تحول حوضا إيجة وشرق البحر المتوسط مؤخرًا، إلى بؤرة ساخنة بسبب تحركات تركية يونانية متضادة أتت في إطار تنافس إقليمي محموم وصراع على مصادر الطاقة الموجودة في أعماقهما.
عند الحديث عن أهمية الثروات الطبيعة في البحر المتوسط، يطغى السؤال الجوهري على طاولة البحث: هل تكون هذه الثروات ثروات الصراع أم ثروات السلام؟
يتمتع حوض المتوسط بثروات من أهمها الغاز، إلا أنه أصبح منطقة نزاع متعدد الأشكال بشأن حدود كل دولة متشاطئة، نزاع يشمل النزاع التركي اليوناني بما يشمل ليبيا ومصر و”إسرائيل” ولبنان وسوريا وقبرص اليونانية، بل ودول من خارج الحوض كفرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا.
يحتوي شرق البحر المتوسط على 122 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، بالإضافة إلى 107 مليارات برميل من النفط الخام، بحسب هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية، وهذا ما يلخص سبب الصراع القائم والمحتدم بين هذه الدول.
أبعاد الصراع التركي اليوناني في البحر المتوسط
مرت العلاقات التركية اليونانية، بفترات من المد والجزر منذ استقلال اليونان عن الإمبراطورية العثمانية عام 1832، تنبع هذه الخلافات التاريخية بينهما بسبب الحدود البحرية وملف جزيرة قبرص، بالإضافة إلى خلافات جديدة تتعلق بالتنقيب عن النفط والغاز في منطقة حوض شرق البحر المتوسط وإيجة.
حصلت اليونان، بموجت معاهدة لوزان عام 1923، على مجموعة من الجزر في منطقة إيجة، لا تبعد هذه الجزر عن الحدود التركية في منطقة إيجة سوى كيلومترين، بل امتد الصراع إلى منطقة حوض البحر المتوسط الموجود فيها جزيرة قبرص، وذلك مع سيطرة تركيا على 37% من الجزء الشرقي لجزيرة قبرص عام 1974، التي أصبحت عقبة أمام تحسن العلاقات بين البلدين منذ عقود.
تركيا ترى أنه من غير المنطقي المطالبة بجرف قاري 40 ألف كيلومتر لجزيرة “ميس” الصغيرة، وأن هذا الأمر مخالف للقانون الدولي.
تواصل تركيا كفاحها للدفاع عن حقوقها النابعة من القانون الدولي في المنطقة، وقد اشتد الصراع شرقي البحر المتوسط، اعتبارًا من عام 2000، في أعقاب اكتشاف حقول الغاز، لتشرع دول المنطقة في تحديد نفوذها البحري.
بيد أن الاتفاقيات الثنائية التي وقعتها قبرص اليونانية مع كل من مصر عام 2003 و”إسرائيل” عام 2005 ولبنان عام 2007، هي بداية الصراع الحقيقي في حوض البحر المتوسط، حيث تجاهلت حقوق القبارصة الأتراك، رغم عدم التوصل إلى حل لأزمة الجزيرة القبرصية، الأمر الذي عارضته تركيا وقبرص التركية بشدة، بل واعتبرته أنقرة انتهاكًا صارخًا لجرفها القاري.
لقد اعتمدت قبرص اليونانية في هذه الاتفاقيات التي عقدتها مع دول المنطقة بشأن تحديد الحدود على مبدأ “المسافة المتساوية”، المعتمد لدى بلدان اليابسة، إلا أن هذا المبدأ ليس قاعدة معتمدة في تحديد حدود الجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة للبلدان، في المقابل ينص القانون الدولي وقانون البحار التابع للأمم المتحدة على مبدأ “التقاسم المتساوي”، في تحديد الجرف القاري والمناطق الاقتصادية الخالصة، وعلى أن الجزر تنال مساحات أقل من بلدان اليابسة بحسب مبدأ “الإنصاف”.
تحاول اليونان السيطرة على جميع الموارد الاقتصادية في حوض البحر المتوسط، وحصار تركيا في شريط ضيق رغم أنها أكثر الدول إطلالًا على بحر إيجة والمتوسط، متذرعة بجزيرة “كاستيلوريزو” باليونانية و”ميس” بالتركية، وتبلغ مساحتها 10 كيلومترات مربعة، وتبعد عن البر اليوناني نحو 580 كيلومترًا، وتتبع لها عمليًا بموجب اتفاقيات دولية، وعن البر التركي نحو كيلومترين، وتطالب اليونان بجرف قاري لهذه الجزيرة 40 ألف كيلومتر، لكن تركيا ترى أنه من غير المنطقي المطالبة بجرف قاري 40 ألف كيلومتر لهذه الجزيرة، وأن هذا الأمر مخالف للقانون الدولي.
