سعت إيران منذ عام 2003، إلى فرض الوصايا الكاملة على العراق وقطع الطريق أمام أي محاولة عربية لإعادة العراق للعمق العربي مرة أخرى، وعلى هذا الأساس ذهبت الإستراتيجية الإيرانية في العراق نحو التدخل في كل مجريات السياسة الداخلية والخارجية، وربطت العراق باتفاقيات ثنائية سيطرت من خلالها على قطاعات الطاقة والاقتصاد والتجارة، إلى جانب استغلال الجغرافيا العراقية للوصول إلى البحر الأبيض المتوسط عبر سوريا ولبنان.
هذا التوجه الإستراتيجي الإيراني منح إيران حرية الحركة في العراق، ومما سهل لإيران هذه المهمة، تكتل كبير من الأحزاب السياسية والجماعات المسلحة العراقية، المرتبطة بصورة وأخرى بدوائر صنع القرار الأمني والسياسي في إيران، التي سخرت أدوارها وهيمنتها على مؤسسات الدولة في العراق، الجغرافيا العراقية في خدمة الإستراتيجية الإيرانية حيال دول الجوار الإقليمي، وتحديدًا الأردن والمملكة العربية السعودية وسوريا، وبالشكل الذي جعل العراق بمثابة جسر إقليمي استطاعت عن طريقه إيران، ممارسة أدوار إقليمية ضاغطة ومؤثرة.
وفي هذا الإطار أيضًا، أدى الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، وصعود الإسلام السياسي الشيعي هناك، إلى تصاعد المخاوف السياسية لدى الحكومات العربية، إذ انتقد الملك الأردني عبد الله الثاني الصعود السياسي والعسكري الشيعي في المنطقة العربية، واستخدم مصطلح “الهلال الشيعي” في ديسمبر 2004، للتعبير عن حالة رد الفعل العربية على الدور السياسي الإيراني.
فالجغرافيا السياسية الشيعية أصبحت قضية حقيقية في السياق الجغرافي للعالم العربي، وأصبحت أكثر بروزًا في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي، التي أفرزت حزامًا جغرافيًا شيعيًا يمتد من جنوب غرب آسيا حتى شمال إفريقيا، وعملت إيران على تحويل هذا الحزام الجغرافي لخريطة سياسية تخدم نفوذها السياسي والإستراتيجي في الشرق الأوسط، عبر استهداف المجتمعات الشيعية التي بدأت تستشعر وجودها السياسي والعسكري، وتحقيق هدف الثورة في إيران بتشكيل إمبراطورية إيرانية.
إثر تصاعد المخاوف من قوة الهلال الشيعي الذي تقوده إيران في الشرق الأوسط، برز مفهوم هلال الأزمات في يناير 2006
إن المخاوف من تشكيل الهلال الشيعي في منطقة الشرق الأوسط – إيران والعراق وجنوب لبنان من جهة، وصعود الحركات الثورية الشيعية في اليمن والبحرين من جهة أخرى -، دفعت الولايات المتحدة والقوى الكبرى للتعاطي السياسي مع هذه التطورات السياسية الشيعية في الشرق الأوسط، وفي الوقت نفسه، فإن حكم الأقلية العلوية في سوريا، وعدد من الشيعة في المملكة العربية السعودية المقيمين في المناطق الغنية بالنفط، قد أثروا على التطورات الجيوسياسية من الخليج العربي إلى البحر الأبيض المتوسط.
العراق ومخاوف فك الارتباط بإيران
إثر تصاعد المخاوف من قوة الهلال الشيعي الذي تقوده إيران في الشرق الأوسط، برز مفهوم “هلال الأزمات” في يناير 2006، الذي تبناه كل من إيفو دالدر وفيليب غوردن ونيكول نيسوتو، في كتاب بعنوان: هلال الأزمات (الإستراتيجية الأمريكية والأوروبية حيال الشرق الأوسط الكبير)، الذين أشاروا فيه إلى أن هناك منطقة خطر داهم تمتد من باكستان وأفغانستان، وتمر عبر إيران والعراق وسوريا ولبنان وصولًا إلى منطقة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وتتراوح المسائل المطروحة فيها بين الإرهاب والانتشار النووي، وبين الأصولية والافتقار إلى الديمقراطية.
وعلى هذا الأساس وجدت الإدارة الأمريكية بأن محور شيعي من إيران والعراق وسوريا وحزب الله اللبناني، سيغير ميزان القوى التقليدي في الشرق الأوسط، وسيعرض المصالح الإستراتيجية الأمريكية للخطر بناءً على الرؤية المعادية للغرب التي تحملها إيديولوجيا الثورة في إيران.
لهذا ليس من قبيل الصدفة أن يتم الحديث عن مشروع الشام الجديدة، في أثناء زيارة رئيس الوزراء العراقي السيد مصطفى الكاظمي لواشنطن الأسبوع الماضي، وهو مشروع قائم على تشابك اقتصادي إقليمي، وتنقل حر لرأس المال والتكنولوجيا والبضائع، ويؤسس لبناء سياسي مؤثر شبيه بالاتحاد الأوروبي فيما لو توافرت له فرص النجاح.
