ترجمة وتحرير: نون بوست
تلقت حكومة المملكة المتحدة الكثير من الشكاوى من العراقيين الذين احتجزوا بشكل غير قانوني وزعموا أنهم تعرضوا لسوء المعاملة من قبل القوات البريطانية، لدرجة أن وزارة الدفاع البريطانية تقول إنها غير قادرة على تحديد المبالغ التي دفعتها لتسوية المطالبات.
وقد صرح مسؤولو وزارة الدفاع في لندن بأنهم “يستطيعون تقديم أرقام تقريبية حول عدد العراقيين الذين قدموا شكاوى ضد القوات البريطانية، التي شاركت في الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في العراق سنة 2003 وما تلاه من احتلال”. لكنهم في المقابل لا يستطيعون الكشف عن المبلغ الذي تم إنفاقه من أموال دافعي الضرائب في المملكة المتحدة لتسوية هذه المطالب، نظرا لأن الأمر سيستغرق أسابيع حتى يقوم موظفو الخدمة المدنية باحتساب مجموع الأرقام.
تدعي الوزارة أنها غير قادرة على الكشف عن المبالغ المدفوعة في وقت يستعد فيه البرلمان لمناقشة قانون مثير للجدل من شأنه أن يقدم عفوًا جزئيًا عن الجنود الذين ارتكبوا جرائم خطيرة، بما في ذلك القتل والتعذيب، أثناء الخدمة العسكرية خارج البلاد.
أثار القانون الجديد المُقترح المعروف باسم “مشروع قانون عمليات ما وراء البحار” قلق جماعات حقوق الإنسان والمعارضين السياسيين والعديد من الجنود السابقين، الذين يخشون أن يتسبب القانون في تخفيف عقوبات جرائم الحرب التي ارتكبتها القوات البريطانية. وخلال هذا الأسبوع، عارض حزب العمال المعارض مشروع القانون بحجة أنه يقوض التزام البلاد بقواعد النظام الدولي.
إلغاء تجريم التعذيب
كتب أكبر جندي متقاعد في البلاد، الجنرال تشارلز غوثري، البالغ من العمر 81 عامًا، في صحيفة “صنداي تايمز” محذرا من أن القانون الجديد المقترح سيوفر مجالًا “لإلغاء تجريم التعذيب بحكم الواقع”. وأضاف غوثري أن “هذه الإجراءات من المحتمل أن تكون هدف أولئك الذين لا يدركون مدى أهمية قواعد الحرب”.
في الحقيقة، يناقض موقف وزارة الدفاع الحالي – الرافض الكشف عن المبالغ المدفوعة للمواطنين العراقيين – الموقف الذي اتخذته في وقت سابق. ففي شهر حزيران/ يونيو 2017، أي قبل وقت طويل من تمرير مشروع قانون عمليات ما وراء البحار، كانت الإدارة على استعداد لتقديم أرقام مفصلة عن عدد المطالبات التي تلقتها والدفعات التي تم سدادها بحلول ذلك الوقت.
منذ سنة 2017، ارتفع إجمالي المدفوعات الموجهة للمحتجزين العراقيين السابقين بشكل كبير
ردا على طلب قُدّم بموجب قانون حرية المعلومات في المملكة المتحدة، كشفت الوزارة أنها دفعت 19.8 مليون جنيه إسترليني (أي ما يعادل 26 مليون دولار) في 326 قضية رُفعت في محاكم المملكة المتحدة. وفي 1145 قضية أخرى، دفع ضباط عسكريون بريطانيون في العراق حوالي 2.1 مليون جنيه إسترليني (أي ما يعادل 2.8 مليون دولار) ما بين 2003 و2009. كما شملت المدفوعات مبلغا بقيمة 2.8 مليون جنيه إسترليني (أي ما يعادل 3.7 مليون دولار) دُفع في إحدى القضايا القليلة التي حظيت بتغطية واسعة في المملكة المتحدة.
في شهر أيلول/ سبتمبر، اعتقل جنود بريطانيون بهاء موسى، الذي كان يعمل موظف استقبال في أحد فنادق البصرة، وعذبوه حتى الموت. وقد صُوّر جزء من الجريمة من قبل جندي. بعد أن مُنحت عائلة موسى في السابق تعويضًا بقيمة ثلاثة آلاف دولار، اضطرت الحكومة البريطانية إلى دفع ملايين الجنيهات بعد أن طلب محامو حقوق الإنسان في المملكة المتحدة من المحاكم إجراء تحقيق عام. وقد استفادت من ذلك عائلة موسى وثمانية رجال آخرين اعتقلوا وعُذبوا في الفترة ذاتها.
