انتهت الحكاية التي سنقصها اليوم، منذ 4 سنوات، لم تكن قصة مدينة داريا بالريف الغربي لدمشق عادية ولا يمكن للإنسان المرور عليها مرور الكرام، ذلك بأن هذه المدينة خلال 6 سنوات من الثورة أعطت نموذجًا واضحًا بين المدن الثائرة، عن العمل المدني والعسكري المنظم، الذي إن كان قد اعتراه بعض الخلل، فإنه ضرب مثالًا كبيرًا في النهج الثوري.
القائد أبو براء، واحدٌ من مئات الشبان الذين حوصروا في المدينة بين عامي 2012 و2016، وساهموا بشكل أساسي بالتجهيز للكثير من المعارك ضد نظام بشار الأسد، وبالإضافة لعمله القتالي، تميز أبو البراء بتجهيزه الكثير من أنفاق المدينة التي كانت منطلقًا للعديد من الضربات الكبيرة ضد الشبيحة ومليشيات النظام.
تميزت أنفاق المعارضة في داريا التي أتقن أبو براء تكتيكاتها، بأنها خففت العبء عن المقاتلين والأهالي المدنيين، غير أنها لم تُحفر بآلات حديثة أو تقنيات متقدمة، إنما بواسطة أيدي فرق الحفر ومعداتهم البسيطة جدًا، ذلك بأن النظام ضرب طوقًا عسكريًا عصيًا على الاختراق حول المدينة ولم يكن إدخال أي شيء لثوار المدينة وأهلها بتلك السهولة.
في هذه الأيام تحل الذكرى الرابعة لتهجير النظام لأهالي داريا وثوارها، إضافة إلى الذكرى الثامنة للمجزرة الكبرى التي ارتكبتها مليشيات الأسد، نجول في هذا التقرير على ذكريات المدينة التي صمدت في وجه أعتى آلات النظام وجنده، نتذكر الأنفاق وعملها والعاملين بها وكيف كانت هذه الوسيلة سلاحًا من أخطر الأسلحة المستخدمة من طرفي المعارضة والنظام، مع سرد لأهم معارك الأنفاق التي استمرت شهورًا، وربما لا يمكن للعقل أن يتخيلها أو يظن أنها نسج خيالي لفيلم هوليوودي.
النفق الأول
بداية العام 2013 توغلت قوات النظام في مدينة داريا وتمركزت في أبنيتها، وتحولت الحرب بينها وبين ثوار داريا من حرب الشوارع المفتوحة إلى حرب العصابات والمدن، حينها لمعت فكرة حفر الأنفاق لدى قوات المعارضة، للتغلب على قلة العدة والعتاد، وأيضًا لحل مشكلة قناصي النظام، كما أنها وسيلة للوصول إلى أماكن تمركز قوات الأسد ومباغتتها.
تعود فكرة الأنفاق في داريا، إلى القائد الميداني مهند أبو أسامة (قتل في إحدى المعارك)، عندما رأى الفكرة بأحد الأفلام، وعرضها أولًا على القائد أبو براء، الذي أصبح أحد أهم الأشخاص في حفر الأنفاق، ومن ثم عرضها على القادة العسكريين الذين رفضوا الفكرة، بسبب ما تشكله من مخاطر عالية قد تودي بحياة القائمين عليها إذا هُدم النفق أو كشف أمره، لكن بإصرار أبو أسامة وعرضه لعدة أمثلة ناجحة من أنفاق حركة حماس في غزة استطاع إثبات فكرته والحصول على التأييد لتكون نقطة البداية لأول نفق يتم إنجازه في مدينة داريا، وسنتحدث عنه لاحقًا في تقريرنا.
إذن، نشأت الفكرة ثم تطورت لتعزيز خطوط الدفاع في وصل النقاط العسكرية ببعضها، ثم تطور الأمر عند إطباق قوات النظام حصارها على المدينة إلى محاولة حفر طرق لتهريب المؤن والسلاح إلى المدنيين والمقاتلين وهو الأمر الذي لم يُكتب له النجاح.