تنظر إيران بخشية كبيرة إلى أن نجاح هذا المشروع، سيؤدي إلى سحب إحدى ركائز مشروعها الإستراتيجي في الشرق الأوسط – العراق -، وهو ما يؤدي إلى فجوة كبيرة في إستراتيجيتها الإقليمية، قد تنعكس سلبًا على أدوارها في سوريا ولبنان، خصوصًا أن مشروع الشام الجديدة يستهدف هذه الدول بالنهاية.
إذ ينظر السيد الكاظمي إلى أن النجاح في تحقيق هذا الهدف الجيوسياسي للعراق، سيساهم في تحقيق مزايا جغرافية عديدة منها:
- توظيف العمق الإستراتيجي العراقي في خدمة القرار السياسي الخارجي.
- إعادة صياغة الصورة النمطية المأخوذة عن العراق خلال الفترة الماضية، وأنه يمكن أن يشكل عنصرًا في الاستقرار والأمن، وليس مركزًا للعنف والفوضى.
- تحويل العراق إلى مركز لتشابك المصالح والسياسات الإقليمية، وبالشكل الذي يعود بالنفع على الاقتصاد والمواطن العراقي.
- انتشال العراق من سياسة المحاور الإقليمية وامتلاك أوراق ضغط مؤثرة في السياسة الخارجية، وتحديدًا حيال دول مؤثرة في الداخل العراقي، كتركيا وإيران.
- إعادة تشخيص الدور العراقي في الساحة السورية، وأنه من الممكن أن يلعب دورًا في دعم الأمن والاستقرار في سوريا، وليس في نقل السلاح والمقاتلين، وهو ما أفادته زيارة رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض لسوريا يوم 26 من أغسطس 2020، حاملًا رسالة من السيد الكاظمي إلى رئيس النظام السوري بشار الأسد.
لهذه الأسباب جميعها، تشير وجهة النظر الإيرانية إلى أن نجاح مساعي السيد الكاظمي في إنجاح مهمة العراق في هذا المسعى، قد يحول العراق إلى قوة إقليمية وازنة في إقليم مضطرب سياسيًا وأمنيًا، وما يزيد من الخشية الإيرانية في هذا الإطار، هو الشارع العراقي الذي بدا رافضًا اليوم لأي شكل من أشكال الهيمنة الإيرانية على العراق، ومتفاعلًا مع أي جهد حكومي لإعادة العراق إلى وضعه الطبيعي عربيًا وإقليميًا.
التداعيات على الدور الإيراني
شكل طموح الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، الغاية الإستراتيجية العليا لإيران، من أدوارها في العراق وسوريا، ولهذا فإن إنجاح مشروع الشام الجديدة، قد تكون له تداعيات إستراتيجية كبيرة على هذا المسعى الإستراتيجي، خصوصًا أن إيران تضغط اليوم كثيرًا على الجانب العراقي، من أجل إكمال مشروع السكة الحديدية التي تربط ميناء الإمام الخميني الواقع على الجانب الإيراني من مياه الخليج العربي، مع ميناء اللاذقية السوري في البحر الأبيض المتوسط، وذلك عبر ربط مدينتي شلامجة الإيرانية والبصرة العراقية بطول 32 كيلومترًا، بما يحقق في النهاية ربط الحدود الإيرانية بالعراقية والسورية، عبر علاقات تجارية واقتصادية وأمنية.
إيران تنظر للعراق كركيزة حيوية في إستراتيجيتها الإقليمية، ولن تسمح بضياع هذه الركيزة تحت أي ظرف سياسي
وتطمح إيران أن يشمل الربط السككي بينها وبين العراق، مدن حلب والموصل، وأن يشكل انطلاقة كبيرة نحو دول شمال إفريقيا وأوروبا، فضلًا عن كونه ممرًا مؤمنًا تنقل من خلاله الأسلحة لحزب الله اللبناني وطريقًا تجاريًا بعيدًا عن المضايقات الأمريكية في مياه الخليج العربي، ويلعب دورًا مهمًا في ترسيخ نفوذها في العراق وسوريا، بعيدًا عن أي استحقاقات مستقبلية تجري هناك، حسب ما تقتضيه إستراتيجيات القوى الدولية، إلى جانب سهولة الوصول إلى الأماكن الشيعية المقدسة، وتلك التي أنشأتها في دير الزور والموصل وشمال إفريقيا.
وللضرورات أعلاه، ستسعى إيران إلى إفشال هذا المشروع تحت ذرائع كثيرة، وقد يكون الحراك البرلماني الأخير الذي يقوده هادي العامري زعيم تحالف الفتح ونوري المالكي زعيم دولة القانون، الهادف إلى عرقلة جهود السيد الكاظمي، ليس إلا مقدمة لذلك، فإيران تنظر للعراق كركيزة حيوية في إستراتيجيتها الإقليمية، ولن تسمح بضياع هذه الركيزة تحت أي ظرف سياسي كان، وهو ما قد يعقد جهود السيد الكاظمي في تحقيق المزيد من السيادة العراقية، إلا إذا كان للشارع العراقي كلام آخر.