دخلت الصحافة الاستقصائية إلى فلسطين متأخرة، حالها حال باقي المناطق العربية، فلم يعرف الصحفيون هناك هذا الفن الثائر بمفهومه المنهجي والعلمي الدقيق إلا في آخر نحو 10 سنوات، ويمكن القول إن الصحفيين الفلسطينيين بدأوا دق جدران الخزان فعليًا بعد 2008، وهو العام الذي وسعت فيه شبكة “أريج” الاستقصائية الشهيرة أعمالها في الوطن العربي، لتشمل فلسطين آنذاك.
بدأ التغيير الإيجابي فعليًا بعدما غرست “أريج” بذور الاستقصاء في عدد لا بأس به من الصحفيين وأساتذة الجامعات، وأحدثت طفرة واضحة في إنجاز تحقيقات لم يعهدها الإعلام الفلسطيني الروتيني، لكن لم تثمر غرسة الزيتون حقولًا، بل تعرضت للذبول سريعًا، لأسباب يمكن إجمالها بأنها: ذاتية، موضوعية، قانونية، أمنية.
أولًا: معيقات ذاتية
يمكن إلقاء نظرة عليها من خلال قصة يوسف حسان، وهو صحفي فلسطيني مندفع، أجرى ما أطلق عليه “تحقيقًا استقصائيًا” في مايو/أيار 2020، وثق فيه “وقائع فساد ونهب وابتزاز جنسي قام بها أحد العاملين في العمل الخيري بقطاع غزة”.
لم يوجه حسان الاتهام إلى جهة واضحة، حيث لم يذكر اسم الشخص الذي أجرى تحقيقه بشأنه، كما لم يعطه حق الرد على الاتهامات الموجهة ضده، وهو ما يفقد الاستقصاء أهم ركائزه وقد يحوله إلى قضية تشهير بمن يجمع التبرعات إو إساءة كون الرجل يتبع إلى أحد الفصائل في غزة.
وبما أن استخدام الفرضيات في الاستقصاء جوهر أساسي لهذا الفن، فإن الصحفي لم يثبت بالدليل القاطع والملموس أي من الفرضيات والاتهامات التي وجهها للطرف الآخر، ما يجعل التحقيق مفكك للغاية، فالقصة متداخلة والمتهم مجهول والأدلة غائبة وحق الرد غير ممنوح، وبذلك لم يبق أمامنا سوى عرض تليفزيوني أو “خطبة تدعو الناس لفعل الخير وتبشرهم بأنه موجود”.
وبناءً على ذلك، فإن المعيقات الذاتية مصدرها الصحفي نفسه، حيث يلاحظ وجود ضعف كبير في الكوادر المهنية الفلسطينية فيما يتعلق بممارسة الصحافة الاستقصائية لأسباب سنستعرضها في الجانب الموضوعي.
ثانيا: معيقات موضوعية
في منتصف عام 2015، أنهى الباحث الفلسطيني محمد الشرافي رسالة ماجستير جاء فيها أن أقسام الصحافة والإعلام في الجامعات والكليات الفلسطينية تكاد تخلو من وجود مساقات دراسية تتناول الصحافة الاستقصائية، وإذا وجدت فإن تلك البرامج الدراسية بالكاد يوجد فيها مادة واحدة عن هذا اللون، كما أن أغلب وسائل الإعلام بمختلف أشكالها ينعدم فيها وجود وحدة خاصة للصحافة الاستقصائية.
وأوضح الباحث أن التحقيقات الاستقصائية موجودة بوتيرة بطيئة وقليلة في الصحافة المكتوبة، وتفتقد للتنظيم والمهنية الكاملة، في حين أن هذا اللون الصحفي منعدم في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية.
ومن المعقيات الموضوعية لانتشار الصحافة الاستقصائية، سياسة وسائل الإعلام الفلسطينية المكبلة لهذا الفن، حيث تميل الصحف إلى الصحافة الخبرية بعيدًا عن مشاكل رصد وتعقب قضايا الفساد.
