لم تترك “إسرائيل” طريقًا مستقيمًا ولا أعوجًا إلا سلكته سعيًا إلى تبييض صورتها أمام الرأي العام والتقرب من الشعوب العربية بصفتها دولة شرق أوسطية تبحث عن السلام لا كيانًا عنصريًا عدوًا محتلًا غريبًا عن المنطقة، ولتحقيق هذه الغاية تجاوبت مع التطورات التكنولوجية والتغيرات في النظام الدولي وتوجهت إلى منصات العالم الرقمي لقلب حقيقة الأمور رأسًا على عقب.
عززت “إسرائيل” علاقاتها العامة عبر “دبلوماسية الهاشتاج”، فلم تجد مانعًا في إرسال الـ “ميمز” الساخرة أو الـ “جي آي إف” المتحركة وغيرها من لغات التراسل البصري الفوري على الإنترنت، ولم يتردد كذلك قادتها السياسيين والعسكريين في تداول آيات قرآنية وأحاديث نبوية وأمثال شعبية وأغاني عربية وتهاني في المناسبات الاجتماعية والدينية على حساباتهم الرقمية، طالما أن هذه الأدوات تخدم أجندة سياستهم الخارجية وتخلق فرصًا للحوار واللقاءات الرقمية بينهم وبين الشعوب العربية التي ظل موقفها تجاه الكيان الإسرائيلي ثابتًا، على النقيض من بعض الأنظمة والحكومات العربية التي وقعت في مصيدة التطبيع.
ومن أولئك القادة، رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي أبقى تغريدة كتب فيها “السلام عليكم وعلينا” مثبتة على حسابه من أجل أن يوهم رواد العالم الافتراضي بإنسانية بلاده وانفتاح قادتها على ديانات وثقافات الآخرين، وذلك أحد أهداف “إسرائيل” وأساليبها التي تتبعها في مواقع التواصل الاجتماعي.
من يدير الحسابات الإسرائيلية الناطقة بالعربية؟
وظفت وزارة الخارجية الإسرائيلية عام 2015 أكثر من 75 موظفًا ومتطوعًا، وثمانية مستشارين في قسم “الدبلوماسية الرقمية”، إضافة إلى 30 موظفًا في مكاتب تمثيل الاحتلال في دول مختلفة، ومنذ عام 2011 يدير القسم أكثر من 350 قناة رقمية واجتماعية عبر الشبكة العنكبوتية، ونحو العشرين موقعًا إلكترونيًا باللغة العربية والإنجليزية والفارسية والروسية، إلى جانب أكثر من 80 موقعًا تابعًا لمكاتب التمثيل الدبلوماسي.
نشطت هذه الاستراتيجية الرقمية بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2014 عندما طغت الرواية الفلسطينية على الدعاية الإسرائيلية المضللة أمام الرأي العام، ولكن صياغتها وتوجهاتها تشكلت منذ عام 2011 عندما افتتح يارون غامبورغ قسم الدبلوماسية الجماهيرية رسميًا وأصبح مديرها في السفارة الإسرائيلية لدى الولايات المتحدة بعد أن قدم دورات تدريبية في هذا المجال للموظفين في سفارات دولة الاحتلال ولشخصيات دبلوماسية من جميع أنحاء العالم.
وفي هذا السياق، يذكر أنه في عام 2018 نشرت دولة الاحتلال على موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية الرسمي مقالًا توضح فيه طموحها الرقمي وتقول: “نتطلع الى قيادة هذا العالم من الدبلوماسية الرقمية. وقد تم مؤخرًا إدراج الخارجية الإسرائيلية في المركز الرابع عالميًا من حيث فرص التواصل معها. وقد بات واضحًا، مع حصولنا على ما لا يقل عن 220 مليون تعليق عبر منصاتنا العربية المختلفة و 1,6 مليون متابع على الفيسبوك، سبب فتح الدبلوماسية الرقمية المجال أمامنا للتنامي بأضعاف مضاعفة”.
فمع حصول تلك الحسابات على المزيد من المشاهدات والمشاركات والإعجابات أكثر من أي وقت مضى، يواصل فريق الدبلوماسية الرقمية تسخير قوة وسائل التواصل الاجتماعي للوصول إلى ملايين العرب حول العالم وخلق فرص أكبر للسلام في المنطقة، حيث تشارك الحسابات الإسرائيلية باللغة العربية معلومات متعلقة بالتطورات السياسية والأمنية الحالية، وتستخدم عددًا من الأساليب الإبداعية والتفاعلية ( تشمل الرسوم البيانية ومقاطع الفيديو والصور والرسوم الكاريكاتورية) لصنع محتواها وذلك ضمن خطوط رئيسية واضحة ومدروسة.
