مع تزايد رهانات الدول الكبرى على المواقع الإستراتيجية في العالم، أصبحت منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا (الساحل) من أهم الدوائر الجيوإستراتيجية ضمن السياسة الخارجية الفرنسية، إذ تسعى باريس كغيرها من القوى العظمى الأخرى للاستحواذ على أكبر قدر ممكن من الموارد الطاقية والإستراتيجية على أساس الأحقية التاريخية لاستغلال ثروات المنطقة.
ورغم أن الدبلوماسية الفرنسية مُنيت بانتكاسات متتالية طيلة حكم ساركوزي وهولاند، فإن صعود الرئيس إيمانويل ماكرون دفع بباريس إلى محاولة ترميم علاقاتها المتصدعة مع مستعمراتها في القارة السمراء بعد أن بدأ التنافس يشتد بين قوى عديدة تبحث عن فرص للاستثمار في إفريقيا وعلى رأسها الصين والولايات المتحدة الأمريكية والهند واليابان والبرازيل، وكذلك في الشرق الأوسط خاصة بعد أن أمسك الروس بزمام الأمر في الملف السوري.
ويبدو أن قلق باريس المطرد تجاه التطورات السياسية خصوصًا في ظل التنافس الدولي على منطقة نفوذها التاريخي من جهة وتوسع مفهوم الشرق الأوسط، جعلها في سباق مع الزمن لإعادة بناء سياسة خارجية جديدة تقوم على منطق المصلحة بالدرجة الأولى وعمق الخصوصية التاريخية.
?وكأن العالم بأجمعه يحاول سلب فرنسا مقعدها على طاولة الكبار
لبنان، سوريا، ليبيا، مالي، شرق المتوسط
— Dr. Fadhel Alyunis (@fadhelalyunis) August 18, 2020
الأزمة السورية
بعد تعرضها لانتقادات لاذعة بسبب موقفها من الربيع العربي والثورة التونسية تحديدًا ومحاولتها إنعاش نظام بن علي في دقائقه الأخيرة بعرضها تقديم مساعدات أمنية ولوجستية لوأد الحراك الشعبي، حاولت باريس تغيير دفة دبلوماسيتها لتتماهى مع المستجدات الإقليمية والدولية، فكان فرنسوا هولاند أول رئيس غربي يعترف بالائتلاف الوطني السوري الذي يضم مجموعة غير متجانسة من المعارضين للنظام وذلك في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، وهو ما جعل باريس في موقع متقدم بالملف السوري.
طوال فترة حكم فرانسوا هولاند، ظلت الدبلوماسية الفرنسية متمسكة بشرط رحيل بشار الأسد عن السلطة لحل الأزمة السورية، باعتبار أنه “المشكل ولا يمكن أن يكون جزءًا من الحل”، إلا أن موقف الإيليزيه تراجع من حيث الحدة بعدما باتت أولويته “محاربة الإرهاب في العراق وسوريا”.
فشل الدبلوماسية الفرنسية في إدارة الملف السوري رغم أنها كانت سباقة في مسك خيوطه، يعود بالأساس إلى العوامل التالية:
- دخول روسيا بكل ثقلها لمساندة النظام عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا.
- انخراط تركيا بصفتها قوة إقليمية في الأزمة السورية لتشكل ثنائية قطبية مع موسكو.
- تراجع التدخل الأمريكي المباشر في الأزمة لصالح موسكو وأنقرة وطهران.
- تردد باريس وتشككها في التدخل المباشر مقابل ثبات موقف روسيا وإيران.
- تخلي واشنطن عن باريس بعد أن عدل الرئيس أوباما عن توجيه ضربات إلى النظام السوري.
- عجز باريس عن إقناع شركائها الأوروبيين على التدخل للإطاحة بنظام الأسد جعل موقفها الدبلوماسي يعيش عزلة سياسية.
عسكريًا، لا تملك فرنسا القدرة على التحرك بمفردها في المنطقة في ظل تزايد نفوذ بعض القوى الأخرى وتشابك مصالحها على الأرض وفق توازنات جديدة قطعت مع التحالفات التقليدية، فتركيا مثلًا تربطها علاقات إستراتيجية كبيرة مع الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن الواقع الذي فرضته الأزمة السورية دفع بأنقرة إلى التواصل والتنسيق مع الروس على أكثر من صعيد.
- في يونيو/حزيران 2014 احتل تنظيم الدولة الإسلامية مساحات شاسعة في العراق وسوريا معلنًا قيام “الخلافة”، ما يعني تأجيل النقاش عن رأس النظام السوري.