كانت شركة “نوبل إينرجي” ومقرها تكساس أول من أعلن عام 2011 اكتشاف الغاز قبالة قبرص في حقل “أفوديت” الذي يقدر احتضانه 4.5 تريلون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، واستمرت قبرص بالاتفاق مع دول عدة دون الرجوع لتركيا.
عام 2014 أعلنت تركيا “قواعد الاشتباك” في حوض المتوسط، وأشارت من خلالها إلى استعدادها للتصدي لأي محاولة للتنقيب في جرفها القاري والمياه الإقليمية لقبرص اليونانية دون توافق معها، وإثر ذلك اعترضت سفن حربية تركية سفينة التنقيب التابعة لشركة “إني” الإيطالية المتعاقدة مع قبرص اليونانية في حوض البحر المتوسط، بحجة أن البوراج تقوم بمناورات عسكرية في المنطقة عام 2018.
تُعتبر الاتفاقية التركية الليبية، مكسبًا سياسيًا وقانونيًا مهمًا لتحركات تركيا في البحر المتوسط، رغم أنها لا تعتبر الحل النهائي للخلافات القائمة
ازداد الصراع في حوض البحر المتوسط، مع ظهور التحالفات بين الدول المعنية، حيث تأسس منتدى غاز البحر المتوسط في يوليو/تموز 2019، بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية، الذي يضم مصر والأردن و”إسرائيل” وقبرص واليونان وإيطاليا، علمًا بأن بعض هذه الدول ليست مصدر غاز إنما مستهلك له كالأردن، في حين تغيبت دول معنية عن هذا المنتدى أهمها: لبنان وتركيا وسوريا.
في المقابل كان موقف تركيا مختلفًا، حيث عمدت إلى التحرك نحو خطوات عملية، ووقعت مُذكرتي تفاهم مع حكومة الوفاق الليبية برئاسة فايز السراج 27 من نوفمبر/تشرين الثاني 2019، الأولى بخصوص التعاون الأمني والعسكري، والثانية بشأن تحديد مناطق النفوذ البحرية، لتوقف التحركات القبرصية عند جزيرة كريت، التي سيمر منها خط نقل الغاز والموارد النفطية إلى أوروبا.
عبرت اليونان عن غضبها من اتفاق مُذكرتي التفاهم بطرد السفير الليبي، ومن ثم وقعت اتفاقًا مع “إسرائيل” وقبرص اليونانية لمد خط الغاز “إيست مد” في 2 من يناير/كانون الثاني 2020 نحو “إسرائيل”، الذي جاء ردًا على اتفاق مُذكرتي التفاهم التركي الليبي، بعد فشل اليونان في حشد الموقف الدولي ضد التحركات التركية في المنطقة.
تُعتبر الاتفاقية التركية الليبية، مكسبًا سياسيًا وقانونيًا مهمًا لتحركات تركيا في البحر المتوسط، رغم أنها لا تعتبر الحل النهائي للخلافات القائمة بشأن مناطق النفوذ البحرية في المنطقة.
في الآونة الأخيرة وصلت العلاقات بين البلدين، إلى التصادم المباشر في المنطقة، إثر إعلان تركيا إخطارًا يُعرف باسم “نافتكس” لإجراء مسوح اهتزازية في منطقة من البحر بين جزيرتي قبرص وكريت في 21 من يوليو/تموز من العام الحاليّ، تحت إطار مُذكرتي التفاهم التركية الليبية، اعتبرت اليونان هذه التحركات محاولة للتعدي على جرفها القاري، أي الجرف القاري التابع لجزيرة “ميس”، وترى أنقرة أن هذا مخالفًا للقانون الدولي وقانون البحار.
موقف الدول الفاعلة في الصراع اليوناني التركي
مصر
تأتي الانتقادات المصرية للتحركات التركية في منطقة البحر المتوسط من باب المناكفة، إذ وقعت اتفاقية مع اليونان لترسيم الحدود البحرية، رغم خسارتها ما يقارب 24 ألف كيلومتر من حدودها البحرية.
المفارقة هنا أنه على الرغم من أن مصر بادرت بإقامة منتدى غاز شرق المتوسط مع اليونان وقبرص وفرنسا نكايةً في أنقرة، فإنها استفادت من المواقف التركية التي تقف حائلًا دون إقامة خط غاز شرق المتوسط، كما أن مصر استفادت من مُذكرة ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، وعليه فإن المناكفة المصرية لتركيا مستمرة ما دامت حالة القطيعة بينهما مستمرة.
“إسرائيل”
ترى “إسرائيل” أنها غير معنية في التصعيد ضد تحركات تركيا في المنطقة، بهدف عدم تعطيل مصالحها معها الهادفة إلى تصدير الغاز إلى أوروبا عبر خط أنابيب يمر من البحر المتوسط.
بعد توقيع تركيا مُذكرتي التفاهم مع ليبيا، دعمت “إسرائيل” اليونان، لكن على مستوى التصريحات الإعلامية دون الذهاب إلى التصعيد المباشر على أرض الواقع.
