تعاني السلطة السودانية الحاكمة من حالة توتر بين مكونها العسكري والمدني، جراء التباين في وجهات النظر حيال عدد من الملفات السياسية والأمنية، الأمر الذي ينذر بتداعيات سلبية على الشارع السوداني المتعطش لتحقيق أهداف ثورته التي أطاح فيها بنظام عمر البشير في إبريل 2019.
وقد تصاعد الخلاف بين المكونين إلى الحد الذي شنّ فيه رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان، هجوما عنيفًا على حكومة عبدالله حمدوك، متهمًا إياها بالفشل في إدارة شؤون الاقتصاد ومعيشة الناس، وذلك خلال كلمة له الإثنين أمام ضباط وجنود القوات المسلحة، بمنطقة وادي سيدنا العسكرية بأم درمان.
البرهان في كلمته قال إنه و”رغم مرور أكثر من عام على نجاح الثورة، ليس هناك نجاح يذكر، ويستمر الصراع حول كراسي السلطة والمحاصصات الحزبية”، مشيرًا إلى “سوء التخطيط والإدارة”، معلقًا على مطالب البعض بإخضاع شركات الجيش لوزارة المالية بقوله إن “الفاشلين يريدون تعليق فشلهم على مؤسسة القوات المسلحة”، مبينًا أنهم عرضوا على الحكومة “تقديم المساعدة لها، لكنها لم تفعل شيئا”.
كما حذر رئيس مجلس السيادة من سعي بعض الجهات – دون أن يسميها- للفتنة بين القوات المسلحة والشعب، ساعية إلى صنع الأزمات، مؤكدًا أن “تلك المحاولات لن تنجح، ونحن متحدون ومتماسكون ويد واحدة، وعهدنا مع الشعب أن نقف معه ومع ثورته”.
وفي التفاصيل كشف أن تلك المحاولات تتضمن “تشويه سمعة القوات المسلحة، وشيطنة الدعم السريع، والفتنة بينهما”، وأن “هناك أصوات تدعو لتفكيك القوات المسلحة، وارتفعت وتيرتها في الفترة الأخيرة”، محذرًا في ختام كلمته من الفوضى الناجمة عن هذه الممارسات، موضحًا أن “تفكيك القوات المسلحة يعني تفكيك شعب السودان” على حد قوله.
لقاء البرهان- نتنياهو
منذ الوهلة الأولى التي فرض فيها جنرالات الجيش أنفسهم كأحد مكونات مرحلة مابعد البشير، وقيادتهم للمشهد بصورة شبه كاملة، رغم الممارسات المرتكبة بحق المحتجين والتي لا تزال محل خلاف داخل الشارع السوداني، وحالة من فقدان الثقة تخيم على الأجواء بأكملها.
ومنذ الإطاحة بالبشير في إبريل العام الماضي وموجات الشد والجذب تسيطر على العلاقات بين العسكر والمدنيين داخل السلطة، خاصة بعدما تكشفت العديد من النوايا السياسية لدى البعض هنا وهناك، وهو ما جعل التوتر بين الفصيلين نارًا خامدة خلف أقنعة الاستقرار المزعوم وعدم الرغبة في تسخين الأجواء قابلة للاشتعال في أي وقت.
وظلت الخلافات بين الجانبين في حدودها الدنيا بعيدة عن أعين المراقبين وأجهزة الإعلام، حتى فبراير الماضي، حين كشف رئيس وزراء “إسرائيل” عن لقاء جمعه والبرهان في أوغندا، ليخرج التوتر للعلن، حيث أحدث هذا اللقاء الذي وصفه بيان صادر عن مكتب نتنياهو بالتاريخي والإعلان عن “بدء التعاون تمهيدًا لتطبيع العلاقات” بين الجانبين، حالة من الجدل داخل الشارع السوداني.
يرى التيار المدني وعناصره داخل الحكومة أن كافة الموارد الاقتصادية الخاصة بالقوات المسلحة السودانية، والتي تعاظمت بصورة كبيرة منذ ولاية البشير، من حق الشعب السوداني
وفي أول رد فعل من الحكومة السودانية حيال هذا اللقاء الذي راهن البرهان أن يكون يكون سريًا ولو مؤقتًا، أصدر وزير الإعلام والناطق الرسمي للحكومة السودانية، بيانًا نفى فيه علم الحكومة بما جرى قائلًا: “لم يتم إخطارنا أو التشاور معنا في مجلس الوزراء بشأن هذا اللقاء، وسننتظر التوضيحات بعد عودة رئيس مجلس السيادة”.