الأنفاق الهجومية
نقل مقاتلو داريا حربهم وتكتيكاتهم إلى باطن الأرض عبر الأنفاق بشكل تدريجي، حيث كانت تتطور شيئًا فشيئًا لمفاجأة قوات النظام في نقاطهم، فكان يتم حفر النفق ويستمر العمل بتجهيزه لشهور، ويتم حفره بمسار معيّن على أن ينتهي خلف خطوط المليشيات، لتحدث عملية الالتفاف، وعادة ما تكون هذه الأنفاق ضيقة وصعبة في المسير، وذلك بسبب الانتباه والحذر الشديدين في حفرها لكي لا تنتبه قوات الأسد إلى أصوات المعدات التي تصدر من الأرض.
كانت السرية التامة والتكتم المطلق من أهم عوامل إنجاح عمليات الأنفاق الهجومية وصمود المدينة، وفيما يلي أهم الأنفاق الهجومية التي ضرب المقاتلون من خلالها قوات النظام وكبدوهم خسائر فادحة بالعتاد والأرواح.
1- النفق الأول “الصقور”
هذه المعركة هي الأولى من نوعها التي تسلل بها الثوار عبرنفق إلى نقاط وقوات الأسد، حيث بدأ القائد مهند أبو أسامة بحفر نفقين بنفس الوقت باتجاه الجبهة الشمالية من المدينة، وذلك بهدف السيطرة على أهم الأبنية التي كانت تتمركز فيها قوات النظام، وبعد شهر ونصف تم الانتهاء من إعداد النفق، وأصبحت المعركة قاب قوسين أو أدنى، وقبل العملية بيوم واحد قضى مهند شهيدًا في أثناء جولة استطلاعية.
صباح الـ25 من مارس 2013 تفاجأت قوات النظام بهجوم مباغت لمقاتلي المعارضة التي بدورها أحكمت حصارها لأبنية رئيسية كان يتمركز فيها جيش النظام، وسط ذهولهم من طريقة وصول المقاتلين إلى تلك النقاط دون أن يراهم أحد، وبعد حصارها لعدة أيام تمكن المقاتلون من السيطرة على هذه الأبنية وقتل العشرات من قوات النظام واغتنام الكثير من الأسلحة والذخيرة، وبذلك انطلقت فكرة الأنفاق التي أثبتت نجاحها بشكل كبير.
2- نفق “الكورنيش القديم”
بعد النجاح في المعركة الأولى، أعاد ثوار المدينة الكرّة عبر نفق آخر، لكن هذه المرة من الجهة الشرقية، وبالتحديد في منطقة الكورنيش القديم، حيث حُفر نفق باتجاه الأبنية التي تتمركز فيها قوات الأسد على الطريق بهدف السيطرة على الأبنية المطلة على أحد الطرق الرئيسية المستخدمة كطريق إمداد لمليشيات الأسد.
استمر حفر هذا النفق قرابة الـ3 شهور وفي أكتوبر 2013 تمكن المقاتلون من الوصول بواسطة النفق إلى خلف نقاط تمركز قوات النظام وحرروا عددًا من الكتل التي تحتوي على أكثر من 20 بناءً، كل واحد منها مؤلف 4 طوابق، مكبدين قوات النظام أكثر من 25 قتيلًا وخسائر فادحة في العتاد، ما أجبر قوات النظام على التنقل في المنطقة الشرقية بواسطة الآليات فقط بسبب استهدافهم من الجيش الحر، لتثبت الأنفاق نجاعتها في الأعمال الهجومية مرة أخرى.
3- نفق كسر الحصار “وبشر الصابرين”
بعد 14 شهرًا من الحصار الخانق على مدينة داريا واستنفاد جميع محاولات، عقدت اتفاقية تهدئة بين قوات النظام والجيش الحر في المدينة بسبب الشروط التعجيزية التي يضعها النظام، وحينها قرر مقاتلو المعارضة حفر نفق لكسر الحصار بأنفسهم، وقاموا بإعداده باتجاه المنطقة الجنوبية الشرقية، استغرق حفره قرابة الـ3 أشهر، مستغلين خط الصرف الصحي الواصل بين مدينتي داريا وصحنايا.
