يعاني العالم العربي، بامتداد محيطه الجغرافي، من ندرة الاهتمام بثلاثية البحث العلمي والشباب والجهود التنسيقية (التيسيرية) بوجه عام، إلا في استثناءات قليلة.
ويعد “أسبوع العلوم العربي” في حلته الجديدة، ورغم الظروف الصعبة التي يعيشها العالم حاليًّا، نموذجًا فريدًا لهذه الاستثناءات، يستحق أن تسلط عليه الضوء وسائل الإعلام المختلفة.
في هذا التقرير، نقدم لك رصدًا مكثفًا عن هذه التجربة التي استمرت من الـ15 من أغسطس/آب حتى الـ23 من نفس الشهر، محاولين الإجابة عن كل ما قد يجول بخاطرك حيال الأجواء والمحاضرين وطرق المشاهدة وخصوصية نسخة هذا العام وأهم الترشيحات العلمية في مختلف المسارات.
التسمية
أسبوع العلوم، بشكل عام، هو مبادرة مجتمعية بدأت بشكل محلي في مصر، على مدار 4 سنوات، بغرض تشبيك حلقات العملية العلمية معًا ودعم التواصل بين الشباب غير المتخصص والباحثين الأكاديميين في العلوم الأساسية والتطبيقية.
حقق الأسبوع نجاحًا واضحًا بين الشباب خلال السنوات الماضية، وصار محفلًا منتظرًا من العباقرة الصغار وأصحاب الميول العلمية والتطبيقية، ممن يبحثون عن شعاع الضوء الذي يقودهم نحو المسار الصحيح، حيث التحقق الاجتماعي والبيئة الداعمة والتطبيق الفعلي.
وفيما يبدو أنه تطوير لهذه الفكرة، فقد أخذ الأسبوع شكلًا أكثر رسوخًا ومؤسسيةً، ضمن إطاره المجتمعي أيضًا، فبات له مجلس أمناء عرب يرأسه المهندس المصري محمود عبود، ويضم أعضاءً من أبرز الأكاديميين عربيًا، بالإضافة إلى رعاة وداعمين من المؤسسات البحثية والاجتماعية في العالم العربي.
وبحسب ما ذكره الجيولوجي المصري البارز وأحد أبرز المتحدثين في نسخة هذا العام الدكتور فاروق الباز، فإن الأسبوع يعد مسارًا مهمًا ضمن عدة مسارات متنوعة يمكن من خلال سلوكها تحديث بنية البحث العلمي العربي التي ما زالت تحتاج إلى دعم سياسي وتمويلي كبير.
نسخة هذا العام
كما اختلفت نسخة هذا العام من حيث الطابع المؤسسي الذي اتسمت به بشكل واضح، فإنها جاءت متأثرة بظروف انتشار وباء “كورونا”، وهو الأمر الذي ألقى بظلاله على جدول أعمال الأسبوع، حيث سنجد مسارًا كاملًا مخصصًا لبحث دور العلم في التنبؤ بالكوارث المقبلة، كما تضمن الموضوعات التي تبحث مستجدات العلاقة بين العلوم والأوبئة على ضوء (COVID – 19) في معظم المسارات.
كما أثرت متطلبات الوقاية من الوباء وعلى رأسها التباعد الاجتماعي وتقليل السفر، على طبيعة الحضور في هذه النسخة، فبعد أن كانت النسخ السابقة من الأسبوع معتمدة على الحضور التفاعلي المباشر داخل القاعات المحجوزة في نطاق مادي معين، بات الحضور مقيدًا، في نسخة هذا العام، بالحجز المسبق على أحد برامج توفير قاعات الاجتماعات الافتراضية.
وعلى الرغم من بعض السلبيات المتعلقة بهذه الطريقة، فقد رأت الدكتورة رنا الدجاني، إحدى المشرفات على الأسبوع، أنها تساعد كثيرًا من الشباب غير القادر من الناحية المادية أو من ناحية ضيق الوقت، على حضور مثل هذه الفعاليات، ما دام بحوزته هاتف ذكي وإمكانية وصول للاتصال بالإنترنت، كما تساهم هذه الطريقة في التواصل في كسر الحواجز النفسية التي قد يشعر بها بعض الشباب غير المتخصص تجاه المشاركة في المناقشات مع الباحثين الأكاديميين بشكل مباشر.