وفي الجهة الأخرى رد رئيس مجلس السيادة على الانتقادات الموجهة إليه بأن السياسة الخارجية للبلاد هي من صميم اختصاصات مجلسي السيادة والوزراء، موضحًا أن تلك الزيارة التي قما بها لأوغندا والتقى خلالها رئيس حكومة الاحتلال كانت “من أجل الأمن القومي السوداني” وأن المضي قدمًا في هذا الاتجاه تقرره الجهات المختصة.
اقتصاد الجيش
ومن الملفات التي أثارت الخلافات داخل المكون السلطوي، اقتصاد الجيش، حيث يرى التيار المدني وعناصره داخل الحكومة أن كافة الموارد الاقتصادية الخاصة بالقوات المسلحة السودانية، والتي تعاظمت بصورة كبيرة منذ ولاية البشير، من حق الشعب السوداني.
تجمع المهنيين في السودان وهو أحد أبرز المكونات الثورية للسلطات الحالية كان قد دعا في 16 أغسطس الجاري إلى مظاهرات “مليونية”، للمطالبة بتصحيح مسار الثورة، والتعبير عن عدم الرضا حيال ما تم إنجازه على مدار عام كامل على الاتفاق السياسي مع المجلس العسكري.
التظاهرات التي جاءت تحت شعار “جرد الحساب” طالبت بضم شركات القوات النظامية والأجهزة الأمنية إلى ولاية وزارة المالية، معتبرة أن تجاهل الجيش لهذه المطالب يكشف عن سوء نية مبيته، وغض الطرف عن قائمة المطالب الثورية التي رفعها السودانيون في حراكهم الممتد من سبتمبر 2018 وحتى عزل البشير إبريل 2019.
من الملفات التي عمقت من توتر العلاقات بين العسكر والمدنيين عدم إحراز أي تقدم يذكر بشأن محاسبة القتلة والمفسدين منذ 1989 وحتى جرائم فض الاعتصامات، والمتورط فيها في المقام الأول قادة عسكريين ووحدات امنية كاملة
وأثارت تلك المطالب حفيظة جنرالات الجيش داخل النظام، لاسيما وأن بعضهم استطاع توظيف مكانته السياسية في تحقيق مكاسب مادية كبيرة كما حدث مع حمدان دقلو “حميدتي” والمتهم بتوسيع دائرة نفوذه المالي عبر تهريب ذهب بلاده للسودان والتربح من خلال علاقته بأبو ظبي والرياض.
البرهان وعلى مدار يومين كاملين، أمس واليوم، أمام عدد من الوحدات العسكرية، حذر من تلك المطالب التي يراها مؤشرًا لحدوث انقسامات داخل المؤسسة العسكرية، موضحًا أن “شركات الجيش أسست من استقطاعات من رواتب الجنود والضباط”، مؤكدا أن “الجيش لا يمانع أن تعم فائدتها كل السودانيين” على حد قوله.
ومن الملفات التي عمقت من توتر العلاقات بين العسكر والمدنيين عدم إحراز أي تقدم يذكر بشأن محاسبة القتلة والمفسدين منذ 1989 وحتى جرائم فض الاعتصامات، والمتورط فيها في المقام الأول قادة عسكريين ووحدات أمنية كاملة، الأمر الذي عزز من فقدان ثقة الشارع في رجال الجيش المنضوين تحت لواء السلطة الحاكمة الآن.
ويبقى الترقب هو الحالة التي تخيم على المشهد السوداني برمته، فتبادل الاتهامات بين الجنرالات والمدنيين لاشك وأنه سيعرقل أي خطوات من شأنها أن تحسن الوضع المعيشي للشعب السوداني، مع الوضع في الاعتبار هرولة العسكر إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني أسوة بحلفائه في المنطقة، الأمر الذي ربما يعقد الأمور، وهو ما ألمحت إليه القوى الثورية أكثر من مرة، محذرة من أن تجاهل الشعارات الثورية ربما يعيد الأوضاع إلى المربع رقم صفر مرة أخرى.