والهدف الرئيسي منها إعداد الرأي العام العربي للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، وإلغاء نظرة الجمهور العربي إلى “إسرائيل” بصفتها دولة استعمارية عنصرية وتصويرها على أنها دولة ذات تنوع ثقافي وإنساني بنشر منشورات عن المطبخ أو الموسيقى.
الأساليب التي تتبعها “إسرائيل” في شبكات التواصل الاجتماعي
التحريض والعنصرية
نشر “حملة = المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي”، العام الماضي نتائج مؤشر التحريض والعنصرية في مواقع التواصل الاجتماعي الإسرائيلية بين عامي 2017-2018، مشيرةً إلى ذروة التحريض ضد العرب والفلسطينيين خلال الجولتين الانتخابيتين الإسرائيليتين الماضيتين.
وبحسب الأرقام، شهد عام 2019 ارتفاعًا بنسبة 14٪ بالخطاب العنيف تجاه العرب والفلسطينيين، بواقع منشور عنيف ضد العرب والفلسطينيين بوتيرة كل 64 ثانية، إذ من بين كل 11 منشور عن العرب كان هناك منشور تحريضي واحد على الأقل.
وبالمقارنة مع السنوات الماضية، شهد عام 2019 ارتفاعًا بعدد ونسبة المنشورات التحريضية، حيث نُشر 495 ألف منشور عنيف، يشمل كلمات عنصرية أو شتائم هدفها التحريض ضد الجمهور العربي والفلسطيني، من بين 5.4 مليون منشور عن العرب في 2019، وهو ارتفاع بنسبة 5٪ مقارنة بعام 2018 الذي نُشر خلاله 474 ألف منشور عنيف من بين 4.7 مليون منشور عن العرب 2018، و445 ألف منشور عنيف من بين 4.1 مليون منشور عن العرب عام 2017.
وكان موقع “فيسبوك” هو الأبرز في الخطاب العنيف، حيث نُشر 41٪ من المنشورات العنيفة، وهو انخفاض بنسبة 15٪ مقارنة بالسنة الماضية 2018، فيما تشكّل “تويتر” 30٪ من الخطاب العنيف ضد العرب، وهو ارتفاع بنسبة 14٪ مقارنة مع السنة الماضية.
كما تعقب المركز العربي للحريات الإعلامية والتنمية والبحوث– إعلام صفحات سياسيين وإعلاميين إسرائيليين على مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر)، وتتبع الصحافة المكتوبة والمسموعة والإسرائيلية لمدة نصف عام بدأت في شهر كانون الثاني/ يناير من عام 2019، حتى حزيران/ يونيو الأخير، ووجد أن أسلوب التحريض الأكثر اتبّاعا في الإعلام الإسرائيلي هو نزع الشرعية عن الفلسطيني بنسبة 74%، بواقع 334 من مجمل المقالات، يليه استخدام خطاب العنصرية بنسبة 64%، بواقع 289 من مجمل المقالات.
حيث استُعملت الشيطنة والتعميم، بنسبة 55%، والفوقية العرقية بنسبة 43%، وشرعنة العقوبات الجماعية واستخدام القوة بنسبة 14%. وذكر “إعلام” أن “العديد من الصحافيين الإسرائيليين (يميلون) لتصوير الاحتلال والمجتمع الإسرائيلي بدور الضحية، في واقع الصراع الموجود، وقد تم استعمال هذا الخطاب بنسبة 28%”، لافتًا إلى أن “غالبية المقالات تحتوي على أكثر من نوع تحريضِ واحدِ في نفس المقال”.
قلب الحقائق
يستخدم المسؤولون الإسرائيليون وسائل التواصل الاجتماعي لخلق واقع مختلف، وذلك بهدف التأثير المباشر، وإحداث تغيير في الرأي العام العربي تجاه “إسرائيل”، إذ تتعمد حساباتهم الافتراضية تخريب صورة النضال الفلسطيني بوصف المقاومة بـ “الإرهاب الذي يهدد السلام في المنطقة”.
وفي حال اعتراف “إسرائيل” بجرائمها العدوانية، فإنها تحاول التقليص من حجم المعاناة مبررة ذلك بحماية حدودها وأمنها، فضلًا عن محاولتها في تحويل الصراع من صراع مع الاحتلال الإسرائيلي إلى إيران وهي نظرية إسرائيلية بحتة في الأساس تهدف من خلالها إلى شرعنة عدوانها المستمر على الفلسطينيين، وإعداد الدول العربية لقبولها جزءًا طبيعيًا في المنطقة.