آلاف المدفوعات
منذ سنة 2017، ارتفع إجمالي المدفوعات الموجهة للمحتجزين العراقيين السابقين بشكل كبير، وذلك وفقًا للأرقام التقريبية التي تم تقديمها إلى موقع “ميدل إيست آي” بناءً على طلب مقدّم بموجب قانون حرية المعلومات. وفي هذا الصدد، أشارت وزارة الدفاع إلى أنه وقع سداد مدفوعات في حوالي 1200 قضية رُفعت في المملكة المتحدة، مضيفة أنه تم تقديم 3200 دعوى قضائية أخرى في العراق، على الرغم من أن ميدل إيست آي يؤكد أن الأرقام الفعلية أعلى بكثير.
تدعي وزارة الدفاع أنها لا تستطيع الكشف عن المبلغ الذي دُفع في هذه القضايا التي يزيد عددها عن 4400 قضية، مدعية في ردّها على طلب الموقع بموجب قانون حرية المعلومات أنها لا تملك أي ملف قائم بذاته بشأن هذه المسألة، وأن الأمر سيستغرق منها عدة مئات من الساعات لتفتيش سجلاتها. وقد طعن موقع “ميدل إيست آي” في رفض وزارة الدفاع نشر الأرقام الصحيحة.
لماذا تدخل الجيش البريطاني في العراق وأفغانستان؟
حتى أواخر سنة 2016، كانت وزارة الدفاع قادرة على تقديم أرقام شاملة عن المدفوعات التي تم سدادها للمواطنين العراقيين. وعندما قدم وزير الدفاع آنذاك، ميخائيل فالون، أدلة أمام لجنة دفاع برلمانية في كانون الأول/ ديسمبر من تلك السنة، زودت وزارة الدفاع اللجنة ببيان يفصل ما يقرب من 400 دفعة مالية للأفراد، والتي تصل إلى 425 ألف جنيه إسترليني (559 ألف دولار).
قبل بضعة أشهر، قدم مسؤول رفيع المستوى في وزارة الدفاع بيانًا إلى محكمة في لندن قال فيه إنه تمت تسوية 3326 قضية داخل العراق وحده، كما دُفع أكبر عدد من المدفوعات في سنة 2004. وكانت لجنة الدفاع بالبرلمان تدرس الطريقة التي خضع بها بعض الجنود البريطانيين لتحقيقات متكررة سنة بعد سنة، وخلصت إلى أنه يجب إنهاء هذه التحقيقات ويجب على الحكومة “ألا تغفل عن مسؤوليتها الأخلاقية” تجاه الجنود في الخدمة العسكرية.
في إحدى الفقرات المخفية وسط تقريرها التالي، أقرت اللجنة بأن سجناء عراقيين قد تعرضوا لسوء المعاملة. وقالت إن هذا يعود جزئيًا على ما يبدو إلى أن المحققين العسكريين البريطانيين تلقوا ما وصفته بأنه تدريب “خاطئ” عرضهم لخطر انتهاك اتفاقيات جنيف.
وأضاف التقرير أن اعتراف وزارة الدفاع بأن المواد التدريبية المتعلقة بالاستجوابات “احتوت على معلومات كان من الممكن أن تدفع الجنود لانتهاك القانون المحلي أو الدولي يمثل إخفاقًا من الدرجة الأولى”. ويُدرك موقع “ميدل إيست آي” أن ما يصل إلى 75 بالمئة من الادعاءات التي رفعها مواطنون عراقيون ضد الحكومة البريطانية تركز على سلوك المحققين العسكريين البريطانيين.
نزاع مرير
في غضون أيام من نشر تقرير اللجنة، أوقف فالون الهيئة التي كانت تجري معظم التحقيقات في الانتهاكات العسكرية في العراق عن العمل. بعد ذلك، اندلع نزاع مرير على هامش المجتمع البريطاني، حرّض وزراء الدفاع وبعض أعضاء البرلمان وبعض مجموعات المحاربين القدامى ضد المنظمات غير الحكومية والمحامين المدافعين عن حقوق الإنسان والعديد من الجنود السابقين.
