نجح الكيان الإسرائيلي في التغلغل مبكرًا في القارة الإفريقية وإقامة علاقات دبلوماسية قوية مع أغلب الدول هناك، ما مكنه من محاصرة دعم الأفارقة للعرب والفلسطينيين والاستئثار بدعمهم في المحافل الدولية والإقليمية خدمة لمشروعه المشبوه.
هذه المكانة الكبيرة في القارة السمراء، لم تحصل عليها “إسرائيل” بسهولة، فقد لجأت إلى طرق ملتوية عديدة مثلما حصل مع الإثيوبيين، ورغم العقبات وصلت إلى مستويات متقدمة، حتى إن الإسرائيليين أصبحوا يتحكمون بالمشهد العام هناك.
في هذا التقرير الجديد لـ “نون بوست”، ضمن ملف “التغلغل الإسرائيلي في إفريقيا”، سنتطرق معًا إلى طبيعة العلاقات الإسرائيلية الإثيوبية والدور الإسرائيلي في العبث بمياه النيل والأمن القومي لحليفتها مصر ومصلحتها من ذلك.
علاقات قديمة
اهتمام الإسرائيليين بإثيوبيا، تشكل بموجب عدة دوافع، إستراتيجية واقتصادية وسياسية وجيوإستراتيجية، فثمة إجماع لدى النخبة وصانع القرار الإسرائيلي على أن إثيوبيا تعتبر المفتاح السحري للتغلغل في القارة الإفريقية وطعن الأمن القومي العربي.
كان للكيان الإسرائيلي، منذ نشأته الاستيطانية على الأراضي الفلسطينية عام 1948، اتصالات مع إثيوبيا الواقعة آنذاك على البحر الأحمر (قبل انفصال إريتريا واستقلالها عنها عام 1994)، حيث رصدت المخابرات العسكرية المصرية اتصالات إثيوبية إسرائيلية مبكرة.
تسعى “إسرائيل” للحصول على جزء من مياه النيل عبر قناة السويس، وهو المشروع الذي يعرف باسم “إليشع كالي”
رغم أن “إسرائيل” لم تتبادل التمثيل الدبلوماسي الكامل مع إثيوبيا حتى بداية ستينيات القرن الماضي، فإن العلاقات الإثيوبية الإسرائيلية كانت نشطة وفعالة نسبيًا، إذ يجد الكيان الإسرائيلي في إثيوبيا أفضل حليف إفريقي لأكثر من وجه.
ويدعي العديد من الإسرائيليين أن العلاقة مع إثيوبيا ترجع إلى القرن الثالث قبل الميلاد ويزعمون أن ابن سيدنا سليمان (منليك) من زوجته الملكة بلقيس هو مؤسس الحبشة التي كانت تسمى (ماكدا) وأن قومية (أمهرا) التي ينتمي إليها الأباطرة الأحباش وآخرهم (هيلا سيلاسى) هي من سلالة سيدنا سليمان.
وسبق أن أعلنت إثيوبيا دعمها الكامل لحصول “إسرائيل” على صفة عضو في الاتحاد الإفريقي، كما تبادل رؤساء وزراء الدولتين الزيارات في الكثير من المرات، فضلًا عن ارتفاع حجم التبادل الاقتصادي بينهما، ما يؤكد عمق العلاقات بين الطرفين.
يهود الفلاشا
أكثر من 150 ألف يهودي من أصل إثيوبي يعيشون في “إسرائيل”، ففي سنة 1975 أطلقت حكومة تل أبيب شارة السماح لليهود الإثيوبيين، المعروفين باسم “بيتا إسرائيل” (يهود الحبشة أو يهود الفلاشا)، بالهجرة إلى “إسرائيل” عام 1975، وقررت آنذاك، أن ما يسمى “قانون العودة” ينطبق أيضًا على اليهود الإثيوبيين.
في البداية، تمكن عدد قليل من اليهود الإثيوبيين من الهجرة إلى الكيان الإسرائيلي بناء على اتفاق بين الموساد والحكومة الإثيوبية، بمقتضاها يقدّم الإسرائيليون السلاح للحكومة الإثيوبية مقابل السماح لليهود بالهجرة إلى “إسرائيل”.
