منذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، ومرورًا بتصاعد الدور الإيراني فيه منذ ذلك التاريخ، والعراق أصبح قاعدة لصيغة توازنية اعتادت كل من الولايات المتحدة وإيران تأسيسها في العراق، وذلك عبر الأدوار المزدوجة التي قاموا بها في تشكيل الحكومات العراقية منذ عام 2006، وهو ما أنتج بدوره حكومات توافقية ضعيفة، لم تتمكن بدورها من التأسيس لبيئة سياسية عراقية صحية، بل على العكس من ذلك، ساهمت هذه الحكومات في تعميق حالة الفساد الإداري والمالي في مؤسسات الدولة، إلى جانب الإخفاقات الأمنية والعسكرية، التي كانت أبرزها ظهور تنظيم داعش في يونيو 2014، وما تبعه من بروز للفصائل المسلحة، ساهمت هذه الظواهر جميعها في إنتاج دولة عراقية ضعيفة ومتهالكة، غير قادرة على الوفاء بأبسط التزاماتها حيال المواطن العراقي.
مثل انطلاق تظاهرات احتجاجية في بغداد وبعض المدن جنوب العراق في أكتوبر 2019، إحدى أبرز حالات التطور السياسي والاجتماعي الذي وصل إليه المواطن العراقي، من خلال دعوته لإصلاح النظام السياسي وإنهاء النفوذ الخارجي، وهو ما أدى بالنهاية إلى إجبار رئيس الوزراء السابق السيد عادل عبد المهدي على تقديم استقالته في ديسمبر 2019، ليتم بعد ذلك تشكيل حكومة انتقالية برئاسة مصطفى الكاظمي، الذي أظهر منذ الأيام الأولى لتوليه الحكومة، طموحًا لإنشاء نموذج مختلف للعراق، يؤكد على السيادة وإصلاح المنظومة الأمنية ومكافحة الفساد والبحث عن علاقات متوازنة مع المحيط الخارجي.
زيارته لواشنطن بعد طهران
جاءت زيارة الكاظمي لواشنطن، لتؤسس لمرحلة جديدة من العلاقات مع الولايات المتحدة، وهي زيارة جاءت بعد زيارة لطهران بداية الشهر الماضي، وفي ذلك توجه لبناء رؤية عراقية توازن بين الضغوط الإيرانية والضرورات الأمريكية، وعلى الرغم من جهود إيران للتأثير على مخرجات زيارة الكاظمي لواشنطن، عبر إرسال قائد قوة القدس إسماعيل قآني لبغداد، قبل زيارته بيوم، فإنها لم تتمكن بالنهاية من تحقيق هذا الغرض، خصوصًا في موضوع سحب القوات الأمريكية من العراق، وهو ما تم تأكيده في المؤتمر الصحفي الذي جمع بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والكاظمي في البيت الأبيض، عندما أكدا بصورة واضحة بأنه لا انسحاب للولايات المتحدة من العراق في الوقت الحاضر، وأنهما متفقان في الوقت الحاضر، لبناء علاقة عسكرية يبقى فيها عدة آلاف من الجنود الأمريكان في العراق، للقيام بمهمات التدريب والدعم للقوات العراقية، دون أن تكون هناك جداول زمنية واضحة تحدد موعد الانسحاب.
وفضلًا عن ذلك، كان واضح أن هناك اتفاقًا مسبقًا على طبيعة المواضيع التي ينبغي تدوالها بين الطرفين في المؤتمر الصحفي الذي جمع بين ترامب والكاظمي، إذ تم الحديث عن الملفات الاقتصادية والاستثمارية والسياسية، دون الحديث بشكل معمق عن الملف الأمني، وهو ما يشير إلى أنه حظي باهتمام كبير خلف الأبواب المغلقة، لما يمثله هذا الملف من حساسية كبيرة لإيران والفصائل المسلحة في العراق.
وتشير المصادر إلى أن إصلاح منظومة الحشد الشعبي واحتواء الفصائل الولائية المسلحة عبر تجفيف منابعها الاقتصادية وقطع الدعم الإيراني عنها وتقوية أجهزة الأمن العراقية، ستمثل الأساس الذي سيتبناه الكاظمي معها مستقبلًا، بدعم وإسناد من التحالف الدولي ضد داعش الذي تقوده الولايات المتحدة في العراق.
