قضية اللفظ والمعنى
شغلت قضية اللفظ والمعنى اهتمام النّقاد العرب القدامى ودارت بينهم النقاشات المستفيضة عن المسألة، فكان مدار الأمر بشأن النص الشعري أو النثر الأدبي الجميل والبليغ، ما سر الجمال والإبداع فيه هل هو بفعل تناسق ألفاظه وجمالها أم نتيجة سمو معانيه واتساقها، وانقسموا إلى فرق ومذاهب شتى انتصر بعضها للفظ وانحاز البعض الآخر للمعنى.
والحقيقة أن قضية اللفظ والمعنى لم تكن مقتصرة على النقد العربي القديم، بل نجد لها جذورًا وامتدادات في الآداب اليونانية القديمة، فأفلاطون يتحدث بإسهاب عن المسألة، لكن من جانب فلسفي وبقياس منطقي، فهو يفترض أن الوعي له الأسبقية على المادة، ووفق هذا القياس فالمعاني التي هي نتاج الوعي لها الأسبقية على الألفاظ التي هي مجرد محاكاة لما هو موجود في عالم المُثل من معانٍ وأفكار.
ويُشَبه أفلاطون عمل الأديب بالمرآة، فهو ينقل المعاني والأفكار من عالم المُثل إلى الواقع عبر الألفاظ، لكن هذه الألفاظ كالصورة المنعكسة في المرآة تبقى مزيفة، وأن الأصل والجوهر هو في المعاني الأصلية، وبهذا يكون أفلاطون قد انتصر للمعاني على الأفكار، وعارضه تلميذه أرسطو الذي ذهب للتوفيق بين المعاني والألفاظ، معتبرهما ركيزتين أساسيتين لبلوغ النص الأدبي غايته من حيث الفصاحة والبلاغة.
وبدورهم، كان للنقاد العرب آراء متبانية ومختلفة في المسألة، وفيما يلي استعراض لأهم هذه الآراء.
اللفظ والمعنى عند الجاحظ
الجاحظ أحد أبرز الكتّاب العرب القدماء، ويعد علامة فارقة في الأدب العربي، تميز الجاحظ بثقافته الموسوعية، فهو يناقش قضايا الأدب والتاريخ والاجتماع والطبيعة في كتبه باقتدار كبير وبإحاطة تامة لجوانب المواضيع التي يخوض فيها، ويُعد الجاحظ أول من تحدث عن قضية اللفظ والمعنى في الأدب العربي حينما قال: “المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ”.
ومعنى كلام الجاحظ أن المعاني التي يطرقها الأديب والشاعر هي مشاعة ومتاحة للجميع “مطروحة في الطريق”، لكن ما يكسبها أهمية هو صياغتها بقالب أدبي جميل وانتقاء الألفاظ المناسبة للتعبير عنها، فمثلًا حينما نتأمل قصيدة “الأرملة المرضعة” لمعروف الرصافي نجد أنها في الأصل نتيجة مشاهدة وملاحظة الرصافي لامرأة أرملة أشقتها الحياة حتى دفعتها للخروج بملابس رثة وهي تحمل رضيعتها وتتسول في الشوارع!
الجاحظ من دُعاة المواءمة بين الألفاظ والمعاني، إذ يشبه الألفاظ بالبدن والمعاني بالروح، فهو يجعل العلاقة بين المعاني والألفاظ كعلاقة الروح بالجسد
مثل هذا المشهد مألوف لدينا جميعًا، وربما قد سبق لنا جميعًا مشاهدة مثل هذه الحالة، لكننا لسنا شعراء لنصيغ من هذا المعنى قصيدةً، ولسنا رسامين لنصيغ منه لوحةً، لكن الأديب بحسه المرهف يُحَول هذا المعنى الشائع إلى قصيدة مؤثرة تأخذ بالألباب، وهذا ما عناه الجاحظ بعبارة “المعاني مطروحة في الطريق”.
