7.8 مليار إنسان يعيشون اليوم حالة ترقب بانتظار إعلان إحدى المؤسسات البحثية توصلها للقاح يوقف بطش فيروس كورونا ويعيد الحياة إلى ما كانت عليه قبل الجائحة.
تعج منصات التواصل الاجتماعي والعناوين الإخبارية في الصحافة والمحطات بأخبار اللقاح المرتقب، ثم تلى ذلك الجدل المُثار عن الشركات الدوائية الكبرى المصنعة للقاح وعن الثروة التي ستجنيها حال تم تصنيع اللقاح، والجدل الأخلاقي بشأن ضرورة توفير اللقاح لكل دول العالم دون تمييز، هذا الجدل أعطى الفرصة للناشطين المناهضين لمبدأ التطعيم لدعم معسكرهم.
اليوم نحاول أن نوضح في هذا المقال بعض الحقائق العلمية التي تشرح فكرة التطعيم بصورة عامة، والفائدة التي تعود على الأفراد والمجتمعات من التطعيم، كيف يتم التأكد من جدوى لقاح ما؟ نظرة على الحملات المناهضة للتطعيم، وهل اللقاح يخضع لتلاعب مافيا الدواء؟
فكرة اللقاح ببساطة هي إعطاء عينة من المسبب لمرض انتقالي ما (لكنها عينة معدلة؛ ربما فيروسات مُضعفة أو ميتة أو ربما جزء من البروتين أو سموم الفيروس) ليتسنى لجهاز المناعة التعرف عليها، ما يمكنه من تكوين أجسام مضادة قادرة على حماية الجسم في المستقبل في حال تعرضه للعدوى.
بهذه الفكرة استطاعت البشرية جمعاء أن تحصل على فوائد عظيمة منها صحية ومنها اجتماعية ومنها اقتصادية.
مع انتشار مبدأ التطعيم انخفضت معدلات الإصابة بالأمراض المعدية والوفيات، حيث تشير التقديرات إلى أن اللقاحات تمنع ما يقرب من 6 ملايين حالة وفاة سنويًا وتنقذ اللقاحات نحو 96 مليون إنسان سنويًا من الإعاقة، ولأجل الحصول على مثل هذا المستوى من النتائج لا بد من الوصول إلى مستويات عالية من المناعة السكانية على مستوى العالم أو ما يعرف بمناعة القطيع (عندما يتم تلقيح نسبة عالية من السكان، يتم إيقاف انتقال العامل المسبب للمرض وبالتالي حماية غير الملقحين).
بالإضافة إلى إيقاف انتشار الأمراض، استطاع التطعيم القضاء على بعض الأمراض التي كانت تهدد البشر مثل القضاء بشكل نهائي على الجدري وفيروس الطاعون البقري الذي يصيب الماشية وكان يسبب المجاعات بسبب خسارة المواشي.
ومن الفوائد الصحية الأخرى للقاح منعه لعدد من الأمراض المسببة للسرطان مثل التهاب الكبد الفيروسي نوع B الذي قد يؤدي إلى تليف الكبد وسرطان الخلايا الكبدية، فلقاح الكبد الفيروسي استطاع حماية 70-90% من الأطفال المولودين لأمهات مصابات بالتهاب الكبد الفيروسي.
مثال آخر على قدرة اللقاح على الحماية من السرطان هو لقاح فيروس الورم الحليمي البشري الذي يقي النساء من خطر سرطان عنق الرحم الذي يعتبر رابع أكثر أنواع السرطانات شيوعًا على مستوى العالم.
بالإضافة إلى الفوائد الصحية هناك فوائد اقتصادية تعود على الدول مثل توفير التكاليف (في حال امتناع الناس عن اللقاح تكون كلفة إنفاق الدولة على علاج الأمراض الانتقالية ومضاعفاتها باهظة جدًا) وفوائد اجتماعية تعود على الأسر بالحفاظ على أطفالها أصحاء بعيدًا عن الإعاقة أو الأمراض.
تاريخ نشأة اللقاح
يمكن اعتبار اكتشاف اللقاح أحد أعظم الإنجازات التي حدثت في تاريخ البشرية، ورغم شهرة البريطاني إدوارد جينر الذي يعتبره الغرب مؤسس علم التطعيمات، فإن النصوص التاريخية تفيد أن البشرية عرفت التطعيم منذ سنين كثيرة سبقت ذلك، منهم من يرجِح أن التطعيم يعود إلى الحضارة الصينية، فقد عرف الصينيون لقاح الجدري منذ القرن العاشر الميلادي وهناك رواية أخرى تُعيد أصول اللقاح إلى الحضارة الهندية.
