رُفع الغموض نسبيًا عن تركيبة التشكيل الوزاري بقيادة هشام المشيشي المكلف من الرئيس التونسي قيس سعيد، بإعلان الأول خلال مؤتمر صحافي، تشكيل حكومة تكنوقراط مستقلة عن الأحزاب في خطوة تهدف إلى النأي عن الصراعات السياسية وإنعاش الاقتصاد المتعثر.
رئيس الحكومة أوضح أنه “بعد سلسلة من المشاورات مع الأحزاب والكتل البرلمانية، وبعد تقييم الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، انتهى إلى ضرورة التفكير في حكومة كفاءات مستقلة تنكب على الوضع الاقتصادي والاجتماعي واستحقاقات التونسيين”، مؤكدًا أن تشكيلته الوزارية تضم شخصيات مستقلة، لتنتقل بذلك الكرة إلى البرلمان الذي سيعقد جلسة للتصويت على منح الثقة لهذه الحكومة وهي الثانية في البلاد خلال ستة أشهر.
تضم حكومة المشيشي 28 عضوًا ما بين وزراء وكتاب دولة، من بينهم وزراء من الحكومة السابقة وثماني نساء، وغالبيتهم غير معروفين لدى الرأي العام، وذلك باستثناء 3 وزراء تقلدوا مناصب وزارية في حكومات سابقة على غرار وزير الخارجية عثمان الجرندي (حكومة علي العريض) ووزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي (حكومة يوسف الشاهد) ووزير الشؤون الدينية أحمد عظوم (حكومة إلياس الفخاخ).
واقترح المشيشي وزيرًا للدفاع إبراهيم البرتاجي، وتوفيق شرف الدين وزيرًا للداخلية، وعثمان الجرندي وزيرًا للشؤون الخارجية والهجرة وشؤون التونسيين بالخارج، ومحمد بوسنة وزيرًا للعدل، وعلي الكعلي وزيرًا للاقتصاد والمالية ودعم الاستثمار، أي وزير على قطب مالي وتنموي يشمل ثلاث وزارات، إضافة إلى وليد الزيدي وزيرًا للثقافة.
وسيكون الزيدي (34 عامًا)، أكاديمي كفيف حاصل على الدكتوراه في الآداب، أصغر وزير وأول وزير كفيف في تاريخ تونس في حال نالت الحكومة ثقة البرلمان، وهي خطوة، بحسب بعض المتابعين للشأن التونسي، تُحسب للمشيشي.
في مقابل ذلك، أثار التشكيل الحكومي الجديد لغطًا على مواقع التواصل الاجتماعي، بسبب تعلق بعض الأسماء المقترحة بالدوائر المقربة من الرئيس قيس سعيد على غرار المرشح لمنصب وزير الداخلية توفيق شرف الدين الذي قيل إنه قاد الحملة الانتخابية لسعيد بمحافظة سوسة الساحلية.
#حكومة_المشيشي-سعيد، حكومة صحاب ومعارف ووجوه حزبية وايديولوجية ..تأويل جديد للتكنوقراط!! pic.twitter.com/cscl77BKoj
— Najet Ghdiri (@omchedi) August 24, 2020
تمثيلية المرأة
تقلدت السيدات في حكومة التكنوقراط المقترحة، 8 حقائب وزارية، وهي:
- وزيرة أملاك الدولة والشؤون العقارية ليلى جفال.
- وزيرة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري عاقصة البحري.
- وزيرة الصناعة والطاقة والمناجم سلوى الصغير.
- وزيرة المرأة والأسرة وكبار السن إيمان هويمل.
- وزيرة التعليم العالي والبحث العلمي ألفة بن عودة.
- وزيرة لدى رئيس الحكومة مكلفة بالوظيفة العمومية حسناء بن سليمان.
- وزيرة لدى رئيس الحكومة مكلفة بالعلاقات مع الهيئات الدستورية ثريا الجريبي.
- كاتبة دولة لدى وزير الشباب والرياضة والإدماج المهني سهام العيادي.
ثماني نساء في حكومة هشام المشيشي #تونس
— Wejdene Bouabdallah (@tounsiahourra) August 24, 2020
يذكر أن حضور المرأة في حكومة إلياس الفخفاخ ناهز الـ18.75%، حيث ضمت 6 أعضاء من النساء: ثلاث وزيرات لحقائب الثقافة والمرأة والعدل ووزيرة لدى رئيس الحكومة المكلف بالمشاريع الوطنية الكبرى، وكاتبتا دولة بوزارة الخارجية ووزارة الفلاحة.