تجد “إسرائيل” فرصة في تحقيق هدفها بإنشاء خط أنابيب الغاز في شرق المتوسط، يمر عبر الأراضي التركية، لخفض التكاليف الباهظة التي من الممكن أن تتحملها في حال أقدمت على إنشاء خط الأنابيب من عرض البحر المتوسط، وأكثر أمنًا.
فرنسا
زاد التدخل التركي في ليبيا، بناءً على مُذكرتي تفاهم رفعت حجم المخاوف الفرنسية تجاه النفوذ التركي الذي يهدد مصالحها في إفريقيا والبحر المتوسط. تقوم السياسة الفرنسية في المنطقة على أساس المصالح الوطنية الواقعية، وأعربت باريس عن دعمها الواضح للمواقف اليونانية والقبرصية، مع تصور أنها تدافع عن مصالح الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بالمنطقة.
دعمت فرنسا، منتدى غاز البحر المتوسط، وأصدرت عددًا من البيانات المشتركة مع دول البحر المتوسط المنددة بالنشاط التركي في المنطقة، وعرضت فرنسا المساعدة على اليونان، بإرسال طائرات مقاتلة مع أجهزة استخبارات تكنولوجية إلى قبرص في 17 من أغسطس/آب من العام الحاليّ.
وينطلق موقف فرنسا المضاد لتركيا من مُنطلق إستراتيجية “الاتحاد من أجل المتوسط” التي ترمي للحفاظ على النفوذ الأوروبي في شرق المتوسط وزيادته، خوفًا من التأثيرات السلبية المتعلقة بالوجود الروسي والصيني والتركي المتنامي في الحوض.
الولايات المتحدة الأمريكية
تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بالدور الثانوي في المنطقة، أي دور “المراقبة”، تطور الموقف الأمريكي إزاء حلفائها الإقليميين، حيث تؤيد الطرف الذي يستطيع موازاة الدور الروسي المتنامي في المنطقة، بعد التدخل الروسي في ليبيا، وامتداد النفوذ الروسي القريب من الجناح الجنوبي لحلف الناتو وأوروبا، هو تركيا وفرنسا حاليًّا وبشكل أساسي، أي أنها تقوم بدور “الإمساك بكفة توازن القوى” بين تركيا وفرنسا لدفعهما بصورة مدروسة نحو موازنة الدور الروسي المتنامي هناك.
روسيا
أصبحت روسيا من أبرز اللاعبين الأساسين في الساحة الليبية لصالح قوات حفتر، كما هو الحال في سوريا، تدعم روسيا قوات حفتر على عكس تركيا التي تدعم حكومة الوفاق الليبية بقيادة فايز السراج، والمعترف بها من الأمم المتحدة، لذلك أصبحت روسيا إحدى الدول المُعيقة لتحقيق أنقرة لمصالحها في المنطقة كما هو الحال في سوريا، وتفعل روسيا في الصراع بين اليونان وتركيا بشكل متوازن، فمن جهة تدعم اليونان من خلال تفعيل منظومة إس 300 في جزيرة كريت، والدخول في حركة تفاوض وحوار مع تركيا من جهةٍ أخرى.
لكن الأرجح هو استنساخ الطرفين للنموذج السوري بما يشمل حركة تفاهمات وتقارب يحقق لروسيا أهدفها التي تكمن في استئناف عمليات التنقيب عن الغاز قبالة السواحل السورية واللبنانية، وصولًا إلى استخدام موانئ البحر المتوسط كالموانئ الليبية في طبرق ودرنة ومدينة سرت الليبية التي تعتبرها روسيا “خطًا أحمر، باعتبارها البوابة الغربية لمنطقة “الهلال النفطي”، بهدف تسهيل وصول الطاقة إلى الاتحاد الأوروبي دون أي عقبات، مقابل حفاظ تركيا على نفوذها في الغرب الليبي وحوض المتوسط، مع مشاركة روسيا لإستراتيجية نقل الغاز لدول الاتحاد الأوروبي تحت إدارتها.
يمثل الموقف الحاليّ لجميع الأطراف في شرق البحر المتوسط مأزقًا يضرها جمعيًا، فالصراع بين تكتلات دول الشرق البحر المتوسط، قد يعطل عمليات التنقيب المستقرة في المتوسط حتى تتم حالة توافق قائم على التسوية بين الدول الفاعلة.
في الوقت ذاته فإن التصعيد الأخير بين تركيا واليونان لا يُحدد وحده مصير المتوسط باعتبارهما دولًا إقليميةً لا تستطيع فرض معادلات نهائية، وفي هذا الحال ستذهب تركيا إلى زيادة التقارب مع روسيا في المنطقة، فلا يمكن استبعاد دولة كبيرة كتركيا من الصراع على الغاز في المنطقة، وفي نفس الوقت لا يمكن لتركيا فرض حل نهائي على دول الشرق الأوسط، دون التوصل إلى حل نهائي يرضي جميع الأطراف المتصارعة.