بين احتفالات صاخبة في العاصمة باماكو ومحاولات من المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا “إكواس” التي تراجعت بعض الشيء عن تشددها مع انقلاب مالي، لاحتواء القادة الجدد للبلاد والتباحث معهم، يصر النظام العسكري على الاستمرار في طريقه، ولا يبالي بغضب أمريكا وتعليق دعمها للجيش الذي يجد تأييدًا من الشارع، كما يتجاهل النظام الجديد تخوفات الأفارقة من خطر المغامرة الخشنة التي حال نجاحها قد تسهم في إعادة زمن الانقلابات للمنطقة وتدمر الديمقراطيات الناشئة في بلدان غرب القارة السمراء التي يصارع ماضيها حاضرها في استدعاء “الميري” إلى السياسة من وقت لآخر.
هل استقر انقلاب مالي؟
هكذا يبدو حتى الآن، العاصمة باماكو تشهد مظاهرات حاشدة تأييدًا للحكام الجدد الذي انقلبوا على الرئيس المعزول إبراهيم أبو بكر كيتا واعتقلوه بعد الانقلاب مباشرة، وأجبر على الاستقالة، وربما هذا ما جعل “إكواس” تلجأ لتخفيف لهجتها الحادة مع عسكر مالي، في محاولة لإعادة النظام الدستوري إلى البلاد بأقصى سرعة.
يبدو لافتًا أن وفد إكواس الذي يقوده الرئيس النيجيري الأسبق غودلاك جوناثان، ويعاونه رئيس مفوضية المجموعة جان كلود كاسي برو ووزير خارجية النيجر كالا أنكوراو، تراجع قليلًا في المفاوضات الجديدة، بعد أسبوع من التشدد في شروط المجموعة التي طالبت بالإفراج الفوري عن الرئيس المحتجز وعودته لممارسة مهامه ومعه كل أركان حكمه الذين اعتقلوا بجانبه وعلى رأسهم وزيرا الدفاع والأمن الجنرالان إبراهيما ضاهر وديمبيلي ومبيمبا موسى كيتا ورئيس البرلمان موسى تمبيني ورئيس أركان الجيش الجنرال عبد الله كوليبالي.
وتضغط إكواس الآن للإفراج عن القادة دون أن تضمن مفاوضتها عودتهم مرة أخرى، وتتحصن بكارت تعليق عضوية مالي في المجموعة وإغلاق الحدود معها وإيقاف أي تدفقات مالية لها، لكن كل هذا لم يؤثر في شيء، إلا في زيادة مخاوف الغرب الإفريقي من شبح النظام الجديد وتداعياته على القارة.
شاهد وفد إكواس عن قرب خلال زيارته للتفاوض، المظاهرات الشعبية المؤيدة للضباط الذين استولوا على السلطة بعد أشهر من احتجاجات شعبية بدأت بإلغاء انتخابات برلمانية رفضتها المعارضة وشككت في نزاهتها وأكدت تزوير النظام السابق لها، وهو ما تسبب في غليان الشارع الذي انضم للمعارضة في مطالبها برحيل الرئيس المنتخب إبراهيم أبو بكر كيتا.
لاحظ وفد المجموعة على الطبيعة صدق الكثير مما نقلته الشاشات للعالم، حشود داعمة لما يسمى “اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب” التي شكلها العسكريون الجدد، وخاصة العقيد قاسمي كويتا الذي عين رئيسًا للجنة واستطاع أن يستحوذ على الأضواء كاملة.
كما عرفوا أيضًا مدى انحسار الأضواء في المقابل عن القادة المدنيين من رموز الاحتجاجات الذين لمع نجمهم طوال الأشهر الماضية، لا سيما الإمام محمود ديكو الذي قاد الاحتجاجات الشعبية ضد الرئيس المعزول، وبعد صعود العسكريين، خرج الرجل ليؤكد عودته للمسجد مرة أخرى وعدم انخراطه بشكل مباشر في العمل السياسي.
أضرار الإطاحة السريعة بالرئيس
رغم الاستسلام السريع للرئيس إبراهيم بوبكر كيتا وإعلانه في بيان للإذاعة الوطنية ORTM التخلي طواعية عن وظيفته وكل سلطاته وحل مجلس الأمة والحكومة، ومحاولته التوفيق بين المتمردين والقوى الدولية، بتأكيده أنه لم يشعر بأي كراهية خلال اعتقاله من القوات المتمردة، فإن العالم أصبح يتخوف أكثر من هذه الإطاحة السريعة على الأمن الإقليمي.
الاتحاد الإفريقي كان أول الكيانات الدولية التي شعرت بهذا الخوف، ودعا بعد ساعات قليلة من الانقلاب إلى الإفراج الفوري عن إبراهيم كيتا وباقي المحتجزين وإعادتهم لمناصبهم، كما أدانت مجموعة إيكواس الانقلاب واتخذت سلسلة من القرارات الصارمة، وأعقب ذلك بيان قوي من الاتحاد الأوروبي أدان التعسف في نقل السلطة ورفض تمرير السيناريو العسكري مهما كانت مبرراته الاجتماعية والسياسية التي ضربت البلاد منذ عدة أشهر، وكذلك أدانت الخارجية الأمريكية الانقلاب ورفضت أي محاولة للاستيلاء القسري على السلطة.
