نقطة تحول مصيرية في مستقبل العملات المشفرة بأمريكا وباقي دول العالم، حيث سمح المشرع الأمريكي بدءًا من نهاية شهر يوليو/تموز للبنوك بشراء العملات المشفرة وحفظها لفائدة عملائها بشكل قانوني، هذا القرار، إضافة إلى عوامل أخرى، ساهم في ارتفاع قيمة إحدى أهم العملات المشفرة، البيتكوين، لتتجاوز سقف عشرة آلاف دولار.
اهتمام البنوك بما يعرف بالذهب الرقمي يشكل قطيعة جديدة مع مرحلة الشك والريبة التي طبعت العلاقة بين المؤسسات البنكية والتمويلية التقليدية والفاعلين بقطاع العملات المشفرة.
تدخل المشرع الأمريكي لفتح قنوات الربط بين هذين العالمين هو نتاج تزايد استثمارات الخواص والشركات بمحافظ رقمية مشفرة.
هذا التشبيك سيسمح من الآن فصاعدًا للبنوك بتوفير خدمات استشارية وبيع مختلف منتجات الذهب الرقمي لعملائها، وبالتالي رفع سقف الثقة للجوء لشراء العملات المشفرة، التي كانت حتى وقت قريب حكرًا على نخبة مالية وتقنية ضيقة تفضل دائمًا البقاء في الخفاء.
سابقًا، كانت المؤسسات المالية التقليدية تجبر زبائنها على التوقيع على وثائق عدم تحمل المسؤولية في كل ما يتعلق بالمعاملات المرتبطة بهذه العملات كالبيتكوين وما جاورها وذلك خوفًا من الخسائر المحتملة للاستثمارات الخطرة بهذا المجال.
حذر البنوك لم يمنع تزايد اللجوء المطرد لشراء العملات المشفرة خاصة مع اضطرابات الاقتصاد العالمي بسبب تداعيات جائحة كورونا على مختلف الأنشطة الاقتصادية عبر العالم، والدليل على ذلك، ارتفاع قيمة البيتكوين بنسبة 120% منذ شهر مارس الأخير، مستفيدة من تراجع قيمة الدولار وارتفاع قيمة الذهب التي فاقت سقف 2000 دولار للأوقية.
عمليًا، سيصبح بإمكان عملاء البنوك طلب حفظ المفاتيح المشفرة لحساباتهم بالبيتكوين والعملات المشفرة كنشاط جديد للمؤسسات البنكية المكلفة بالمحافظ الاستثمارية، ودور البنك سيكون مفصليًا لحماية العملاء لكي لا يفقدوا هذه المفاتيح المشفرة الضرورية للتصرف في إدخاراتهم من العملات الرقمية.
قبل قرار السلطة المكلفة بتنظيم السوق المالية الأمريكية، نجح بنك JP Morgan في الفصل الأول من هذه السنة، في استقطاب عميلين كبيرين في مجال بورصة العملات المشفرة، يتعلق الأمر ببورصة Coinbase وGemini. هذه الصفقة لأكبر البنوك الأمريكية كانت بلا شك مبادرة استباقية للاستعداد لقرار الإدارة المالية العامة للسماح بالاستثمار بالذهب الرقمي عبر البنوك ومؤسسات التوفير.
التحول بالسوق الأمريكية مع قبول البنوك فتح حسابات بنكية بالعملات المشفرة لعملائها وتقديم خدمات استشارية واستثمارية بهذا المجال سيرفع من رصيد الثقة بهذه الحلول البديلة للأنظمة المالية التقليدية، ولضمان الثقة، التي كانت الهاجس الكبير لكل من يود شراء عملة مشفرة، ستراقب البنوك، حفظًا لحقوق عملائها، المنصات الإلكترونية المتخصصة بإنشاء العملات المشفرة وبيعها للتأكد من أنها تتحكم في كل المخاطر التقنية والمالية المرتبطة بنشاطاتها.
وتجدر الإشارة إلى أن عدد مستخدمي العملات الرقمية بلغ 10% من سكان الولايات المتحدة الأمريكية، أي ما يقرب مليون عميل من ضمنهم عملاء خواص وشركات.