تتمثل المسألة المطروحة في طريقة التحكم في رواية ما حدث عندما احتجزت القوات البريطانية أعدادًا كبيرة من الرجال والفتيان في جنوب شرق العراق في السنوات التي أعقبت الغزو. هل كانت المعاملة السيئة التي اشتكى الكثيرون منها مسألة منهجية – كما أقرت الفقرة شبه المخفية في التقرير البرلماني – أم أن مزاعمهم كانت مدبرة من قبل “المحامين المدافعين عن حقوق الإنسان والمتخصصين في رفع الدعاوى المطالبة بالتعويض عن الأضرار الشخصية”، وذلك حسب ما يدعيه وزراء في الحكومة ومسؤولون في وزارة الدفاع وحتى أعضاء من اللجنة؟
يعتقد بعض المنتقدين أن القانون الجديد المقترح متجذر في الرغبة في منع محاكمة المحققين العسكريين الذين كلفت أنشطتهم في العراق
طُرح مشروع قانون عمليات ما وراء البحار على البرلمان في آذار / مارس من هذه السنة بينما كانت المملكة المتحدة على وشك تطبيق الإغلاق بسبب كوفيد-19. ومن المقرر أن يخضع هذا القانون لفحص دقيق من قبل النواب بعد عودة البرلمان من إجازته الصيفية في أيلول/ سبتمبر.
يشير مشروع القانون إلى ضرورة وجود “دليل يبرر الملاحقة القضائية” للعناصر في الجيش البريطاني الذين ارتكبوا جرائم أثناء خدمتهم في الخارج، إلا في ظروف “استثنائية”، مع مهلة خمس سنوات منذ وقت ارتكاب الجريمة. وتجدر الإشارة إلى أن جرائم الاعتداء الجنسي مستثناة من القانون الجديد المقترح، على عكس جرائم القتل والتعذيب.
أشار المدعي العام السابق لشؤون إنجلترا وويلز، دومينيك جريف، إلى أن هذا يعني أنه يمكن لجندي بريطاني اغتصب وقتل امرأة أثناء خدمته خارج المملكة المتحدة أن يحاكم بتهمة الاغتصاب، ولكن ليس القتل. وفي حين يعتقد بعض السياسيين أن الإجراءات المقترحة قد تحظى بشعبية انتخابية في المملكة المتحدة، حيث يكون الدعم لقواتها المسلحة متينا بشكل تقليدي، يقول منتقدو مشروع القانون إنه مليء بالانتهاكات القانونية، ويخاطر بإرسال رسالة خطيرة إلى الجنود الشباب، كما أنه يحط من قيمة الغالبية العظمى من موظفي الخدمة الذين لم يرتكبوا أي جرائم.
تشريع “قذر”
يعتقد بعض المنتقدين أن القانون الجديد المقترح متجذر في الرغبة في منع محاكمة المحققين العسكريين الذين كلفت أنشطتهم في العراق دافعي الضرائب في المملكة المتحدة ملايين الجنيهات من التعويضات التي تُدفع خارج المحاكم، والذين يمكن أن تؤدي مقاضاتهم إلى طرح أسئلة غير مريحة على قادة الجيش وكبار مسؤولي وزارة الدفاع ووزراء الحكومة في المحكمة.
يحذر فرانك ليدويدج، وهو ضابط سابق في استخبارات الجيش ومؤرخ عسكري، من أن مشروع القانون – الذي يسميه “تشريعًا قذرا” – يمكن أن يسبب مشاكل أكثر من المشاكل التي من المقترض أن يحلها لوزراء الدفاع والحكومة البريطانية. ويشير ليدويدج، الذي يتمتع بخبرة في تعقب مجرمي الحرب في البوسنة وكوسوفو، إلى أنه من غير المرجح أن تسعى المحكمة الجنائية الدولية، التي تجري حاليًا تحقيقًا أوليًا في مزاعم ارتكاب جرائم حرب بريطانية في العراق، إلى تتبع المحققين العسكرين.
يقول ليدويدج: “عندما تأتي المحكمة الجنائية الدولية من أجلنا، وهو ما سيحدث إذا وقع سن هذا القانون، فلن يسعوا وراء الجنود. لم نتعقب في البوسنة الجنود المشاة. بل تعقبنا القادة والجنرالات والسياسيين الذين أرسلوهم وسمحوا بحدوث هذه الجرائم”.
المصدر: ميدل إيست آي