انكشاف هذه الاتفاقية أدى إلى إلغائها وغلق الحدود الإثيوبية، فلجأ الموساد إلى العمليات السرية، وعلى مدى سنوات نفذ “الموساد” العديد من العمليات السرية نقل فيها آلاف الإثيوبيين، أبرزها “عملية موسي” سنة 1984 و”عملية سلمان” التي أبرمت بين حكومتي تل أبيب وأديس أبابا، لتسهيل هجرة 34 ألف يهودي إلى “إسرائيل” في الفترة بين عامي 1991 و1992.
السيطرة على مياه النيل
كثيرة هي أهداف الإسرائيليين من التغلغل داخل إثيوبيا والتحكم في مراكز القرار السيادية هناك، لكن لن نركز في هذا التقرير عليها جميعها بل سنركز على أبرزها وهي تلك المتعلقة بمياه نهر النيل، فأهم الأهداف التي يطمح إليها كيان الاحتلال الصهيوني في وجوده بإثيوبيا هو الرغبة في الحصول على مياه النيل، حيث تسيطر إثيوبيا على أكثر من 80% من مياه النهر.
أطماع “إسرائيل” في مياه نهر النيل قديمة جدًا، فهي تسعى للسيطرة عليه بناءً على الأساطير الدينية اليهودية التى ترتكز على دعوى أرض الميعاد، فهم يزعمون أن كتابهم المقدس “التوراة” جاء فيه أن الله قطع العهد لإبراهيم وأولاده بأن يأخذوا الأرض الممتدة من نهر النيل إلى نهر الفرات.
نتيجة ذلك تلعب “إسرائيل” دورًا غير مباشر في صراع المياه بين دول حوض النيل، حيث دعمت إثيوبيا في بناء عدد من السدود الكبيرة على نهر النيل بهدف حجز مياهه بداية، ثم تحويلها إليها للاستفادة منها.
يحاول الكيان الصهيوني عبر توظيف المعرفة في المشروعات المائية والكهربائية بإثيوبيا أن يكون المتحكم الأساسي في مياه النيل، تمهيدًا للتوصل لخطوة نقل مياه النهر لـ”إسرائيل”، وسبق أن وعد نتنياهو خلال الجولة الأخيرة في عام 2016 بمساعدة إثيوبيا على الاستفادة من مواردها المائية في تطوير الزراعة وتزويد البلاد بالتكنولوجيا الإسرائيلية.
وتسعى “إسرائيل” للحصول على جزء من مياه النيل عبر قناة السويس، وهو المشروع الذي يعرف باسم “إليشع كالي“، ويستهدف حصولها على ما يعادل 1% من مياه النيل، أي ما يعادل 550 مليون متر مكعب سنويًّا عبر أنابيب ناقلة لصحراء النقب مرورًا بمصر “من خلال سحارات أسفل قناة السويس” وقطاع غزة شمالًا.
اتباع “إسرائيل” إستراتيجية التمكين في إثيوبيا، الهدف منه تطويق الدول العربية – خاصة مصر – وحرمانها من النفوذ داخل أي منطقة
في هذا الإطار وقعت شركة الكهرباء الإسرائيلية اتفاقًا مع إثيوبيا، لإدارة المشروعات المائية التي ستقام على النيل الأزرق، بما فيها سد النهضة والسدود الثلاث الأخرى التي سوف يتم إنشاؤها لاحقًا، لتوليد الطاقة الكهرومائية.
انطلاقًا من هذا المخطط ستكون “إسرائيل” المتحكم في مياه النيل، وفي كل السدود والمشروعات القائمة أو التي سيتم إنشاؤها في المستقبل، وبالتالي ستحدد نسب المياه الداخلة والخارجة بدءًا من منبع السد في بحيرة تانا وحتى المصب في البحر المتوسط.