عرف العثمانيون التطعيم وكان الناس محصنين ضد الجدري بفضل التطعيم وهو ما وثقته زوجة السفير الإنجليزي الليدي ماري مونتاكو خلال إقامتها في القسطنطينية مطلع القرن الثامن عشر، ماري التي أصيبت بالجدري في بلادها وسلبها المرض جمالها بالندب التي تركت آثارها على بشرتها جعلها تبحث عن السبب وراء انعدام الندب وصفاء بشرة سكان القسطنطينية المحليين، وكتبت في إحدى رسائلها ملاحظتها عن التطعيم الذي يتحصنون به من الجدري، ما جعلها تعطي ابنها ذي الأعوام الثلاث لقاحًا للجدري ونقلت هذه التجربة إلى إنجلترا عند عودتها.
بعد المعارضة الشديدة التي لاقتها الليدي ماري من الأوساط الطبية والدينية في إنجلترا التي رفضت فكرة التطعيم ضد الجدري، استطاع الطبيب الإنجليزي إدوارد جينر بعد عدة عقود وتحديدًا عام 1796 بإعطاء أول جرعة من لقاح الجدري لتعترف الجمعية الفيزيائية في لندن عام 1802 بفاعلية لقاح جينر، ثم تُرجمت تجربة جينر إلى ست لغات، وتم إعطاء أكثر من 100.000 جرعة من لقاح الجدري آنذاك.
تلى إدوارد جينر، الأبحاث التي أجراها لويس باستور عن لقاح الكوليرا ولقاح الجمرة الخبيثة نهايات القرن التاسع عشر.
مطلع القرن العشرين تسارع العلماء في تطوير اللقاحات وتم تطوير لقاح الطاعون ولقاح الـBCG المستخدم إلى يومنا هذا.
أما موريس هيلمان فيعود له الفضل في تطوير العديد من اللقاحات الناجحة مثل لقاحات ضد الحصبة والنكاف والتهاب الكبد أ والتهاب الكبد ب والجدري المائي والتهاب السحايا والالتهاب الرئوي والإنفلونزا.
تلى ذلك تطوير طرق إنتاج اللقاحات، ما أدى إلى ظهور لقاح شلل الأطفال المعطل والموهن الحي الفموي منتصف القرن العشرين الذي قضى على شلل الأطفال في مناطق عديدة حول العالم.
شهدت نهاية القرن العشرين ثورة في البيولوجيا الجزيئية وتسلسل الجينوم وتطوير لقاحات مثل لقاحات الإنفلونزا الحية والمعطلة ولقاح فيروس الورم الحليمي البشري (HPV) وغيرها من اللقاحات التي طُورت.
الحركات المناهضة للقاح
رغم أن جذور هذه الحركات تعود إلى القرن الثامن عشر مع بدايات ظهور اللقاح عندما لاقى الرفض من الأوساط الكنسية باعتباره من “عمل الشيطان”، فإن النشاط الأكبر لهذه الحركات جاء بعد ورقة ويكفيلد.
في عام 1998 نشر أندرو ويكفيلد اختصاصي أمراض الجهاز الهضمي الإنجليزي دراسة مثيرة للجدل تدعي وجود علاقة بين لقاح MMR الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية والتوحد.
هذه الدراسة رغم نشرها في البداية بمجلة The Lancet، تم سحبها لاحقًا عام 2010 والتأكد من كونها زائفة بعد إجراء دراسات موسعة للتأكد من سلامة اللقاح، حيث أجريت دراسة شملت 600000 طفل أثبتت زيف ادعاءات ويكفيلد، لكن لا تزال ورقة ويكفيلد سيئة السمعة تؤثر على قرار الأهالي بتطعيم أطفالهم.
وبذلك ظهر في العقدين الأخيرين مصطلحات مثل رفض اللقاح vaccine refusal والتردد في أخذ اللقاح vaccine hesitancy، فهذه المصطلحات نشأت بعد انتشار الرفض أو التردد بين العوائل فيما يخص إعطاء اللقاح للأطفال لأسباب مختلفة منها:
– أسباب دينية.
– اعتقادات شخصية.
– قلق بشأن جدوى وفاعلية اللقاح.
– عدم كفاية وتوافر المعلومات عن اللقاح أو آثاره الجانبية.
تعود أغلب أسباب رفض اللقاح إما لأسباب الدينية (من حيث رفضه لاحتوائه على بقايا من أنسجة الأجنة أو المواد المشتقة من الحيوانات) أو قناعات شخصية (مثل اعتماد المناعة الطبيعية أو الاعتقاد بأن الأمراض التي يؤخذ من أجلها التطعيم ليست منتشرة وأن أطفالهم ليسوا معرضين لخطرها، أو بعض الآباء الذين يرفضون إعطاء أطفالهم أي مواد مصنعة).