- في صيف 2015 بدأت ازمة اللاجئين مع تدفق مئات آلاف المهاجرين إلى أوروبا.
- في 13 من نوفمبر/تشرين الثاني ضربت فرنسا أعنف اعتداءات في تاريخها.
المنعطف في الموقف الفرنسي تجلى مع وصول الرئيس الشاب إيمانويل ماكرون إلى سدة الحكم في منتصف شهر مايو 2017، وتأكيده على أن “رحيل بشار الأسد لم يعد شرطًا مسبقًا لحل النزاع السوري”، وأنه “لا يرى بديلًا شرعيًا له في الوقت الراهن”، وهي إشارة إلى توقف المسؤولين الفرنسيين على حقيقة الانسداد الدبلوماسي للخارجية الفرنسية ما يتطلب التراجع خطوة إلى الوراء.
ماكرون، رغم أنه لا يؤمن إطلاقًا بقدرة بشار الأسد على مواصلة إدارة دفة الأمور في سوريا مستقبلًا، حاول تدارك الغياب الفرنسي في الملف السوري الذي بات تحت سيطرة روسيا والولايات المتحدة وتركيا وإيران، من خلال تعديل جزئي في سياستها الخارجية والعدول عن شرط استبعاد أي تمثيلية للدولة السورية في مفاوضات تسعى لرسم ملامح فترة انتقالية وإجراء انتخابات ديمقراطية وحرة.
في غضون ذلك، يُمكن القول إنه رغم المساعي والجهود التي بذلتها الدبلوماسية الفرنسية للتأثير على مجريات الأزمة السورية، كدعم فصائل المعارضة المعتدلة (خيار وزير الخارجية الأسبق لوران فابيوس)، فإن باريس تجد نفسها اليوم خارج اللعبة السياسية الدولية.
ليبيا وإفريقيا
تغير الجغرافيا لم يشفع لحكام الإليزيه الجدد، فالدبلوماسية الفرنسية تعرضت لانتكاسة أكبر من التي عرفتها في الأزمة السورية، ما دفعها إلى الاعتراف بأن السيناريو السوري قد يتكرر في البلد الإفريقي، وهو تصريح يوضح أنها أخفقت في لعب دور الوسيط وبالتالي خسارتها لجميع الأوراق في الملف الذي عملت على المسك بجميع خيوطه.
أولى علامات نكوص الدبلوماسية الفرنسية في ليبيا، كان تراجع باريس عن سياستها في دعم الانتقال السياسي في ليبيا بعد مشاركتها في إسقاط نظام معمر القذافي لأسباب مشبعة برائحة أموال النفط أكثر من تلك المتعلقة بتعزيز الديمقراطية، وانحيازها لحكام الإمارات والسعودية ومصر (الثورة المضادة)، وانخراطها في الحرب الأهلية عبر دعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر فنيًا (خبراء عسكريون) من أجل السيطرة على العاصمة طرابلس وإسقاط الحكومة الشرعية المعترف بها دوليًا.
تخبط السياسية الخارجية الفرنسية ظهر جليًا في مساندتها سرًا قوات حفتر (قوات على الأرض) منذ 2014 ودعمها ظاهريًا عملية السلام بوساطة الأمم المتحدة التي قادها غسان سلامة (سابقًا) وهو تكتيك اعتمدته للتغطية على تدخلها عسكريًا ونفي كل اتهامات الانحياز لطرف على حساب آخر، ويؤكد أن دبلوماسية باريس تسير في خيار أن الرجل القوي في ليبيا هو الطريقة المثلى للسيطرة على التشدد الإسلامي والهجرة الجماعية، وهو عكس سياستها المتبعة في الشرق الأوسط (سوريا).
تسارع جهود باريس السياسية والعسكرية تجاه الأزمة الليبية يعكس التوجه الجديد لفرنسا عبر سياستها الخارجية بحثًا عن مصالحها الحيوية، حيث تسعى لاستعادة موقعها واسترداد دورها وتأثيرها في منطقة الشمال الإفريقي، وتقديم نفسها كفاعل رئيسي وضامن دولي لحل الأزمة بما يفرض على القوى الإقليمية والدولية المتداخلة في الملف التعاون والتنسيق معها (روسيا تركيا).