في مقابل ذلك، يهدف الإثيوبيون من وراء بناء هذه السدود إلى توفير مزيد من المياه لأراضيهم لتكون صالحة للزراعة ومواجهة مشاكل الانفجار السكاني، وتوطين المهاجرين من الأماكن المنكوبة بالمجاعة خلال السنوات الأخيرة، فضلًا عن توليد الطاقة الكهربائية من هذه السدود.
تطويق مصر والحد من حركتها
بمجرد الانتهاء من بناء سد النهضة الذي تم الشروع في تشييده عام 2013، سيكون أكبر سد في القارة الإفريقية وسيكون له حتمًا تأثير كبير على إمدادات المياه في مصر، علمًا بأن نحو 90% من مياه النيل التي تصب باتجاه مجرى النهر في مصر مصدرها النيل الأزرق، إذ تبلغ الحصة السنوية لمصر من مياه هذا النهر 55 مليار متر مكعب، بينما يحصل السودان على 18.5 مليار.
ما زال “سد النهضة” يثير خلافات كبيرة بين إثيوبيا ومصر، حيث فشلت كل المباحثات الرامية إلى التوصل لاتفاق بينهما، ومن شأن مشروع السد أن يقلص حصة القاهرة من المياه ويتسبب في تصحر مساحات زراعية واسعة من أراضي مصر.
أدركت الحكومات الإسرائيلية سريعًا أن السيطرة على نهر النيل يهدد مصالح مصر الإستراتيجية وأمنها القومي، لذلك عملت جاهدة للسيطرة عليه، ففضلًا عن حاجته لمياه النيل، يسعى الكيان الصهيوني للإضرار بمصالح القاهرة مهما كلفه الأمر.
عزز كيان الاحتلال الإسرائيلي نفوذه السياسي والعسكري والاستخباراتي في إثيوبيا، وتمكن من سلطة القرار، وهو ما يتنزل ضمن عقيدته الأمنية والإستراتيجية القائمة على الاستحواذ والسيطرة على المنطقة المحيطة به قصد تطويق أعدائه.
بينما عززت “إسرائيل” مكانتها في المنطقة وخاصة في إثيوبيا، كانت المكانة المصرية هناك في تراجع مستمر الأمر الذي يهدّد أمن القاهرة القومي، رغم اتفاقية السلام المبرمة بين الطرفين في 26 من مارس/آذار 1979 في واشنطن.
اتباع “إسرائيل” إستراتيجية التمكين في إثيوبيا، الهدف منه تطويق الدول العربية – خاصة مصر – وحرمانها من النفوذ داخل أي منطقة، وهو ما يتماشى مع توجه البريطانيين قديمًا، فمنذ زمن بعيد قال مسؤولون في بريطانيا، إن نهر النيل أهم شيء للمصريين، وإذا أردت أن تضيق عليهم الخناق “اقفل الحنفية”.
تشديد الخناق على مصر في ظل أزمة سد النهضة، ستكون تداعياته كبيرة على الفلسطينيين، فالقاهرة ستجد نفسها مضطرة للتقرب أكثر لكيان الاحتلال الصهيوني ومد يدها إليه أكثر من أي وقت مضى حتى لو كان ذلك على حساب القضية الفلسطينية.
وتأمل “إسرائيل” من خلال التضييق على مصر ودعم الإثيوبيين في مسألة سد النهضة، ضمان ولاء النظام المصري الحاكم ودعمه لها في قراراتها المتعلقة بانتهاك حقوق الفلسطينيين، وقد ظهر ذلك جليًا في تأييد القاهرة لمخطط السلام الذي يقوده الرئيس الأمريكي ترمب ومساهمتها في تطبيع العلاقات الإماراتية الإسرائيلية.
خلقت أزمة سد النهضة ظرفًا باتت فيه القاهرة بحاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى للتعاون مع الإسرائيليين على صعد مختلفة، الأمر الذي كانت تسعى إليه “إسرائيل” جاهدة، فوجودها في إثيوبيا الهدف منه تطويق القاهرة والحد من تحركاتها حتى تخدم مصالحها في المنطقة، لكن هل تطويق القاهرة هدف “إسرائيل” الوحيد في إفريقيا؟