وقد تركت إدارة الأسبوع، التي رفعت استشراف مستقبل العلم خلال الـ100 عام القادمة، بغض النظر عن طبيعة هذا الاستشراف إيجابيًا أو سلبيًا، شعارًا لها، التسجيل في فعالياته مفتوحًا لكل الشباب العربي بالمجان عبر إضافة البريد الإلكتروني في إحدى استمارات التسجيل المنتشرة بكثافة عبر الإنترنت، كما فتحت مجال الحضور أمام الشباب المنتمي لبعض الثقافات القريبة جغرافيًا من العالم العربي مثل الشباب التركي والقبرصي، شريطة امتلاك المسجل الحد الأدنى من أساسيات اللغة العربية والإنجليزية.
تولى الإشراف على فعاليات هذا النسخة الموسعة 4 مجالس هم: مجلس الأمناء المسؤول عن وضع خطة الفاعليات والمجلس الاستشاري الذي وجه فرق العمل لتنفيذ هذه الخطة ومجلس اللجان الفنية الذي أعد محتوى الأسبوع، بالإضافة إلى المجلس التنفيذي.
فيما تخطى عدد رعاة هذه النسخة الـ120 جهة عربية، من بينها أكاديمية البحث العلمي المصرية التي قال مديرها الدكتور محمود صقر في كلمته الافتتاحية: “جمهورية مصر العربية، وتحديدًا أكاديمية البحث العلمي، تولي أهميةً قصوى للتواصل العلمي ونشر ثقافة العلوم والتكنولوجيا والابتكار في المجتمع بعد سنوات من تهميش دور العلم، فهي الأعمدة الرئيسية للتنمية المستدامة، ونحن في أمس الحاجة إلى تسليط الضوء على الجيل الجديد من الشباب واستغلال طاقاتهم لتحقيق التقدم”.
يحاول هذا المسار استشراف المستقبل خلال الـ100 عام القادمة، بعد أن أثرت العلوم والتكنولوجيا على كل نواحي الحياة
ترشيحاتنا
انقسمت محاضرات الأسبوع إلى 6 مسارات رئيسة، هي: رؤى مستقبلية وتطلعات تكنولوجية والأرض المستدامة وأساسيات العلوم والعلوم في حياتنا اليومية والاستعداد للكوارث، ووصل عدد المحاضرات في بعض أيام الأسبوع إلى 25 محاضرة، بمعدل متوسط 20 دقيقة للمحاضرة الواحدة.
كل محاضرات الأسبوع مهمة، لكن الوقت قد لا يسع لمشاهدة هذا الكم من المحاضرات، لذلك، فقد استمعنا إلى كثير من المحاضرات المتخصصة في كل مسار، لنرشح لك قائمة مختصرة من أبرز العناوين التي يمكنك الرجوع إليها مرتبة عبر قناة الأسبوع على يوتيوب، إذا لم تكن قد شاهدت هذه المحاضرات في حينها.
1. رؤى مستقبلية
يحاول هذا المسار استشراف المستقبل خلال الـ100 عام القادمة، بعد أن أثرت العلوم والتكنولوجيا على كل نواحي الحياة، وفي هذا الصدد نرشح لك محاضرة العالم المصري الذي ذاع صيته مؤخرًا، هشام سلام، أستاذ الحفريات الفقارية بجامعة المنصورة، بعنوان: “هل يساعدنا الماضي في اكتشاف المستقبل؟“، بالتعاون مع ياسر الشايب.
كما نرشح لك في هذا المسار، محاضرة: “العالم عام 2040” التي تحاول استشراف تأثير الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والحوسبة الكمومية، على حياتنا بعد 20 عامًا من الآن، وهي من تقديم علي البحراني وعلي الشنداني.
وعن الفجوة بين الاكتشافات العلمية وسوق العمل، ننصح بمشاهدة الجلسة الحوارية المهمة التي تحدث فيها الثلاثي يوم الأربعاء: بنيلوبي شهاب ويمنى صالح وعمر صقر، وعن السمتين الواجب توافرهما في العلم، على ضوء نتائج جائحة كورونا، الإتاحة والمسؤولية، قد يكون مفيدًا مشاهدة محاضرة جنى البابا.
