“صفر مقاعد”.. كانت هذه محصلة حزب النور السلفي في انتخابات مجلس الشيوخ المصري التي أجريت مؤخرًا، يومي 9 و10 من أغسطس في الخارج، ويومي 11 و12 من أغسطس في الداخل، وذلك بعدما سيطر الحزب الوطني الجديد الذي يحمل شعار “مستقبل وطن” على النسبة الأكبر من الكراسي، محتكرًا بذلك الغرفة التشريعية الثانية كما احتكر الأولى (مجلس النواب) في آخر انتخابات برلمانية جرت.
ورغم أن هناك جولة إعادة من المقرر أن تجرى يومي 6 و7 من سبتمبر القادم في الخارج، و8 و9 من سبتمبر في الداخل، لتعلن النتيجة رسميًا يوم 16 من الشهر ذاته، ويشارك بها 4 أعضاء من الحزب السلفي، فإن المؤشرات كافة تذهب إلى أن النتيجة لن تبارح مكانها بشأن الحزب الذي لم يدخر وقتًا ولا جهدًا لدعم النظام الحاليّ منذ الوهلة الأولى.
قراءة نتائج الانتخابات الأخيرة لا يمكن أن تقف عند حاجز المقاعد التي خسرها الحزب وفقط، إذ إنها تعبر عن حالة المزاج السياسي لدى السلطة الحاكمة تجاه التيار السلفي في مصر، التي بدأت تلوح إرهاصاتها في الأفق قبل عدة سنوات، حيث بات يمثل هذا التيار صداعًا في رأس النظام يريد أن يتخلص منه قريبًا.
العديد من الملامح والشواهد التي سبقت انتخابات الغرفة التشريعية الثانية تذهب في هذا الاتجاه، إقصاء التيار من الحياة السياسية نهائيًا، فيما تخرج بعض الأصوات التي تطالب بحل الحزب بصورة رسمية كونه يقوم على أساس ديني، حتى إن كان وجوده متماشيًا مع هوى السلطات طيلة السنوات السبعة الماضية، فما كان ضروريًا بالأمس لم تعد هناك حاجة إليه اليوم.
من القمة للقاع
مر الحزب منذ تدشينه في أعقاب ثورة 25 يناير 2011 بالعديد من المراحل والمحطات المهمة في مسيرته التي اعترتها الكثير من التساؤلات وعلامات الاستفهام، لا سيما أنها جاءت في كثير منها متناقضة أو صادمة للخط العام الذي رسمه الحزب لنفسه منذ بداية انخراطه في العمل السياسي.
البداية كانت مع انتخابات مجلس الشعب (البرلمان) التي عقدت على ثلاث مراحل بدأت في الـ28 من نوفمبر/تشرين الثاني 2011 وانتهت في الـ19 من يناير/كانون الثاني 2012، وأسفرت عن حصول حزب النور السلفي على 96 مقعدًا محتلًا المرتبة الثانية بعد حزب الحرية والعدالة، التابع لجماعة الإخوان المسلمين.
فرض الحزب نفسه في هذا الوقت على المشهد السياسي، كأحد أبرز مكونات تيار الإسلام السياسي، لكن سرعان ما أحدث تغييرات واضحة في خريطة فكره وتوجهاته، فكرس نفسه وجهده للهجوم على نظام الرئيس الراحل محمد مرسي وجماعة الإخوان.
النزاع على السلطة والرغبة في الحصول على أكبر قدر من المكاسب دفع الحزب إلى الانخراط – بقصد أو دون قصد – ضمن التيارات السياسية الأخرى التي ينتمي معظمها لنظام حسني مبارك، في حملات تشويه ممنهجة ضد النظام المدني، ما كان له أثر كبير في الإسراع بإسقاطه وهو ما حدث.
ثم جاء مشهد الـ30 من يونيو 2013 ليجد الحزب الميكافيللي فرصته في اعتلاء صدارة المشهد كونه في المرتبة الثانية (هكذا خُيل له) ليحشد أنصاره من أجل الإطاحة بمرسي وجماعته، وبدأ الحلم يداعب خيالات قادة التيار بعدما حل جلال مُرة، أمين عام الحزب، في أثناء إلقاء بيان انقلاب 3 يوليو 2013، هذا في الوقت الذي يعتصم المئات من حلفاء السلفيين القدامى في ميداني”رابعة” و”النهضة”.
توهم السلفيون أن بتأييدهم لخطوة الانقلاب على مرسي سيُفتح الطريق أمامهم نحو اعتلاء سدة الحكم أو على الأقل المشاركة فيه كأحد أبرز أركانه، لكن هذا لم يحدث، ومع مرور الوقت بات يستقر في يقين المنصفين من الحزب أنهم كانوا أداةً لتمرير ما حدث في 3 من يوليو، وأن دورهم يقتصر على كونه “ديكورًا” لإكمال المشهد وإخراجه على الصورة المأمولة.
ومع أول اختبار حقيقي لهم بعد الانقلاب، حيث انتخابات مجلس النواب في 2015، فقد السلفيون ما يزيد على 80% من حصتهم البرلمانية، حيث تراجعت أعداد المقاعد التي فازوا بها من 96 إلى 12 مقعدًا فقط، ثم جاءت انتخابات الشيوخ الأخيرة لتقضي على أحلام الحزب السياسية.