هذه الأسباب الدينية والقناعات الخاصة تجعل النقاش أو محاولة تغيير رأي هؤلاء الآباء شبه مستحيلة، لكن القسم الآخر من الأهالي المترددين في إعطاء أطفالهم القاح تعود أسبابها في الغالب إلى معلومات خاطئة تلقوها من مصادر غير طبية، ما يجعلهم متخوفين من اللقاح أو ربما يحتاجون لتلقي معلومات صحيحة وموثوقة من مقدمي الرعاية الصحية لتخطي هذا التردد.
هذه الحركات المناهضة للتطعيم التي تلاقي دعمًا إعلاميًا أدت الى انخفاض مستوى التطعيم في العديد من البلدان بسبب المخاوف التي تولدت لدى الأهالي، مما أدى إلى تفشي عدد من الأمراض الانتقالية في عدد من الدول مثل تفشي الحصبة في أمريكا والفلبين وأوكرانيا وفنزويلا والبرازيل وإيطاليا وفرنسا وسويسرا واليابان وإعلان حالة الطوارئ في قسم من هذه البلدان.
مراحل تطوير واختبار اللقاح
عملية تطوير اللقاح هي رحلة طويلة وليست سهلة، فقد يحتاج اللقاح إلى عقد كامل أو عقدين ربما ليخرج من المختبرات والشركات المصنعة بعد سلسلة من الأبحاث واختبارات للفاعلية ومراقبة للآثار الجانبية المحتملة لتوافق عليه الهيئات المرخِصة ومن بعدها يمكن تداوله بين الناس.
يُثار الجدل كثيرًا بشأن الصفقات والأرباح المهولة للشركات الدوائية الكبرى المصنعة للقاح، وعن الأيدي الخفية لهذه الشركات واحتمالية تلاعبها بالتوصيات
بحسب الـCDC (مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها) فإن اللقاح يحتاج إلى الخطوات التالية ليُستخدم بأمان:
1- المرحلة الاستكشافية Exploratory stage
تبدأ هذه المرحلة بالأبحاث التي يجريها العلماء داخل المراكز البحثية المتخصصة لتحديد آلية عمل اللقاح المراد التوصل إليه، هذه العملية تستغرق سنتين إلى أربع سنوات عادة.
2- المرحلة ما قبل السريرية Pre-clinical stage
هذه المرحلة تستغرق عام إلى عامين، حيث يبدأ الباحثون اختباراتهم على الحيوانات لاختبار قدرة اللقاح على إثارة الاستجابة المناعية ومدى سلامته، هذه المرحلة تعطي الباحثين فكرة عن الاستجابة المتوقع حدوثها لدى البشر، وعلى ضوء تلك النتائج يمكن البدء بإعداد جرعة للبشر.
3- التطوير السريري Clinical development
يتم في هذه المرحلة نقل اللقاح من حيز الأبحاث إلى التطبيق المباشر على البشر وهذه المرحلة تشمل ثلاث مراحل ثانوية:
– أولها Phase I تبدأ بتلقي مجموعات صغيرة (تتراوح عادة بين 20-80 شخصًا) من الناس، فاللقاح التجريبي الهدف منه تقييم سلامة اللقاح المرشح وتحديد نوع ومدى الاستجابة المناعية التي يثيرها وعلى ضوء نتائج هذه المرحلة يستطيع الباحثون الانتقال إلى الخطوة التالية، هذه المرحلة تحتاج سنة إلى سنتين، لكن في حالات الأوبئة يمكن أن يختزل الباحثون هذه المرحلة لبضعة شهور.
– ثانيها Phase II مرحلة توسيع المجموعة البشرية بإدراج أشخاص بصفات معينة (كالاشخاص المصابين بأمراض مزمنة أو فئات عمرية خاصة) وتتمثل أهداف المرحلة الثانية في دراسة سلامة اللقاح المرشح والجرعات المقترحة وطريقة إعطائه.(تحتاج هذه المرحلة سنتين إلى ثلاث سنوات).
– ثالثها Phase III مرحلة توسيع العينة، بإعطاء اللقاح بشكل عشوائي لآلاف الأشخاص، هدف هذه المرحلة اختبار سلامة اللقاح، فالآثار الجانبية المحتملة قد لا تظهر في المجاميع الصغيرة، لكن عند توسيع المجموعة إلى عشرات الآلاف احتمالية ظهور الآثار الجانبية للقاح تكون أكبر، وتعتبر هي المرحلة الأطول في تطوير اللقاح، حيث تحتاج في الحالات الاعتيادية ما لا يقل عن خمس سنوات.