2- تطلعات تكنولوجية
يركز هذا المسار على آثار العلوم التطبيقية على حياتنا اليومية خلال القرن القادم، وأهم ما رصدناه كان محاضرة هدى أبو شادي عن “مستقبل الطاقة النووية بين مخاوف وتطلعات”، التي تنطلق من حقيقة أن نزاعات المستقبل ستكون على الموارد والطاقة والغذاء، لكن قدرة الطاقة النووية على توفير الإمدادات الآمنة والرخيصة والمستدامة، لا تزال محل شك.
كما نرشح لك مشاهدة مخترع تقنية “الواي فاي”، العالم المصري حاتم زغلول، في محاضرة تقدم قراءة تاريخية بسيطة “من الماضي إلى المستقبل، هذه هي اتصالات البيانات عالية السرعة”، بالإضافة إلى استقراء موجز، قد يمكنك من ترجيح مستقبل الطاقة النظيفة، عن تطور “تكنولوجيا الطاقة الشمسية من الخلايا إلى الألواح” لنوار ثابت، ونختم ترشيحات هذا المسار بمحاضرة عن “استخدام الذكاء الاصطناعي في الشبكات الاجتماعية وآلية معالجة اللغات” لمحمد مصطفى.
نرشح لك محاضرة مصطفى حسين عمر، عن “الصحة النفسية أثناء الأزمات للحد من التأثير النفسي لجائحة كورونا”
3- الأرض المستدامة
يركز هذا المسار على الجهود العالمية للحفاظ على موارد الأرض لمواكبة النمو السكاني، وفي ظل أزمات النظافة والنفايات التي تضرب بعض عواصمنا العربية، نرشح لمؤسساتنا المدنية ومسؤولينا جلسة “إدارة المخلفات الصلبة” التي قدمها الرباعي: عبد الله البلوشي وخلال حلواني ووسام المدهون ومها الزعبي.
كما ندعوك إلى التعرف على “الفرص الواعدة للهيدروجين في الاقتصاد والطاقة” من خلال جلسة مصطفى التومي وسوسن الريامي وسهام بنتواني وسمير رشيدي، ونختم هذا المسار بترشيح محاضرتين مهمتين، عن “المياة العادمة (مياة الصرف) من مخلفات لموارد”، لمعرفة تحديات هذا القطاع في العالم العربي، بالإضافة إلى مشاكل “تآكل المناطق الساحلية وتلوث السواحل والمحافظة على البنية البحرية”.
4- أساسيات العلوم
يحاول هذا المسار بحث تأثير الاكتشافات العلمية على فهمنا للكون وكيفية مساهمتها في تشكيل حياة الإنسان، وأبرز ما لفت انتباهنا هنا، مناقشة علاقة الأخلاق بالبيو تك، من خلال محاضرة “أخلاقيات البحوث الطبية الإسلامية” لرنا الدجاني وميساء الحسيني ومحمد غالي وعبد الله محمد.
يزخر هذا المسار أيضًا بالكثير من الموضوعات الشيقة، التي تتداخل مع الحياة اليومية مثل محاضرة يوسف إدغضور عن “ما يمكن تعلمه وما لا يمكن تعلمه من حمضك النووي“، التي ستشكل لك صورةً متكاملة عن أساسيات – ومستقبل – البيولوجيا إذا شاهدتها مع محاضرة “علم فوق الجينات، في الصحة والمرض” لعلياء كيوان، مع ترشيحنا لمحاضرة “تحديات التعامل مع الصحة النفسية في العالم العربي“، ذلك الحقل ذو البعدين، الاجتماعي والعلمي، الذي يهم المتخصص وغير المتخصص لوائل الدليمي.
5- العلوم في حياتنا اليومية
يعنى هذا المسار الطريف بتداخل العلوم والتكنولوجيا بحياتنا، ابتداءً من الفن وانتهاءً بالمطبخ، وقد قدم مهدي منصور، في هذا المساق، مقاربة جذابة بين “الشعر وفيزياء الكم”، باعتبارهما مدخلين لفهم الكون، مستأنسًا بعبارة أحد الأدباء: “كي تكون شاعرًا، عليك أن تكون رياضيًا، أو بعض رياضي”.
