عندما تم اختراع أول جهاز تحكم عن بعد بالتلفاز على الهيئة التي نعرفها “Remote control” عام 1973، ظن البعض أن هذا الابتكار آخر ما ستتوصل إليه التكنولوجيا ومنتهاها، لكن لم يعرف ذلك الجيل أن بعد عقود سنتحكم بالأجهزة من خلال الصوت أو الإشارة، أو نتحدث مع آلة فتجيبنا عن تساؤلاتنا وتقدم لنا اقتراحات أخرى كما يحصل اليوم مع المساعدين الصوتيين.
ولو تكلم البعض في تلك الحقبة أنه بعد 50 عامًا سيتحكم الناس بأجهزة التلفاز وتمرير القنوات أو تشغيل إنارة المنزل وإطفائها عبر أفكارٍ تمر في مخيلتهم لاتهموهم بالجنون.
قد يتساءل البعض، وهل ذلك حدث؟ الجواب، نعم، فكل التجارب التي تجريها كبرى الشركات مثل شركة “Neuralink” وشركة “Facebook” تخبرنا أننا ذاهبون إلى ذلك الاتجاه.
يفصلنا عن أكبر حدثٍ في هذا العقد أيام قلائل قبل أن يثبت الملياردير الأمريكي وصاحب شركتي “سبيس إكس” و “تسلا” إيلون موسك صحة مزاعمه بربط الدماغ البشري بالحاسوب.
الحاسوب بين الخيال والطموح
أعرب إيلون موسك مرارًا عن اعتقاده بأن تطوير الذكاء الاصطناعي القوي يشكل أحد أكبر التهديدات الوجودية للبشرية، وحذر من أنه في غضون العقود القليلة المقبلة يمكن أن تتخلف البشرية كثيرًا عن الذكاء الاصطناعي لدرجة أن الآلات ستنظر إلى البشر بنفس الطريقة التي ينظر بها البشر حاليًّا إلى الحيوانات الأليفة المنزلية.
وأعلن الملياردير الأمريكي عام 2016 سعيه لربط البشر بالحواسيب عبر رقاقات تزرع داخل الدماغ، وأسس لذلك شركته “Neuralink” وبدأ العمل على ما أسماه “واجهة الدماغ – الكومبيوتر” (BRAIN COMPUTER INTERFACE) أو ما يعرف اختصارًا بـ(BCI).
في بادئ الأمر ظن البعض أن مشروعه ذلك يعد ضربًا من الخيال، وتوالت الأيام وفي كل مرحلة يعلن موسك عبر حسابه في تويتر أنه اقترب خطوة من تحقيق الهدف وراء مشروعه، وفي شهر يوليو الماضي حدد موسك يوم 28 من أغسطس الحاليّ موعدًا لإجراء أول تجربة لربط الإنسان بالحواسيب.
لكن بحسب تسريبات من مجموعة من الموظفين العاملين في الشركة، فإن التجارب ستفشل، وذلك بسبب أن موسك ضغط على الشركة بشكل كبير من ناحية المواعيد، وهو ما لم يتم إنجازه بحسب زعمهم، وأن العاملين بالشركة اضطروا لترك العمل، والشركة حاليًّا لم يتبق فيها سوى إثنين من العلماء من أصل ثمانية كانوا من المؤسسين.
كيف تعمل واجهات الدماغ – الكمبيوتر؟
ما يعلمه معظم الناس عن هذه الواجهات هو اسمها فقط، وهي ربط الدماغ البشري بالحاسوب، لكن الأمر ليس بهذه البساطة، إذ تمر تلك العملية بمراحل متعددة، وهي باختصار:
- اكتشاف الإشارة: يقصد بها استخدام أحد الأجهزة المخصصة لقياس نشاط كهربية الدماغ لتسجيل نشاط معين للدماغ.
- معالجة الإشارة: وهي رفع الضوضاء الحاصلة في الإشارة لأنه يحصل تداخل في إشارات بعض الأجزاء، على سبيل المثال قد تؤدي حركة العين وبلع الريق وأي فعل آخر إلى إنتاج إشارات تسبب مقدارًا من الضوضاء.