مواقف الأحزاب
على عكس الأحزاب الكبرى داخل البرلمان التونسي التي اختارت التريث للإفصاح عن موقفها، لم تنتظر حركة الشعب (16 مقعدًا برلمانيًا)، وكتلة الإصلاح الوطني (16 مقعدًا برلمانيًا)، إعلان المشيشي لتركيبة فريقه الوزاري، حيث قررتا منح الثقة لهذه الحكومة في مسعى لتفكيك الأزمة السياسية الحادة في البلاد، وفتح الباب أمامها للتعاطي مع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، بحسب تبريرها للخطوة.
الموقف ذاته اتخذه حزب تحيا تونس بقيادة يوسف الشاهد (10 مقاعد برلمانية)، حيث أعلن النائب البرلماني مصطفى بن أحمد في وقت سابق دعم حزبه للمشيشي، وهو بذلك سيُصوت من حيث المبدأ لصالح منح الثقة للحكومة الجديدة، بانتظار الاطلاع على تشكيلتها وبرنامجها.
في مقابل ذلك، حسم حزب التيار الديمقراطي (22 مقعدًا برلمانيًا) موقفه مسبقًا بإعلان رفضه منح الثقة للحكومة الجديدة، لأنها بحسب رئيس مجلسه الوطني، مجدي بن غزالة، ستكون “حكومة هشة، وليس لديها هوية”، وهو ذات الموقف الذي أعلنه أيضًا ائتلاف الكرامة (19 مقعدًا برلمانيًا) المقرب من حركة النهضة الإسلامية وحزب الاتحاد الشعبي الجمهوري (3 مقاعد برلمانية)، الذي أكد أنه سيُصوت في البرلمان ضد منحها الثقة.
في غضون ذلك، اتسم موقف حزب قلب تونس (27 مقعدًا برلمانيًا) بالضبابية والغموض، حيث اعتبر رئيس كتلته النيابية، أسامة الخليفي، أن قصر قرطاج يصر على إسقاط حكومة المشيشي المُرتقبة عبر ما أسماه “سياسة الاستفزاز”، مُحذرًا من أن ذلك “عبث ودفع إلى المجهول”، وذلك دون الإفصاح صراحة عما إذا كان حزب نبيل القروي يتجه للتصويت لصالح الحكومة أم ضدها.
أما حركة النهضة (54 مقعدًا برلمانيًا) التي أعلنت سابقًا أنها “ضد تشكيل حكومة كفاءات مطلقًا ومبدئيًا باعتبارها مسألة مجانبة للديمقراطية وعبثًا بالاستحقاق الانتخابي ونتائجه”، اختارت التريث إلى حين انعقاد مجلس الشورى وإنهاء المشاورات مع شركائها، وذلك رغم تلميحات قيادين من الحركة بأن النهضة ماضية في التصويت لحكومة المشيشي، وبرز ذلك خاصة في التصريحات الأخيرة للنائب محمد القوماني الذي أكد أن “البلاد لا تتحمل عبء انتخابات سابقة لأوانها، ولا إطالة مدة الفراغ الحكومي”، معبرًا عن أسفه من أن يكون توجه أغلب الأحزاب لمنح الثقة لحكومة الرئيس من باب الضرورة وتغليبًا للمصلحة الوطنية حتى إن كانت في حل من دعمها سياسيًا بعد أن تم إقصاؤها من المشاورات”.
ويُرجح بعض المراقبين أن تعمل حركة النهضة على تشكيل ائتلاف برلماني يضم كلًا من حركة النهضة وحزب التيار الديمقراطي وحزب قلب تونس وائتلاف الكرامة وكتلة المستقبل، بما يُحقق تشكيل جبهة برلمانية بنحو 120 نائبًا، بحيث يتم تمرير حكومة المشيشي مع جعلها حكومة أقلية دون غطاء حزبي وغير قادرة على تمرير مشاريع القوانين وبرنامج حكمها.