دخل المقاتلون النفق وعبر قرابة 150 مقاتلًا بخط الصرف الصحي، في عملية شاقة وصعبة وأعلنوا شن معركة “وبشر الصابرين” بهدف كسر الحصار عن المدينة، وبدأت معارك عنيفة، وبالفعل تمكن الثوار من التقدم وتحرير مناطق شاسعة من المنطقة الشرقية وعدة مواقع إستراتيجية كان يتخذها النظام مراكزًا لقيادة عملياته، ما استدعى النظام لاستخدام الغازات السامة ضد الثوار.
تمكن الثوار خلال المعركة مع قوات النظام من قتل أكثر من 70 عنصرًا وجرح 20 آخرين، بينهم 7 ضباط برتب مختلفة من الحرس الجمهوري وعناصر أجنبية عراقية وإيرانية من مليشيا ما يسمى جيش المهدي ولواء أبي الفضل وأسر 8 عناصر آخرين وإعطاب عدد من الآليات الثقيلة واغتنام العديد من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة لعل أبرزها أسلحة مضادة للدروع كان يفتقدها الثوار في عمليات التصدي للدبابات، استخدم النظام قنابل غاز السارين لأول مرة ضد المقاتلين، ما أدى إلى استشهاد 5 مقاتلين وإصابة 10 آخرين.
4- نفق “اللهيب”
بسرية تامة، بدأت فرق الحفر المكونة من 15 شابًا، بقيادة أبو براء الذي أصبح يُكنى بـ”مهندس الأنفاق”، عملية حفر نفق باتجاه منطقة الجمعيات بهدف تحرير المنطقة الواقعة شمال غرب داريا التي تتمتع بأهمية كبيرة بسبب موقعها المطل على مطار المزة العسكري الذي كانت تستخدمه قوات النظام نقطة لإقلاع طائراتها التي تمطر داريا بالبراميل المتفجرة.
يقول أبو براء في حديثه لـ”نون بوست”: “عمدنا إلى حفر النفق من منطقة داريا الغربية القريبة من نقطة تحت منزل مدمر لظن قوات النظام أن هذه المنطقة غير ملائمة لبدء معركة من قبلنا”، ويضيف “استغرق حفر النفق سبعة شهور واصل العاملون فيها ليلهم بنهارهم دون ملل وتم حفر النفق بواسطة سكاكين قوية وأدوات حفر بسيطة مثل المفكات لتفادي سماع أصوات الحفر من قوات النظام”.
بعد سبعة أشهر من العمل المتواصل وضعت قوات المعارضة خطةً محكمةً ودقيقةً وسرّيةً، وأطلقت معركة “لهيب داريا” وتمكنت من تحرير منطقة الجمعيات بالكامل مع قطاعات مهمة وتكبيد قوات النظام خسائر فادحة بالأرواح والعتاد والاستيلاء على أسلحة وذخائر، يقول أبو براء: “لو كان لدينا عدد كافٍ من المقاتلين لاستطعنا تحرير مدينة داريا بالكامل”.
الأنفاق الدفاعية
كان يتم إنشاء هذه الأنفاق بهدف توفير الإقامة الآمنة وتمرير السلاح والمقاتلين والغذاء لنقاط الرباط ووصل النقاط ببعضها وكان أولها نفق لتأمين الوصول إلى أبنية صحنايا التي سيطر عليها الجيش الحر بعملية تسلل، ومن ثم انتشرت هذه الثقافة وطورها المقاتلون حتى أصبح المدنيون يحفرون أنفاقًا تحت منازلهم بهدف الحماية من قصف قوات النظام.