الزيارة كانت في جزء منها، استكمالًا لجولات الحوار الإستراتيجي الذي انطلق بين الولايات المتحدة والعراق في يونيو الماضي
شكلت المقاربة الأمنية التي قدمها الكاظمي للمسؤولين الأمريكيين في واشنطن، تطورًا مهمًا في فهم الحالة الأمنية بالعراق، من خلال إشارته إلى أن الدور القتالي للقوات الأمريكية ينبغي أن ينتهي، وأن العراق بحاجة للدعم والتجهيز فقط، وهي مقاربة جاءت متوافقة مع رؤية الرئيس ترامب الذي يطمح إلى سحب ما تبقى من قواته من العراق مستقبلًا، وهذا التوازن بين المصالح الأمريكية والضرورات السيادية العراقية، جاء كتوجه من الكاظمي لسحب ورقة مهمة من يد إيران وحلفائها في العراق، وقد تشكل مبررًا للبدء بموضوع حصر السلاح بيد الدولة، بعيدًا عن تذرع الفصائل الولائية بموضوعة مقاومة الوجود الأمريكي في العراق.
كما هو واضح، فإن هذه الزيارة كانت في جزء منها، استكمالًا لجولات الحوار الإستراتيجي الذي انطلق بين الولايات المتحدة والعراق في يونيو الماضي، وهو حوار يسعى فيه كل من الطرفين إلى بلورة رؤية جديدة للعلاقات المستقبلية بينهما، خصوصًا في المجالين الأمني والاقتصادي، ومن المتوقع أن تستكمل الجولات الأخرى لهذا الحوار في الأشهر المقبلة، فالعراق نقطة رئيسة في مسارات التنافس بين الولايات المتحدة وإيران، وهي مسارات عقدت المشهد السياسي في العراق طيلة الفترة الماضية، وعبر هذا الحوار يسعى الكاظمي إلى بناء نوذج عراقي قادر على الحياة، وهو ما عبر عنه صراحة في زيارته لطهران، عندما أبلغ المسؤولين هناك أنه يتعين على طهران إقامة علاقات “دولة مع دولة”، بدلًا من العمل بصيغة دولة وميليشيات مسلحة، قوضت مفهوم الدولة في بغداد.
العمق العربي.. أول مخرجات الزيارة
يعقد عاهل الأردن الملك عبد الله الثاني والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والكاظمي اجتماعًا ثلاثيًا في عمان هذا الأسبوع، بناءً على ما أفاده الديوان الملكي في بيان له يوم الجمعة، وبحسب البيان، ستركز القمة التي تعقد للمرة الثالثة على تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري بين الأردن ومصر والعراق، إضافة إلى بحث القضايا الإقليمية، وأشار إلى أن القمة الثلاثية الأولى عقدت في القاهرة في مارس 2019، تبعتها قمة ثلاثية عقدت في نيويورك في سبتمبر من العام الماضي.
كما يسعى الكاظمي أيضًا إلى القيام بزيارة مرتقبة للمملكة العربية السعودية، وهي زيارة كانت مقررة فيما سبق، قبل أن يتم تأجيلها، بسبب وعكة صحية دخل على إثرها الملك سلمان بن عبد العزيز إلى المستشفى، وهي زيارة من المتوقع أن تشهد مزيدًا من الترتيبات الاقتصادية والسياسية، بناءً على اتصال هاتفي جمع الكاظمي بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الأسبوع الماضي.
العراق يمتلك فرصة للخلاص من الواقع الراهن
وخلال زيارته لواشنطن، التقى الكاظمي بالعديد من الشخصيات البحثية والأكاديمية هناك، وتحدث عن مستقبل للشرق الأوسط شبيه بأوروبا، مع تدفقات أكثر حريةً لرأس المال والتكنولوجيا، فيما أطلق عليه مشروع “بلاد الشام الجديدة”، وهو مشروع يسعى لمناقشته في عمان مع قادة مصر والأردن، وعن موقف العراق من التطبيع الذي حصل الأسبوع الماضي بين الإمارات العربية المتحدة و”إسرائيل”، أشار الكاظمي بعناية: “هذا قرار إماراتي، ولا ينبغي لنا التدخل فيه”.
ينظر الكاظمي إلى أن العراق يمتلك فرصة للخلاص من الواقع الراهن، وذلك لمؤشرات كثيرة أهمها الشارع العراقي المطالب بالإصلاح ومكافحة الفساد، والوضع الصعب الذي تعيشه إيران، وتحديات عالم ما بعد كورونا، وهي مؤشرات قد تخلق بيئة عراقية يمكن له الحركة من خلالها، ولعل إصراره على إجراء الانتخابات المبكرة في يونيو القادم، قد يشكل بداية حقيقية للإصلاح في العراق، خصوصًا إذا تمكن من توفير بيئة انتخابية صحية، بعيدة عن سطوة السلاح والتجاذبات الخارجية.