التحركات الأخيرة للإيليزيه اصطدمت بفشل رهان حفتر على الحسم العسكري وتخلي الأمريكيين عنه، ما جعل فرنسا تغطي هزيمة حليفها بالظهور في فريق إسناد الشرعية، خطوة وصفها كثيرون بالمتأخرة لا سيما أنها صنفت في خانة الدول المعادية التي تعمل على الدفع بالدكتاتوريات لحكم المنطقة واستعمالهم في ترسيخ أجندتها، فباريس حاولت دعم نظام بن علي في تونس لآخر دقيقة وباركت انقلاب عبد الفتاح السيسي في مصر، إضافة إلى تنسيقها الدبلوماسي والعسكري مع منظومة الثورة المضادة بقيادة الإمارات والسعودية.
#الامارات71 | مجلة فرنسية: باريس تشترك مع أبوظبي في مشروع الاستقرار الاستبدادي والثورات المضادة
لمتابعة النص الكامل:
رابط الموقع | https://t.co/Lb9LweXDIk
رابط فيسبوك | https://t.co/hMRs6Sw3Re
رابط بديل | https://t.co/76Kjd21LBs
| #فرنسا #أبوظبي #الثورة_المضادة pic.twitter.com/jnokjiHbcA
— الإمارات71 (@UAE71news) August 7, 2020
على صعيد آخر، لا يمكن فهم الدبلوماسية الفرنسية دون تفكيك سلوكها مع محيطها الخارجي وتفاعلها معه بالاعتماد على متغير المصلحة، فباريس تخلصت تدريجيًا من دبلوماسية المد الثقافي والاتفاقيات الاقتصادية التي أثبتت عجزها في مواجهة التغلغل الصيني في إفريقيا، لصالح آلتها العسكرية التي ما انفكت تحصد الأرواح في القارة السمراء، ففرنسا تدخلت عسكريًا في إفريقيا أكثر من 19 مرةً تحت غطاء سياسة “فرانس-آفريك”، ولا تزال إلى الآن تتمركز في كثير من الدول في إطار عمليتها العسكرية “برخان” رغم انتكاستها الكبرى مؤخرًا في مالي، وبحسب المؤشرات فإن باريس تدخلت في إفريقيا الوسطى عسكريا منذ 2011 أربع مرات.
?وكأن العالم بأجمعه يحاول سلب فرنسا مقعدها على طاولة الكبار
لبنان، سوريا، ليبيا، مالي، شرق المتوسط
— Dr. Fadhel Alyunis (@fadhelalyunis) August 18, 2020
باريس.. خط ديغول
بعد انفراط عقد التحالفات الكلاسيكية بين القوى الكبرى بسبب تعارض المصالح وتقاطعها في عدد من الأزمات الإقليمية، لم يتبق لباريس إلا الخروج من الاصطفاف وراء واشنطن ومحاولة لعب دور الوسيط بين روسيا والولايات المتحدة في عدد من الملفات، والأهم من ذلك استعادتها لـ”الخط الديغولي” وما يُمثله من استقلالية القرار.
من هذا الجانب، ستلعب فرنسا على وتر ارتكاز سياسة واشنطن الخارجية رأسًا على منطقة الشرق الأوسط دون لعب أدوار مهمة في مناطق أخرى كإفريقيا وخاصة في شمال القارة، ونزول روسيا بكامل ثقلها في الساحة للتأثير في مستقبل المنطقة وتداعياتها على مصالح الولايات المتحدة وأوروبا على حد سواء.
تعديل دفة الخارجية الفرنسية لم تكن آلية احتكرها الرئيس الحاليّ إيمانويل ماكرون، فنيكولا ساركوزي تراجع خطوة إلى الوراء في علاقته بالولايات المتحدة الأمريكية لصالح الروس وكذلك فعل الرئيس فرنسوا هولاند، ما يُعزز القول بأن فرنسا الدولة المنخرطة في الاتحاد الأوروبي تسير لمفردها في رسم سياستها الخارجية على حساب تكامل التكتل القاري ضمانًا لمصالحها الحيوية.
فرنسا ستعمل أيضًا على تقليص تبايناتها مع إيطاليا الذي توجته مؤخرًا بانضمامها لمنتدى غاز شرق المتوسط لتقوية الجبهة الأوروبية ضد تركيا، إضافة إلى خطوات أخرى منها:
- منع محاولات الأتراك الاستفادة من التناقضات الأمريكية الروسية في الملف السوري والليبي.
- تخفيف حدة النزاع العسكري في ليبيا والعودة لمسار التفاهمات السياسية خوفًا من خسارة ثانية مذلة وقطع الطريق أمام الأتراك.
- تقليص الرهان على الحسم العسكري عبر جهود حفتر في الغرب الليبي مقابل توسيع نطاق التحركات الدبلوماسية.