كما قدمت سارة حواس مادة مهمة عن علاقة التوتر في عالمنا المعاصر بالعديد من الأمراض المختلفة بعنوان “كيف يؤثر الضغط العصبي على صحتك النفسية؟”، وفي هذا القسم أيضًا، يمكنك التعرف على برنامج “هيرماب كرياتور” ومحاكاة رسم الخرائط من خلال محاضرة محمد عبد الجليل: “جرب بنفسك، علوم صناعة الخرائط“.
6- الاستعداد للكوارث
يبين هذا المسار الأخير أن علاقة البشر والأرض، بالكوارث قديمة ومستمرة وأنها تؤثر بتفاصيلها على حياة البشر، ومن ثم، فإنه ينبغي توظيف العلم كأداة تنبؤ وتحكم للتقليل من خسائرها.
لذلك، فإننا نرشح لك محاضرة مصطفى حسين عمر، عن: “الصحة النفسية أثناء الأزمات للحد من التأثير النفسي لجائحة كورونا”، كما نرشح لك الاستمتاع بمقاربة إسلام حسين وبسمة شتا ورامي كرم، التي تستهدف الإجابة عن سؤال اليوم والغد: “هل يمكننا التنبؤ بالجائحة القادمة؟”.
يجدر العمل في مسار الترجمة العلمية، حتى لا تكون العلوم حكرًا على تلك الفئة الصغيرة التي تستطيع القراءة باللغات الأجنبية
نصائح مهمة
سواء كنت ممن حضروا بعض الجلسات في أثناء عرضها أم كنت ممن أعجبتهم ترشيحاتنا في المسارات الست الأساسية من الأسبوع؛ تخبرك الأستاذة الدكتورة رنا الدجاني، رئيس جمعية تقدم العلوم والتكنولوجيا في الوطن العربي ورئيس مسار أساسيات العلوم في أسبوع العلوم العربي: أن هناك طريقين متقابلين لنهضة البحث العلمي في عالمنا، طريق فوقي يبدأ من رأس السلطة بالتمويل والدعم السياسي، ينبغي أن يلتقي بطريق المجهودات المجتمعية في هذا الصدد.
قد يكون ثمة تقصير كبير في المسار الفوقي، لكن هذا لا يعفيك كشاب من المسؤولية الذاتية أو المسؤولية تجاه مجتمعك، وفي زمن الإنترنت، يمكنك الاطلاع، وتكثيف حصيلتك اللغوية الإنجليزية، وتكوين الوشائج الاجتماعية الصغيرة اللازمة للعمل الجماعي في البحث العلمي والتواصل مع المتخصصين لطلب النصيحة والتوجيه.
وبحسب الدجاني، فإن أهم ما يلزمنا – كأفراد ومجتمع مدني – العمل عليه لتخريج ودعم الباحثين الشباب هو تزويد النشء الصغير بالثقة بالنفس والتفكير النقدي في مرحلة مبكرة، حتى إذا باتوا مشاريع باحثين يعملون في مؤسسات حكومية وخاصة أو مراكز بحثية، يذللون العقبات الإدارية للأجيال الأصغر، مما يعزز، إحصائيًا، فرص إصلاح المنظومة من الداخل.
كما يجدر العمل في مسار الترجمة العلمية، حتى لا تكون العلوم حكرًا على تلك الفئة الصغيرة التي تستطيع القراءة باللغات الأجنبية، وهناك تجارب مفيدة في هذا المجال، كما تقول الدجاني، مثل: العلم بالعربي والصحافة بالعربي وويكبيديا ونيتشر وبوبيلار ساينس.
بالإضافة إلى الانتباه للرسائل المبطنة الموجهة للأجيال الصاعدة، فبدلًا من التركيز على العلماء الأجانب، بما يخلق حالة من العجز المكتسب لدى تلك الأجيال التي قد تشعر بصعوبة الإنجاز العلمي، إذا لم يكن الشخص أجنبيًا، فلنركز على كوادرنا العربية المتميزة في الداخل والخارج، ونعزز التواصل معهم.