معارك تحت الأرض
هي معركة من نوع آخر ولا يجدي فيها كثرة الجنود والعتاد، فالاعتماد فيها على الاستشعار السمعي والغلبة فيها للأسرع، وفي ظل الحصار وانعدام الأدوات، كان الاستشعار السمعي يعتمد فقط على سماعة الطبيب.
بدأت قصة هذه المعارك عندما بدأت قوات النظام بأخذ تجربة الأنفاق وتنفيذها بشكل مضاد، ففي يوم من الأيام سيطرت قوات الأسد بمساعدة قوات من حزب الله والمليشيات الإيرانية عبر طريق نفق سري، على الطابق السفلي من مقام سكينة المزعوم، إلا أن الطوابق العليا ظلت تحت قبضة الجيش الحر.
بقاء قوات النظام في قبو البناء، جعلهم يبدأون بحفر أنفاق أخرى منه باتجاه نقاط مختلفة لقوات المعارضة، بحسب القائد العسكري فادي أبو يزن الذي يروي لـ”نون بوست” الأحداث بقوله: “النظام عمد إلى حفر الأنفاق بغية تفجير المباني لخلق منطقة عازلة تفصل بين نقاطه ونقاط الجيش الحر، وذلك لمنع عمليات التسلل ولتخفيف الاستنزاف الحاصل بين جنوده وإحكام سيطرته على كامل المقام”.
لكن سرعان ما علم المقاتلون بالسياسة الجديدة لقوات النظام، عندما سمعوا صوت الحفر، وبسرعة كبيرة بدأوا بحفر أنفاق مشابهة باتجاه قوات النظام بهدف منع وصولهم وتحويل المعركة إلى خارج الأبنية لتفادي تفجيرها، وفقًا لأبو يزن.
كان الاعتماد في هذه المعركة على السرعة، فمن يكتشف نفق الطرف الآخر أو يكون أسرع منه، يستطيع أن يعطل عمله، وكان الجيش الحر يعتمد على الأدوات البسيطة في الحفر لتفادي سماع الأصوات، بالإضافة إلى اعتماده على سماعة الطبيب لتكبير الأصوات في حال سماعها، بحسب أبو يزن.
يضيف القائد العسكري “كلما اكتشفنا نفق وفجرناه، تبدأ قوات النظام بنفس اليوم بنفق جديد”، وكانت قوات النظام تستخدم المعتقلين بسجونها في مهمة حفر أنفاقها، ويروي أبو يزن “رصد قناصونا قوات النظام وهي تحضر المعتقلين للمشاركة في عمليات الحفر بغية حماية جنودهم حال فجرنا النفق، بالإضافة إلى أنهم كانوا يحضرون أشخاصًا من المقيمين في المناطق الشرقية للمشاركة بعمليات الحفر مقابل 500 ليرة في اليوم”.
في نفس السياق يقول القائد أبو براء: “وجدنا طفلًا صغيرًا مكبلًا داخل أحد الأنفاق التي فجرها النظام، وتم ذلك بعد اكتشاف النفق”، ولحماية أنفاقه ومراقبتها لغم الجيش الحر الأنفاق وركب كاميرات مراقبة ليلية لكشف حالات التسلل حال حدوثها.
حفرت قوات النظام والمليشيات الشيعية الموالية لها أكثر من 40 نفقًا بغية إحكام السيطرة على مقام سكينة ومحيطه، وباءت كل هذه الأنفاق بالفشل، لكن هذه المعارك كلفت الجيش الحر عددًا من خيرة القادة والمقاتلين، وفقًا لأبو براء.
كانت الأنفاق وسيلة عظيمة في معارك داريا، وساهمت بتخفيف العبء عن المقاتلين والمدنيين على حدٍ سواء، وأثبتت مهارة العاملين فيها، إذ إنهم لم يتبعوا أي خطط هندسية مسبقة أو آلات حديثة، وعلى الرغم من سيطرة النظام على المدينة، فإن هذه الأنفاق ما زالت موجودة حتى اليوم، ولا يزال النظام يبحث يوميًا عن تلك السلاسل التي كانت عصب الحياة في المدينة.