غني عن القول إنه مع مرور الوقت، تكسب الرواية الإسرائيلية شرعية مع كثرة المطبعين والمتابعين لحساباتها، وبذلك يصبح هناك أجيالًا أكثر تقبلًا للانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين على اعتبار أنهم طرفين متساويين ولا حل سوى السلام والعيش المشترك كما تروج الدعاية الإسرائيلية.
كسر الحاجز النفسي
تفتح “إسرائيل” عبر شبكات التواصل الاجتماعي خط اتصال مباشر مع الشعوب العربية وهم إذا تفاعلوا مع منشورات مسؤوليها فقد وقعوا لقمة سائغة في التطبيع الرقمي، وذلك ضمن استراتيجية الدبلوماسية الرقمية الإسرائيلي التي تسعى من خلالها لإقامة علاقات ودية ومقربة مع المتابعين العرب حتى وإن كانت التعليقات مليئة بالكره والذم والشتائم أو السخرية، فلا يرونه سوى نوع من التفاعل والحوار.
إذ يقضي فريق الدبلوماسية الرقمية وقتًا طويلًا في الرد على التعليقات الواردة من المستخدمين الذين يشاركون وجهات النظر أو يطرحون أسئلة حول المحتوى الذي ينشرونه على منصاتهم، بالجانب إلى ذلك، يولي الفريق المختص اهتمامًا بالغًا بالتفاعل “الإيجابي” و”السلمي” وبجميع التعليقات والردود التي يعبر محتواها عن تصالح مع دولة الاحتلال في المنطقة، أو يتضمن ثناء على جهودها أو تطورها في مجال معين، حيث خصصوا قسمًا منفردًا بها في موقع الخارجية الإسرائيلية. علمًا أنهم يجيبون أيضًا عن الأسئلة التي تستقبلها منصاتهم الافتراضية كمحاولة إضافية لفرض هيمنة الرواية الإسرائيلية.
ولا شك أن المسؤولين عن تلك الحسابات يدركون أن التفاعل مع المتابعين يعني توليد المزيد من التعليقات على المنشورات، مما يسمح لسياساتهم الدعائية بالتداول في المجال الرقمي العربي بشكل أسرع وأوسع.
تأثيرات الحسابات الإسرائيلية على الجمهور العربي
مع ابتعاد المسؤولين والسياسيين الإسرائيليين عن الخطابات اللاذعة، وتعبئة عباراتهم بالأمثال العربية والآيات القرآنية، وتقديم أنفسهم على أنهم معنيون برفاهية المواطن العربي وقلقون من مخاطر الإرهاب، استطاعوا إلى حد ما رسم صورة أكثر لطافة وإنسانية للاحتلال الإسرائيلي وتجاهلوا القضية السياسية العالقة في النصف وتصرفوا كأن العلاقات طبيعية بينهم وبين الجمهور العربي.
وبذلك غيبت تلك الحالة مشاعر العداء تجاه الاحتلال الإسرائيلي، وقللت من مشاعر التعاطف مع الشعب الفلسطيني من خلال تبرير جرائمها وعدوانها المستمر وطمس الرواية الفلسطينية وخلق حالة من التوازن بين الاحتلال والمحتل.
يضاف إلى ذلك، تأثير هذه الأدوات في إعداد الشعوب العربية لتقبل “إسرائيل” وشرعنة وجودها مع كثرة المطبعين وحججهم الكثيرة، وعلى هذا الأساس لا يهم ما يقوله المتفاعلون العرب مع الحسابات الإسرائيلية، بقدر ما يهم ظهورهم ومشاركتهم على تلك الحسابات أمام جمهور مفتوح.
ولذلك يقول المسؤول عن الدبلوماسية الرقمية بالعربية في الخارجية يوناتان غونين، إن بعض مستخدمي وسائل التواصل قد يشيرون لبلاده على أنها “إسرائيل” بدلا من “الكيان الصهيوني”، وهو ما يراه إنجازًا إيجابيًا ومهمًا في تشكيل الرأي العام داخل العالم العربي، فالأمر لا يتعلق وحده بعدد الإعجابات وإعادة التغريد، بل يتعلق أكثر بإشراك الجمهور الافتراضي بطريقة تجعل الدبلوماسية أكثر نجاحًا مما تبدو عليه في أرض الواقع، فهناك جماهير على وسائل التواصل الاجتماعي لم تعد تشاهد التلفاز، وبهذه الحالة تحاول الحكومات إنشاء خط تواصل معهم لنشر دعايتها.