- تحويل الإشارة: وهي تضخيم الإشارات إلى قدر معين تستطيع الأجهزة التعامل معها.
- المرحلة الأخيرة: وهي مرحلة الترميز، ويقصد بها ترميز الإشارة وتحويلها إلى نبضات أو أرقام يستطيع الحاسوب فهمها.
سيتم توصيل الشريحة مع الدماغ من خلال زرع شريحة باستخدام طرق جراحة الأعصاب التقليدية، ولكن من سيقوم بها روبوت مصمم لهذه العملية.
وكما ورد في ورقة “Neuralink” المنشورة على موقع الشركة: “لقد صنعنا روبوتًا للجراحة العصبية قادرًا على زرع (192 قطب كهربائي) في الدقيقة، يمكن إدخال كل قطب على حدة في الدماغ بدقة متناهية لتجنب إصابة الأوعية الدموية السطحية وسيتم استهداف مناطق معينة من الدماغ”.
ما الاستخدامات المتوقعة لهذه الواجهات؟
من خلال تصريحات موسك عبر تغريداته أو ما أعلنته شركة فيسبوك من خلال أبحاثهم في هذا الخصوص، متوقع أن يكون هنالك العديد من الاستخدامات، وإن كان حتى الآن ما تم تحقيقه أمر يستحق الإشادة والتفاؤل بما تحمله قادم الأبحاث.
على سبيل المثال لا الحصر، يمكن من خلال ربط السيارات بواجهات “BCI” مع السائق منع حوادث السير، خاصة إذا علمنا أن حوادث السيارات من أكثر أسباب الوفاة في العالم.
ومؤخرًا كشفت شركة نيسان أنها تجري بحثًا بشأن تطوير نظام التحكم في السيارة الذي يدعم تقنية “BCI” وسيسمح بإبطاء السيارة أو تدوير عجلة القيادة أسرع من السائق نفسه، كما أن شركة فيسبوك طورت تقنية تتيح تحويل الأفكار إلى جمل، واستطاعوا أن يكتبوا 100 كلمة في الدقيقة من خلال قراءة الأفكار.
كما استهدفت أبحاث “BCI” إصلاح البصر التالف، إذ يتم زرع أقطاب مباشرة في المادة الرمادية للدماغ عبر عملية جراحية، تترجم الإشارات الملتقطة عبر عدسة صغيرة إلى صور يفهمها الدماغ.
أيضًا من ضمن الاستخدامات التي أعلنها موسك عن الأطراف الاصطناعية الحركية هي استعادة الحركة لدى الأفراد المصابين بالشلل أو توفير أجهزة لمساعدتهم على الحركة من خلال الأفكار.
يمكن أن تساعد “BCI” الأشخاص المصابين بمرض الصرع والاكتئاب عن طريق إرسال نبضات كهربائية على الفور إلى المناطق المسؤولة عن أعراضهم المحددة.
مخاوف من اختراق الواجهات
تتم معالجة مجموعة كبيرة من إشارات الدماغ التي تُلتقط بواسطة أجهزة تسجيل نشاط الدماغ “ًEEG” بواسطة نظام ذكاء اصطناعي (AI) قبل أن تصل إلى الأطراف الصناعية المزمع توصيلها مع الجسم البشري.
وهنا تظهر المخاوف من إساءة استخدام تلك البيانات أو تصميم خوارزميات تعود بنتائج خاطئة، فعلى سبيل المثال قد تُفسر بعض الإشارات بشكل خاطئ يؤدي بالنهاية إلى نتائج خاطئة.
وفيما يتعلق بخصوصية البيانات والأمن السيبراني، يمكن لأجهزة “EEG” أيضًا مراقبة ردود الفعل العاطفية والمعرفية للمريض بناءً على علامات محددة، وتسمح هذه المقاييس لمشغل مخطط كهربية الدماغ بالحصول على مشاعر المريض تجاه الموضوعات الحساسة أو الأفكار المتعلقة به مثل النشاط الجنسي أو الميول السياسية وعلاقاته الشخصية، فإنهم يمنحون مشغلي “EEG” وسيلة لاكتساب نظرة عميقة على تفضيلات المريض.