كما أن الحزبية التي يغلب عليها الإعلام الفلسطيني والانقسام الداخلي، تحد من وجود صحافة استقصائية، قد يُنظر إليها لاحقًا أنها تأتي ضمن المناكفات السياسية وتعمد إدانة طرف معين.
ويعمق من المشكلة، غياب مصادر المعلومات والتمويل اللازم لإنجاز مثل هذا النوع من التحقيقات المعمقة التي قد يتطلب العمل على إحداها شهورًا أو سنوات، ومن النادر وجود دورات صحفية وبرامج مخصصة تُعنى بالصحافة الاستقصائية، حيث يفتقد الصحفيون في فلسطين إلى التدريب اللازم والممارسة العملية، ما ينتج عنه عزوفًا عن الخوض في هذا المجال.
تفاجأ الصحفيون والناشطون الفلسطينيون في شهر يونيو/حزيران 2017 بإصدار رئيس السلطة محمود عباس قرار قانون رقم 16 لعام 2017 بشأن الجرائم الإلكترونية
ثالثًا: معيقات قانونية
عام 2016، أجرت الصحفية هاجر حرب تحقيقًا استقصائيًا عن الفساد في القطاع الصحي والتحويلات الطبية من قطاع غزة، تسبب بالحكم عليها بالسجن 6 شهور وغرامة مالية قدرها 1000 شيكل (أسقط الحكم لاحقًا)، وقد أدانتها المحكمة حينها، بانتحال شخصية أخرى خلافًا للمادة 274 لقانون العقوبات، والقدح في وزارة الصحة خلافًا للمادة 201-203، المعاقب عليه بالمادة 47 في قانون العقوبات، وتهم أخرى تتعلق بقانون المطبوعات والنشر الفلسطيني.
وقانون النشر والمطبوعات الفلسطيني تم إقراره عام 1995، ولم يجر تحديثه من حينها، حيث ما زال يقيد الصحفيين خاصة في مجال الصحافة الاستقصائية، رغم تأكيده على ممارسة الصحافة مهمتها بحرية في تقديم الأخبار والمعلومات.
أخطر من ذلك، تفاجأ الصحفيون والناشطون الفلسطينيون في شهر يونيو/حزيران 2017 بإصدار رئيس السلطة محمود عباس قرار قانون رقم 16 لعام 2017 بشأن الجرائم الإلكترونية، ضاربًا بعرض الحائط جميع المواد الدستورية التي تؤكد وجوب مرور القانون على المجلس التشريعي ومناقشته مع مؤسسات المجتمع المحلي والمعنيين فيه من صحفيين وكتّاب والعاملين في المجال.
احتوى القانون بحسب مؤسسات حقوقية على لغة فضفاضة ونصوص غامضة، حيث أكد على سبيل المثال ضرورة الالتزام بـ”سلامة الدولة” و”الأمن القومي” و”النظام العام”، دون أي توضيح أو تحديد لما تعنيه ولا الحالات التي تنطبق عليها العقوبات.
وفي تعليقها على القرار، انتقدت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان المادة رقم 28 من القانون، التي “تجرم كل من أنشأ موقعًا أو حسابًا إلكترونيًا أو نشر معلومات على الشبكة الإلكترونية بقصد ارتكاب أي جريمة معاقب عليها بموجب أي تشريع نافذ، أو اشترك أو حرض على ارتكابها، ويعاقب هؤلاء بضعف العقوبة المنصوص عليها في ذلك التشريع”.
ورأت وقتها أن هذا التشديد غير مفهوم وغامض ولا يقترن فعليًا بالضرر المترتب على الجريمة، بقدر ارتباطه بأداة الجريمة نفسها، فالجريمة واحدة، بصرف النظر عن أداة ارتكابها، ولا توجد ضرورة لتشديد عقوبة على جريمة واحدة عند اختلاف أداة ارتكابها.