وقد فهم البعض خطأ من خلال هذه المقولة أن الجاحظ من أنصار الألفاظ وأنه يحط من شأن المعاني، والصحيح أنه من دُعاة المواءمة بين الألفاظ والمعاني لأنه يصرح في مواضع أخرى برأيه، فيشبه الألفاظ بالبدن والمعاني بالروح، فهو يجعل العلاقة بين المعاني والألفاظ كعلاقة الروح بالجسد فيقول: “الأسماء في معنى الأبدان، والمعاني في معنى الأرواح، اللفظ للمعنى بدنٌ، والمعنى للفظ روح”.
اللفظ والمعنى عند ابن قتيبة
ابن قتيبة الدينوري، أحد أعلام الثقافة العربية وكتّابها البارزين، ترك إرثًا أدبيًا يُشار له بالبنان، فكُتبه “عيون الأخبار” و”أدب الكاتب” و”الشعر والشعراء” تحتل مكانة مرموقة في التراث الأدبي العربي، وفضلًا عن كون ابن قتيبة أديبًا وناقدًا فهو رجل دين وفقيه في ذات الوقت له مصنفات في الفقه والتفسير والحديث وقد وصفه ابن تيمية بأنه “مُتكلم أهل السنة”.
ذهب ابن قتيبة للفصل التام بين الألفاظ والمعاني، فهو نظر إليها نظرة مختلفة عن نظرة الجاحظ، واستقرأ ابن قتيبة الشعر العربي فوجده على أربعة أضرب متباينة: أول ضرب فيها يمثل ما حسن لفظه وجاد معناه والضرب الثاني يمثل ما حسن لفظه وقصر معناه، والضرب الثالث على العكس من الثاني حسن معناه وقصر لفظه، والضرب الرابع قصرت ألفاظه ومعانيه فهو يمثل الشعر الرديء.
وبهذا التقسيم الذي يفصل ابن قتيبة فصلًا تامًا بين اللفظ والمعنى، لكن إشكالًا جديدًا ظهر في تمثيل ابن قتيبة لهذه الأضرب الأربع، فهو استشهد بأبيات مشهورة ليزيد بن الطثرية في تمثيله للضرب الثاني من تقسيمه لأضرب الشعر، والأبيات هي:
ولما قضينا من منى كل حاجة … ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على حدب المهاري رحالنا … ولا يدري الغادي الذي هو رائحُ
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا … وسالت بأعناق المطي الأباطحُ
عدّ ابن قتيبة هذه الأبيات شاهدًا لما حسن لفظه وقصر معناه، لكن بعض النقّاد كعبد القاهر الجرجاني وابن جني لم يوافقوا ابن قتيبة فيما ذهب إليه وأشادوا بمعاني وألفاظ هذه الأبيات، وهذا الإشكال فتح لنا باب النقاش والجدال عن ماهية المعيار النقدي في الحكم على سمو المعنى أو انحطاطه في الشعر، فابن قتيبة الفقيه ورجل الدين لم يجد في هذه الأبيات معنى دينيًا أو أخلاقيًا ليحتفي بها، فهو يركز وبحكم ميوله الإسلامية على الأشعار التي تتضمن معانٍ دينية أو أخلاقية.
بينما يميل النقاد الآخرون إلى معانٍ أخرى قد لا تحمل مضمونًا دينيًا أو أخلاقيًا، بل إن بعضهم ذهب لأبعد من ذلك، فطالب بفصل الدين عن الشعر كما سنرى في رأي القاضي الجرجاني، وبالمجمل فإن رأي ابن قتيبة كان له الأثر البارز في بعض النقاد المتأخرين الذين أخذوا بتقسيمه لأضرب الشعر الأربع.
القاضي الجرجاني وجداله عن المعاني
أشعل المتنبي إوار حرب نقدية ضروس بين فئتين متخاصمتين من النقاد، أرادت إحداها تجريد المتنبي من صفة الشاعرية والحط من شأن نتاجه الأدبي، بينما غالت الأخرى في دفاعها عنه حتى عدّته أسطورة للشعر بلا منازع!