ومن المرجح أن يتواصل هذا الانهيار البيّن في حظوظ الحزب السياسية خلال انتخابات مجلس النواب القادمة، المتوقع إجراؤها نوفمبر المقبل، لتذهب كل الترجيحات إلى فقدان السلفيين ما تبقى لهم من مقاعد خلال الدورة البرلمانية القادمة، ليصبح بعدها الحزب خالي الوفاض تمامًا، تمهيدًا للمرحلة التالية التي ستكون الأقسى بلا شك.
انتهاء الدور
بات من الواضح أن استقطاب حزب النور ليكون ضمن خلفية المشهد السياسي للنظام الحاليّ في تقديم نفسه للشارع الذي يميل أغلبه للتدين، كان توظيفًا سياسيًا لا علاقة له بالأيديولوجيا، وهو ما بات يقينًا لدى الجميع يومًا تلو الآخر، وفق الشواهد الأخيرة على المستويات كافة.
ورغم ما قدمه السلفيون من تنازلات وصلت بعضها إلى عمق الدين وصلب الأحكام التي كانت بمثابة مناطق محظور الاقتراب منها قديمًا، فإن ذلك لم يشفع للسلطات الحاليّة التي فتحت الساحة أمام اليساريين وأنصار التيارات الليبرالية والعلمانية بجانب الأقباط لإعادة رسم المشهد وفق مقتضيات المرحلة الحاليّة.
وأصبح وجود هذا التيار داخل الحياة السياسية يمثل صداعًا مزمنًا لأجهزة الدولة، لا سيما المواقف الأخيرة داخل البرلمان، حيث الاعتراض على مصطلح “مدنية الدولة” في التعديلات الدستورية العام الماضي رغم أنها لم تغير في المسار المرسوم شيئًا، بجانب التحفظات التي أخذت على نواب النور داخل المجلس في أثناء مناقشة قوانين الأحوال الشخصية والمدينة وحقوق المرأة وخلافه.
خلال الأعوام الأربع الأخيرة على وجه التحديد بدأت مساحات رفاهية الحزب في الحركة والحضور السياسي تتقلص شيئًا فشيئًا، ورغم تفنيد السلطات لتلك الظاهرة، فإن الكثير من الشواهد برهنت عليها في أكثر من موقف، كانت الحكومة فيها وقوات الأمن العصا التي تم استخدامها لتضييق رقعة الانتشار السياسي للتيار في مختلف محافظات الجمهورية.
الحل.. السيناريو المؤلم
التفاصيل التي شهدتها ساعات انتخابات الشورى الـ48 داخل مصر تكشف وبشكل قاطع رغبة النظام في إقصاء النور من المشهد تمامًا، وهو ما وثقته شكاوى قيادات الحزب من استخدام قانون الطوارئ ضد ناخبيه ومؤيديه وملاحقتهم أمنيًا، هذا بخلاف بعض الممارسات الأخرى التي اعتبرها السلفيون استهدافًا لهم، بجانب تأخر بدء العملية الانتخابية في لجانه الفرعية المنوط بهم الاقتراع فيها بسبب تأخر رؤساء تلك اللجان.
فقدان الحزب لمقاعده داخل البرلمان بغرفتيه، في نظر البعض ربما تكون خسارة لجولة داخل معركة كبيرة ممتدة، وتستطيع كوادره إعادة هيكلة نفسها مرة أخرى بما يؤهلهم للانخراط في العملية السياسية مستقبلًا، لكن حتى تلك الرؤية ربما تصدم قريبًا بالواقع الأكثر مأساوية.
المواقف الأخيرة للحزب وخلع الدولة عباءة دعمه وحمايته كما كان في السنوات الأولى التالية لبيان 3 يوليو 2013، كلها مؤشرات دفعت البعض إلى إعادة الحديث مجددًا عن تحريك البلاغات السابقة التي تم رفعها لحل الحزب، التي تعود إلى عام 2015، حين تقدم محمد السيد الأطير (المحامي) ببلاغ إلى القائم بأعمال النائب العام وقتها، المستشار علي عمران مطالبًا فيه بحل حزب النور.
الأطير في بلاغه أشار إلى أن هناك أسبابًا عدةً وراء طلبه المقدم، أبرزها مخالفة قيام الحزب على أساس ديني لنص المادة “74” من الدستور ولنصوص مواد قانون تنظيم الأحزاب السياسية، فجميعها تحظر قيام أي حزب علي أساس ديني أو مرجعية دينية.
وكان المحامي قد أضاف في حوار أجراه قبل عدة سنوات أن رغبة السلطات في الإبقاء على حزب النور وعدم اتخاذ قرار بحله رغم مخالفته للدستور يرجع إلى إيثار الدولة للسلامة ورغبة منها في عدم خسارة تأييد جبهة دينية لا يُستهان بها كالتيار السلفي، غير أن الأمور تبدلت تمامًا مؤخرًا وما عاد السيسي أو نظامه بحاجة لغطاء ديني يبرر شرعية الحكم بعدما أحكم قبضته تمامًا على مفاصل الدولة بشتى الطرق، الشرعية منها وغير الشرعية.
وهكذا من المرجح أن يواجه السلفيون جزاء “سنمار” بعد سنوات قضوها في الدعم والتأييد المطلق، فالهجوم الذي يُشن ضد الحزب وتشويه صورته والمطالبة بحله وإقصائه سياسيًا، كلها مؤشرات تذهب إلى أن عمر هذا الحزب حديث النشأة لم يعد طويلًا كما كان يظنه أقطابه حين تآمروا على أول نظام مدني منتخب قبل 7 أعوام.