أصحاب هذا الطرح يستندون لعدة اعتبارات أبرزها أن مثل هذه الجبهة البرلمانية، إذا تم تشكيلها بنجاح ستُمكن الحركة من كسر عزلتها السياسية إلى جانب منحها أوراقًا جديدة للمناورة بعد محاولات تحييدها من قوى محلية وأجنبية، وخاصة أنها تُدرك أن عنوان المرحلة القادمة سيكون الصدام السياسي مع الرئيس قيس سعيد الذي بدأت بوادر القطيعة معه منذ سقوط حكومة الحبيب الجملي المقترح من النهضة.
إلى ذلك، يُمكن القول إن المشهد التونسي مقبل على تغييرات جذرية في الخريطة السياسية وبنية التحالفات القائمة، فإذا لم تنجح الأحزاب الفاعلة على الساحة التونسية في تعديل مواقفها وتقريب وجهات نظرها، فإن مشروع قيس سعيد لتغيير النظام السياسي سيمر عبر حكومة الأمر الواقع التي يقودها رئيس الحكومة الجديد هشام المشيشي إلى المرحلة الثانية معتمدًا على حاجز خوف الأحزاب من حل البرلمان.
ملفات حارقة
تونس التي تُعد البلد العربي الوحيد الناجي من تداعيات الربيع العربي تواجه مصاعب في تحقيق الانتقال الديمقراطي بسبب تدخل قوى الثورة المضادة الإقليمية التي تعمل ضمن أجندة تعميق التجاذبات السياسية بين الأحزاب وكذلك احتدام الخلافات داخل البرلمان، وكذلك بسبب الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتأزمين.
“فايننشال تايمز”: أالخلل السياسي في #تونس، التي يُنظر إليها على أنها الديمقراطية الوحيدة التي ظهرت من الانتفاضات العربية، أعاق جهودها لإدارة أزمة اقتصادية فاقمها جائحة فيروس #كورونا
التفاصيل: https://t.co/E2hw5BsASM pic.twitter.com/cj10Ghp9nv
— مصر العربية (@masralarabia) August 15, 2020
وفي حال نجحت الحكومة الجديدة في تجاوز عقبة الثقة والحصول على 109 أصوات للمرور، ستجد أمامها ملفات صعبة وتركة الحكومات السابقة الثقيلة، فتونس تعيش في جو سياسي مشحون بفعل المناكفات الحزبية، وتعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية، فشلت التشكيلات الوزارية السابقة في حل معظمها رغم تقديم نفسها على أساس أنها “حكومات حرب”.
وعرف البلد الإفريقي في الأشهر الماضية زيادة في وتيرة الاحتجاجات في المناطق الداخلية بسبب تفشي البطالة ونقص التنمية وسوء الخدمات العامة في الصحة والكهرباء ومياه الشرب، وبحسب المعهد الوطني للإحصاء، فإن الاقتصاد التونسي انكمش بنسبة 21.6% في الربع الثاني من العام الحاليّ على أساس سنوي، فيما ارتفعت نسبة البطالة في البلاد لتصل إلى 18% في الربع الثاني.
ورغم تشديد رئيس الحكومة المكلف حديثًا من الرئيس قيس سعيد في 26 من يوليو/تموز لخلافة إلياس الفخفاخ، على أن إنقاذ المالية العمومية سيكون من أولويات المرحلة المقبلة، فإن كل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية تُوحي بأن مهمة إعادة الاستقرار على أكثر من واجهة ستكون عسيرة، خاصة مع عودة انتشار جائحة كوفيد-19، ومنذ قرار فتح الحدود في 27 من يونيو/حزيران ارتفع عدد الإصابات وظهرت بؤر تفشي المرض في البلاد وبلغ العدد الإجمالي للمصابين 2893 توفي منهم 71 شخصًا.
بالنهاية، يبدو أن تونس ستدخل فصلًا آخر من التجاذبات السياسية التي تعصف بالبلاد منذ 2011، فملامح الحكومة الجديدة تُخفي بين طياتها بوادر معركة أخرى قد تكون أخطر من سابقاتها، خاصة أن المشيشي، ثالث رئيس حكومة يتم ترشيحه منذ الانتخابات التشريعية التي جرت في أكتوبر/تشرين الأول الفائت وأفرزت برلمانًا مشتت الكتل دون غالبية واضحة، ارتبط اسمه بمشروع تغيير النظام السياسي الذي يقوده قيس سعيد.