4- الترخيص والمراقبة Regulatory review and approval
إذا كانت التجارب السريرية التي أجريت على البشر ناجحة، يتقدم مطورو اللقاح بطلب ترخيص إلى إدارة الغذاء والدواء الأمريكية FDA التي تفحص المصنع الذي سيُصنع فيه اللقاح وتتابع بعد الترخيص مراقبة الإنتاج من حيث الفعالية والسلامة والنقاء، غالبًا ما يستغرق ترخيص اللقاح سنتين.
5- التصنيع Manufacturing
بعد عملية الترخيص، تبدأ الشركات المصنعة في إعداد ملايين أو ربما بلايين الجرع من اللقاح، ليتم طرحها للاستخدام.
6- السيطرة النوعية Quality control
بهدف الحفاظ على أمن اللقاح واكتشاف الآثار الجانبية الضارة والنادرة، أنشأ مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها الـCDC وإدارة الغذاء والدواء الـFDA نظام الإبلاغ عن الآثار الضارة للقاح عام 1990 أطلق عليه VAERS Vaccine Adverse Events Reporting System وهو نظام إبلاغ طوعي يمكن لأي شخص (مثل أحد الوالدين أو مقدم الرعاية الصحية) الذي يشتبه في وجود ارتباط بين التطعيم والحدث الضار الإبلاغ عن هذا الحدث والمعلومات المتعلقة به ليتيح البحث والتحقق عن حقيقة ارتباط هذا الضرر باللقاح وما يترتب على ذلك من تبعات، من خلال الـVAERS تم تحديد العديد من الآثار الجانبية النادرة المتعلقة بالتطعيم على سبيل المثال مشكلة معوية يسببها لقاح فيروس الروتا في أول ظهوره عام 1999.
صراع الشركات المصنعة للقاح
يُثار الجدل كثيرًا بشأن الصفقات والأرباح المهولة للشركات الدوائية الكبرى المصنعة للقاح، وعن الأيدي الخفية لهذه الشركات واحتمالية تلاعبها بالتوصيات المتعلقة بإلزام تطعيم الأطفال قبل دخول المدارس والكلام عن تمويلها للمؤسسات البحثية ما يثير القلق والشكوك عن مصداقية النتائج المتأتية من هذه المراكز.
هذا الجدل المحتدم بالأخص بعد السباق الذي تخوضه كبرى الشركات اليوم للوصول إلى لقاح لفيروس كورونا، ما يطرح التساؤل عن الأرقام الفلكية التي ستحصل عليها الشركات في حال أنتجت مثل هذا اللقاح، رغم ادعاء بعض الشركات التي تتسابق لإنتاج اللقاح أنها لا تسعى إلى أرباح ضخمة مثل شركة Pfizer التي توصلت إلى اتفاق مع الحكومة الفيدرالية في حال ترخيص اللقاح من الـFDA فإنها ستوفر 100 مليون جرعة من اللقاح مقابل 1.95 مليار دولار، كما سيكون للحكومة الحق في الحصول على 500 مليون جرعة إضافية، تبعتها بذلك شركات أخرى مثل J&J وAstraZeneca وMerck الذين أعلنوا أنهم سيوفرون اللقاح بكلفة مقاربة من كلفة شركة Pfizer.
هذا الصراع المحتدم بين الشركات ربما له جانب إيجابي، لأن الشركات ربما تضطر لتقليل سعر اللقاح ما يعود بالفائدة على المستهلك.
حقائق وأرقام
– تسيطر خمس شركات على أكثر من 80% من إنتاج اللقاح وهي: سانوفي باستور وجلاكسو سميثكلاين وميرك وفايزر ونوفارتيس.
– نما سوق اللقاحات ستة أضعاف خلال العقدين الماضيين، بقيمة تزيد على 50 مليار دولار. صورة
– وفقًا لمنظمة الصحة العالمية فإن اللقاحات تمنع 2 إلى 3 ملايين حالة وفاة ناتجة عن أمراض مختلفة وغيرها.
– بحسب الـCDC معدل سعر جرعة اللقاح الواحدة 60$ ويتضاعف هذا الرقم في القطاعات الخاصة.
ويبقى التحدي الكبير الواقع على عاتق الأهالي في البحث عن جواب السؤال الأهم: من له الحق في اتخاذ قرار اللقاح، الأهل أم المؤسسة الصحية أم المشرعين في البلاد أم الشركات المصنعة للقاح؟