- التركيز على كيفية الحفاظ على نفوذها وتأمين حصتها حيال أي توافق سياسي شامل مرتقب.
- ترسيخ قاعدة أو سيناريو نسبي للمصالح الفرنسية في ليبيا لتفادي الانحسار المطلق لمصالحها.
- التعويل على الحلفاء الأوروبيين والعرب لكسب دعمهم وتقوية موقفها داخل الساحة الليبية والحفاظ على مصالحها سواء حصل حل نهائي ليبي أم لم يحدث.
- التعويل على مؤتمر برلين لتثبيت سيناريو الحفاظ النسبي على المصالح وأههما في مجال الطاقة.
- محاولة استغلال خشية أمريكا من تعاظم الدور الروسي في ليبيا.
- استغلال دورها في مجلس الأمن لتقوية موقفها داخل ليبيا على حساب الأطراف الأخرى.
موسكو.. البوابة
سياسة إيمانويل ماكرون الخارجية الجديدة التي تجلت في مساعي التقارب مع روسيا والانخراط الجدي في الملف الإيراني، واعتماد خطاب تصعيدي في بعض الأحيان، كتصريحاته المثيرة للجدل بشأن “الناتو”، أثارت العديد من الأسئلة عن تحولات الدبلوماسية لباريس الباحثة باستمرار عن دور ريادي على الصعيد الدولي، وذلك من دون امتلاك المقومات اللازمة.
ومن هذا الجانب، يقول الباحث بمعهد كارنيجي ستِفان لِن: “تكمن المشكلة في أن فرنسا لا تحمل الوزن الاقتصادي والسياسي الكافي لتكون لاعبًا دوليًا، وبالتبعية لا تتجاوز الكثير من مبادراتها كونها اجتماعات مرتَبة بعناية في باريس”.
توجه الرئيس الفرنسي نحو روسيا يمثل عودة إلى مقاربة واقعية للعلاقات الدولية تستند إلى مبدأ سيادة الدول واعتماد دبلوماسية الحوار، بعد التخلي عنها لمدة طويلة لمصلحة التدخل المباشر لتغيير الأنظمة وذلك بعد أن أثبتت الأخيرة عدم جدواها، وهو مسار جديد يرتكز بالأساس على طبيعة النظام الدولي الحاليّ الذي تراجعت فيه مراكز النفوذ التقليدية لصالح القوى الصاعدة والفاعلة في عدد من الملفات على غرار تركيا.
ومن المرجح أيضًا أن تذهب باريس بعيدًا في التواصل مع الروس ومن غير المستبعد أن تسعى لرفع العقوبات الأوروبية عن موسكو في حال ضمنت لها الأخيرة مقعدًا ودورًا رئيسيًا في الملف السوري والليبي، وهو مسار بدأت فيه فعليًا خاصة بعد تصريحاتها المتتالية التي ألمحت بشكل جلي إلى بداية التقارب مع روسيا وتعقد تحالفاتها الغربية كالاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو ميت دماغيًا: تصريح ماكرون)، وهو تصريح اعتبره كثيرون تلويحًا من الفرنسيين بإمكانية الخروج من الحلف على شاكلة القرار الذي اتخذه الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول بالانسحاب من القيادة المركزية لحلف الناتو عام 1966.
إلى ذلك، تُحاول باريس تغطية ضعف وجودها على الساحة السورية، برفع نسق تدخلها في إفريقيا على كل الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية، معتمدة على روابطها المتجذرة في القارة من الناحية الثقافية والاجتماعية وتبعية العديد من الدول الإفريقية لها اقتصاديًا، ما يعيد إلى الأذهان الوجود الاستعماري الفرنسي الذي جثم على تلك القارة عقودًا عدة.
ديبلوماسية تبيعة
اينما وجهت فرنسا ديبلوماسيتها كنا نحن
— ??أبوريان?? (@abourayen10) July 9, 2020
بعد محاولة فهم السياسة الخارجية الفرنسية، يُمكننا استنتاج أن براغماتية باريس المتحولة تقوم بالأساس على إعادة تدوير عجلة التحالفات والتقاطعات الحاسمة في عدد من الملفات، معتمدةً في الوقت ذاته على استعداد الغرف المظلمة للأنظمة الاستبدادية في القارة الإفريقية والشرق الأوسط للعمل لديها بالوكالة، وبذلك فهي تتماهى بشكل واضح مع مشروع موسكو التي تتزعم هي الأخرى محورها الخاص في مناطق النزاع.