كما لا يدرك المرضى أن خوارزميات التنبؤ يمكنها الحصول على هذه المعلومات، وبإمكان بعض الشركات التي تجمع هذه البيانات الحساسة أن تبيعها لطرف ثالث دون موافقة المرضى.
هل عقولنا صارت عرضة للاختراق؟
صدر تقرير مؤخرًا يحذر من أن هذه الرقائق يمكن اختراقها، وهو ما يسمح للصوص بسرقة الأفكار والذكريات، ففي حديث مع شبكة “Zdnet”، قال الخبراء: “المجرمون الرقميون يمكنهم الوصول إلى واجهات الدماغ والكمبيوتر لمحو مهاراتك وقراءة الأفكار أو الذكريات، وهو خرق أسوأ من أي نظام اختراق آخر”.
ولجعل هذه التكنولوجيا آمنة تحتاج الأنظمة إلى ضمان عدم تمكن أي شخص غير مصرح له من تعديل وظائفها، وذلك يعني استخدام بروتوكولات أمان مماثلة لتلك الموجودة في الهواتف الذكية مثل برامج مكافحة الفيروسات.
يحدد التقرير عددًا من الهجمات التي يمكن تنفيذها إذا سقطت رقائق الدماغ في الأيدي الخطأ
وقال جو بست من شبكة “Zdnet”: “يمكن أن تفتح الشريحة نافذة للمتسللين لغزو أفكار أو ذكريات المسؤولين السياسيين والعسكريين وغيرهم من اللصوص الذين يحاولون تنفيذ هجماتهم الرقمية الخاصة، وسرقة هذا النوع من البيانات ستتجاوز أي شيء رأيناه من قبل”.
وقال الدكتور ساسيثاران بالاسوبرامانيام، مدير الأبحاث في مجموعة برمجيات وأنظمة الاتصالات (TSSG) بمعهد ووترفورد للتكنولوجيا، لـ”Zdnet”: “ما نوع الضرر الذي سيلحقه الهجوم بالدماغ، هل سيمحو ذكرياتك أو يعطل مهاراتك؟”، وأضاف: “ما العواقب؟ هل ستأتي في شكل معلومات جديدة فقط توضع في الدماغ أم ستنخفض إلى مستوى الخلايا العصبية المدمرة التي تؤدي بعد ذلك إلى عملية إعادة توصيل داخل الدماغ التي بدورها تعطل تفكيرك؟”.
ويحدد التقرير عددًا من الهجمات التي يمكن تنفيذها إذا سقطت رقائق الدماغ في الأيدي الخطأ، إذ يمكن للقراصنة اعتراض البيانات التي تنتقل من “BCI” إلى الدماغ، مما يسمح لهم بجمع البيانات الحساسة مثل تسجيلات الدخول لرسائل البريد الإلكتروني والأنظمة الأخرى.
الأساليب الحاليّة لشن الهجمات العدائية لها حدان رئيسيان، الأول: تتطلب بعض عينات “EEG” الخاصة بالموضوع لإنشاء نموذج الاضطراب العدائي، والثاني: لأداء الهجوم بشكل أكثر فعالية يحتاج المهاجم إلى معرفة التوقيت الدقيق لتحفيز مخطط كهربائية الدماغ، إذا نجح المهاجم في التغلب على هذه القيود، فقد يكون تأثير هجومه أكبر بكثير.
يمكن استغلال هذه الثغرة الأمنية من الأفراد السيئين الذين يبيعون البيانات الشخصية، وبالإمكان إعطائه أوامر بالانتحار وغيرها من الجرائم، إذ يحاول المهاجمون دائمًا ابتكار طرق جديدة للتحايل على الإجراءات الأمنية، لذلك من المهم للباحثين مواصلة التحقيق في نقاط ضعف النظام والتوصل إلى إجراءات أمنية جديدة.