إذا أردنا أن نحط من شأن شعر المتنبي لشطحاته العقدية فإننا يجب أن نحط من شأن معظم الشعر العربي خاصة الجاهلي منه
وفي خضم هذا الصراع كتب القاضي الجرجاني كتابه “الوساطة بين المتنبي وخصومة”، وناقش فيه بعض قضايا الشعر في معرض دفاعه عن المتنبي، ومما تطرق إليه القاضي الجرجاني قضية علاقة الدين والأخلاق بالشعر، فالمتنبي قد تعرض لحملة نقدية ممنهجة حطت من معاني شعره خاصة التي قد يفهم منها فساد عقيدة المتنبي كقوله:
يترشفن من فمي رشفات … هن فيه أحلى من التوحيد
ينطلق القاضي الجرجاني في مَعرض دفاعه عن المتنبي بإيراد شواهد منتقاة من خمريات أبو نواس فضلًا عن نماذج أخرى من الغزل الفاحش، ثم يشير إلى الشعر الجاهلي وما حواه من فحش ووثنية ودعوة للعصبية القبلية وكل هذه الأمور بالضرورة تنافي ما دعت إليه الشريعة الإسلامية، فإذا أردنا أن نحط من شأن شعر المتنبي لشطحاته العقدية فإننا يجب أن نحط من شأن معظم الشعر العربي خاصة الجاهلي منه، ومن هذا المنطلق يدعو القاضي الجرجاني لإبعاد الشعر عن الدين، لأن الحكم الديني على هذه الأشعار شيء والحكم الأدبي شيء آخر، وهذا الرأي يناقض رأي ابن قتيبة الدينوري في مسألة سمو المعاني وانحطاطها.
عبد القاهر الجرجاني ونظرية النظم
امتد الجدال في هذه القضية النقدية حتى وصل إلى أحد أعلام العربية وشيوخها البارزين وهو الإمام عبد القاهر الجرجاني (وهو غير القاضي الجرجاني الذي تحدثنا عنه في الفقرة السابقة)، الذي كان له رأي مميز في هذه المسألة، فالجرجاني رفض الفصل بين اللفظ والمعنى، وعدّهما متلازمين بالضرورة، كما رفض القول بأن تكون الألفاظ فصيحة بمفردها وإنما تكتسب الفصاحة بنظمها في جُملة الكلامِ.
لكي يثبت الجرجاني صحة نظريته فقد طبقها تطبيقًا عمليًا على آيات من القرآن ونماذج منتقاة من الشعر العربي
وينتهي الجرجاني إلى وضع نظرية النظم التي ترى أن الكلام يكتسب فصاحته وبلاغته بتآزر الألفاظ مع المعاني وبتوخي قواعد النحو العربي في صياغة الكلام، وفي هذا يقول الجرجاني موضحًا نظريته: النظم هو توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم من علاقات، ويضيف: “واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت فلا تبخل بشيء منها”.
ولكي يثبت الجرجاني صحة نظريته فقد طبقها تطبيقًا عمليًا على آيات من القرآن ونماذج منتقاة من الشعر العربي وبحث خلالها مواضيع مثل التقديم والتأخير والفصل والوصل والإظهار والإضمار وغيرها من المواضيع ليثبت صحة ما دعا إليه وهو أن لا مزية للألفاظ على المعاني ولا فضل للمعاني على الألفاظ وإنما مَدار الأمرِ على حُسن النَظم.
وامتد النقاش بشأن هذه المسألة حتى وصل إلى النقاد العرب المُحدثين الذين لم يضيفوا جديدًا على المسألة واكتفوا بترجيح رأي على آخر من آراء النقاد القدامى، وإن أجمع معظمهم على الإشادة بما توصل إليه الإمام عبد القاهر الجرجاني في دراساته اللغوية.