يمكن القول إن هذا الوضع سيؤدي بالفعل إلى زعزعة استقرار المنطقة بشكل كبير، خاصة أن مالي تعيش وضعًا أمنيًا مرهقًا بين مطرقة انفصاليي الطوارق والجماعات المتشددة المسلحة التي فشل الجيش الوطني في مواجهتها، قبل أن يتدخل دعم دولي بقيادة فرنسا عام 2013 لإعادة السيطرة على الأوضاع للحكومة والجيش.
وأكثر ما يخيف العالم الآن وضع الصراع مع التيارات المتطرفة، لاسيما أن مالي أحد المراكز الرئيسية في المنطقة للعنف المتشدد الذي اجتاحها عام 2012 واستطاع احتلال شمال ووسط البلاد في أوائل عام 2013، ولم يمنع هؤلاء من الاستيلاء على العاصمة باماكو إلا الضربات الجوية الفرنسية التي رغم قوتها لم تمنع قوى التطرف من التمركز من جديد في شمال البلاد وتحويله إلى ساحة مفتوحة للميليشيات تمارس فيه القتل على الاختلاف العقدي والفكري بوحشية وتتاجر في المخدرات وتقوض استقرار المنطقة.
كما تعيش القوى العالمية حالة من القلق الشديد، خوفًا من تسرب العنف عبر شريط حدودي من مالي إلى جيرانها لا سيما بلدان خليج غينيا ـ تضم عدة دول من غرب ووسط إفريقيا ـ وأبرزها أنغولا وبنين وتوغو والكاميرون ونيجيريا وساحل العاج، خاصة مع تصاعد الهجمات على حدود البلاد مع بوركينا فاسو، ما يعني أن الإطاحة بالرئيس كيتا ستؤدي مباشرة إلى تقويض جهود مكافحة الإرهاب في المنطقة.
لهذا لم تفلح التطمينات المتوالية من رموز النظام العسكري الجديد وتأكيدهم إجراء انتقال سياسي مدني عبر انتخابات شفافة، في تخفيف الرفض الدولي للانقلاب حتى الآن، ما يعني قطع جهود التعاون مع مالي، وسينهي ـ مؤقتًا على الأقل ـ مكاسب التنسيق السابق مع فرقة العمل الإقليمية لمجموعة الساحل G5، وهو أمر مرهق للغاية ومكلف للجميع.
أكثر ما يفسر التعنت العالمي ضد إزاحة كيتا، تصريح المبعوث الأمريكي الخاص لمنطقة الساحل جيه بيتر الذي عارض التغيير الدستورى على هذا النحو، فضلًا عن موند مويانغوا مدير برنامج إفريقيا في مركز ويلسون بواشنطن العاصمة الذي شدد للقادة الجدد على أن المصالح الأمنية يجب أن تطغى على احتياجات الحكم في البلاد.
تدمير ديمقراطية غرب إفريقيا
رغم المخاوف الأمنية الكبيرة من تمدد رقعة التطرف بالمنطقة، وقد يبدو الاعتراض على الانقلاب الدستوري لهذا السبب له وجاهته، لكن الواقع يؤكد أن الرفض الإقليمي والدولي للسيطرة التعسفية على الحكم خلفه مخاوف أكبر من عودة ثقافة الانقلابات العسكرية إلى بلدان غرب إفريقيا.
كانت المنطقة على أول طريق التحول إلى ديمقراطيات مؤسسية وانتشرت فيها ثقافة شعبية تؤيد الحكم المدني وظهرت أدوار جادة لقوى المجتمع المدني، الأمر الذي استندت عليه منظمة فريدوم هاوس في إصدار تقارير أكدت فيها أن دول غرب إفريقيا نجحت في تحسين الحكم الديمقراطي بشكل كبير، وهو ما عزز الاستقرار في المنطقة، وشاهد العالم بالفعل خلال العام الماضي تحضيرات لانتخابات عامة في ثلاث دول بغرب إفريقيا وهي: نيجيريا والسنغال وكوت ديفوار، كما يقود البلدان الثلاث رؤساء وصلوا إلى السلطة من صفوف المعارضة.
لكن لا يهدد هذا العرس الديمقراطي إلا فساد كبار السياسيين القدامى وسعيهم الدؤوب إلى تخريب الديمقراطية الوليدة من الداخل، وهو السبب الأكبر الآن في الانقلابات المتكررة والتمردات الشعبية التي تنبع مباشرة من معارضة سلوكهم، وهو أمر يختلف جذريًا عن التمرد الذي ينشأ في بلدان وسط القارة حيث لا تزال الديكتاتوريات راسخة في مكانها، وبالتالي تمرير هذا الانقلاب، وعدم ضمان تبعاته سيشجع دول أخرى على سلك نفس المسار.
أبرز ما يؤيد هذا الطرح، محاولات رئيس كوت ديفوار الحسن واتارا المتكررة لكسر قاعدة الحد الدستوري لفترتين حتى يتم السماح له بالترشح مرة أخرى في أكتوبر القادم، وهناك في غينيا يحدث أيضًا تلويح بإجراء مماثل.
بالتالي فإن الأحداث في مالي تنذر بالسوء لكل مواطني غرب إفريقيا الذين حلموا بالديمقراطية ووضعوا أول قدم على أعتابها، وهو أمر يبصره جيدًا المجتمع الدولي الذي يؤكد من خلال التصريحات العلنية والتعهد من وراء الكواليس بالضغط على الساسة والمسؤولين في هذه البلدان لاحترام القواعد الانتخابية وحماية المؤسسات في سبيل دفع العملية الديمقراطية وعدم الارتداد للخلف!