وانتهك القرار العديد من مستويات الخصوصية، حيث أجبر مثلًا مزودي خدمة الإنترنت والبرمجيات على الاحتفاظ بمعلومات عن المشتركين لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات، كما أجبرهم على تركيب أجهزة حفظ معلومات ووصول لجميع مواد المشتركين، وهو ما يتعارض بشكل صارخ مع القوانين الدولية المتعلقة بمزودي خدمة الإنترنت.
كما لم يوضح القرار طبيعة المعلومات التي من شأنه الحصول عليها، وهل تقتصر على المعلومات الأساسية للفرد أم تصل إلى المعلومات والمواد المخزنة على الأجهزة التي تستخدم شبكة الإنترنت؟
من جهة ثانية، منح القرار صلاحية الإيقاف والتفتيش والمصادرة وحجب المواقع الإلكترونية للنيابة العامة، وليس للقاضي كما كان في السابق، وبعد القرار، تزايدت الاعتقالات على خلفية منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما يعمق الخوف من التعرض للطبقة الحاكمة.
دفعت السطوة الأمنية والمشاكل القانونية وعدم توافر المعلومات، الصحفيين إلى إنتاج تحقيقات تركز على القضايا المجتمعية والاقتصادية وتتناول قطاعات الأغذية وشركات الاتصالات
رابعًا: معيقات أمنية
كان “علي” وهو اسم مستعار لصحفي يقطن في الضفة الغربية، يجري تحقيقًا استقصائيًا عن انتهاك حقوق الموقوفين على خلفية جرائم القتل المدني.
وفي حديث لـ”نون بوست”، قال “علي” الذي رفض كشف اسمه خوفًا من الملاحقة الأمنية: “هناك متهمون جنائيون يقضون فترات طويلة رهن الاعتقال على خلفية ارتكاب جريمة جنائية مع عدم وجود أدلة كافية للإدانة، حيث تعرض البعض للتعذيب بطرق مختلفة، ما تسبب بوجود إصابات وإعاقات جسدية ونفسية وعقلية”.
وأثبت هذا الصحفي عبر قصص وأدلة حية بقاء قضايا جنائية متعددة في القضاء دون البت فيها، وحدوث تواطؤ من مسؤولين كبار في الأجهزة الأمنية والقضاء الفلسطينيين، ما أدى إلى انتهاك حقوق المواطنين دون معاقبة الجناة، كما “ثبتت براءة ستة أشخاص بعد قضاء فترة من 5 إلى عشر سنوات في السجون”، بحسب التحقيق.
لم يستطع الصحفي استكمال التحقيق أو نشره بعد تراجع أب وابنه، سجنا ظلمًا بتهمة تنفيذ جريمة قتل وجرى تبرئتهما لاحقًا – بعد سجن 7 سنوات -، عن الشهادة، وسحب أوراق تثبت ذلك من الصحفي بعدما قال الأب إنه تعرض للتهديد من السلطة، كما رفضت حالة أخرى – سجنت ظُلمًا – الحديث مع الصحفي خوفًا من مواجهة السجن مرة أخرى، وفق معد التحقيق.
النقطة الأخرى التي دفعت الصحفي للتخلي عن التحقيق، تمثلت في عدم تجاوب مجلس القضاء الأعلى وتجاهله الرد على إيميلات وطلبات الصحفي لإجراء حوار، وقال الصحفي إنه شعر بتعرضه للمراقبة على مدار عدة أيام في أثناء إجرائه للتحقيق وزيارته لعوائل الضحايا الذين تراجعوا لاحقًا عن تقديم شهاداتهم.
ودفعت السطوة الأمنية والمشاكل القانونية وعدم توافر المعلومات، الصحفيين إلى إنتاج تحقيقات تركز على القضايا المجتمعية والاقتصادية وتتناول قطاعات الأغذية وشركات الاتصالات، مع تجنب المس بالطبقة السياسية، وهو ما أدى إلى انحسار هذا الفن الصحفي وتراجعه.