تدخل المشرع الأمريكي لفتح قنوات الربط بين هذين العالمين هو نتاج تزايد استثمارات الخواص والشركات بمحافظ رقمية مشفرة
الارتفاع الصاروخي لقيمة البيتكوين لدرجة تجاوز سقف 10000 دولار هو ترجمة واقعية لعدم ثقة المستثمرين الخواص والشركات في مختلف مشاريع إنعاش الاقتصاد لمرحلة ما بعد جائحة كورونا، خاصة أن مختلف المبادرات سيكون لها آثار سلبية ستزيد من ارتفاع مستويات التضخم بمختلف اقتصادات العالم.
ارتفاع البيتكوين المطرد يؤثر بشكل مباشر على باقي مختلف العملات المشفرة، والدليل على ذلك أن عملة اللإثير Ether تجاوزت من جهتها سقف 300 دولار، بقيمة ارتفاع فاقت نسبة 37% منذ بداية شهر يوليو/تموز الأخير، وحاليًّا، القيمة السوقية، لثاني أهم عملة مشفرة هو 36 مليار دولار مقابل 191 مليار دولار بالنسبة للبتكوين.
في العديد من الدول عبر العالم وبسبب طول مدة الحجر الصحي وتوالي قرارات منع التجول، لوحظ تزايد ثقة المواطنين والمستثمرين في عملات الذهب الرقمي المشفرة خاصة في الدول التى عرفت عملاتها الوطنية تدهورًا ملحوظًا أمام الدولار واليورو، وبسبب تزايد القيود على شراء العملات الأجنبية، خاصة الدولار، أصبح اللجوء إلى العملات المشفرة خيارًا أسهل وأرخص لتجاوز القرارات التضييقية للبنوك المركزية في هذا المجال.
رغم الاتجاه العام للحذر من العملات المشفرة عبر العالم، فإن الانفتاح الأخير للمشرع المالي الأمريكي والبنوك وشركات التوفير، سيشكل نقطة فارقة تؤسس لسوق عملات مشفرة معترف به بعدما كان حتى وقت قريب مصدر شك وريبة ومخاطرة غير محمودة العواقب.
العالم العربي والبيتكوين.. ريبة وحذر
سيكون لديناميكية السوق الأمريكية لا محالة أثر على اتساع الاعتراف بالعملات المشفرة بالعالم العربي، ورغم أن هناك مشاريع خاصة وعمومية بالعديد من الدول العربية تستعمل تقنية بلوك تشين Blockchain كالسعودية والإمارات وقطر والبحرين وتونس والأردن، إلا أن الحذر والريبة هو ما يشوب الاتجاه العام السائد حتى الآن فيما يتعلق بالعملات الرقمية، حتى إن مستعملي البيتكوين في المنطقة قد يواجهون تهمًا من قبيل تمويل الإرهاب أو تبييض الأموال.
فقد حذرت البنوك المركزية بدول الخليج والمغرب العربي المواطنين والشركات من التعامل بالعملات الرقمية بحجة خطر القرصنة والسرقة أونلاين، بل ذهب البعض منها إلى التهديد بتطبيق عقوبات مالية وبالحبس في حال تداول عملات مشفرة، وتأتي هذه الإجراءات التضييقية كوسيلة للحد من استعمال البيتكوين كذريعة لتهريب الأموال خارج هذه الدول خاصة منها تلك ذات عملة وطنية غير صعبة (غير قابلة للصرف).
هناك فتاوى دينية عديدة تعتبر التعامل بهذه العملات غير موثوق وغير متوافق مع مبادئ المالية الإسلامية بسبب خطر السرقة والغبن
لا شك أن القرار الأمريكي الذي يسمح للبنوك بالتعامل بالعملات المشفرة هو إشارة سياسية ومالية كفيلة بتشجيع البنوك المركزية العربية على إعادة النظر في موقفها الرافض والمُضيق على البيتكوين وغيرها من العملات المشفرة، وذلك عبر منح رخص لشركات أمريكية وأوروبية ببدء نشاطات بشكل قانوني في التداول.
وما هي إلا مسألة وقت حتى يتغير الاتجاه العام الراديكالي الرافض للعملات المشفرة الذي كان سائدًا حتى الآن بأغلب الدول العربية.
وبغض النظر عن المنع العمومي الحاليّ للذهب الرقمي، هناك كذلك فتاوى دينية عديدة تعتبر التعامل بهذه العملات غير موثوق وغير متوافق مع مبادئ المالية الإسلامية بسبب خطر السرقة والغبن، وهو الموقف الذي لم يحل دون لجوء بعض الدول إلى الشروع في استعمال تقنيات بلوكتشين والتفكير في إنشاء منصات رقمية لعملات مشفرة متوافقة مع مبادئ المالية الإسلامية.