء ومجلس الأمة بشأن إقرار قانون الدين العام، بجانب استمرار تداعيات مواجهة كورونا، سواء زيادة الإنفاق أم تراجع معدلات النمو، فإن الوضع يزداد سوءًا يومًا تلو الآخر، هذا لو وضعنا في الاعتبار احتمالية أن يتعرض سوق النفط لأي هزة مستقبلية، وهو أمر غير مستبعد.
فريق آخر يرى ضرورة التوصل إلى صيغة توافقية بين الحكومة والبرلمان لإقرار القانون في أقرب وقت، بالشكل الذي يحقق القبول لدي الطرفين، أن يقدم مجلس الوزراء تطمينات وتفصيلات تحفظ المال العام، وأن يبدي مجلس الأمة المرونة اللازمة لتمرير التشريع.
يعتبر هذا الفريق أن القانون الآن – طالما لم يوجد حلول أخرى – بمثابة جهاز التنفس الصناعي للاقتصاد الكويتي لتخطي المرحلة الحرجة، على أن يعيد حساباته وهيكلة أركانه بالكلية عقب خروجه من فترة النقاهة، أما ما دون ذلك فإن إصرار كل طرف على موقفه سيدفع ثمنه غاليًا، الكويتيون والدولة معًا.
ويبقى الشهر القادم هو الفيصل في تحديد مستقبل الاقتصاد الكويتي، فيما يترقب الشعب ما سيسفر عنه الخلاف بين السلطتين، التنفيذية والتشريعية، وسط حالة من القلق تخيم على الأجواء، من الممكن أن يكون لها تداعيات أخرى إن لم يتم تداركها بإصلاحات عاجلة.