تهدف “إسرائيل” من وراء تغلغلها في إفريقيا إلى التمكين وفك العزلة التي ضربها عليها العرب في العقود الماضية، وفق ما قلنا في تقاريرنا السابقة في نون بوست. لكن أهداف الإسرائيليين لا تتوقف هنا، فهم يسعون أيضًا إلى ضرب المصالح العربية في القارة السمراء مهما كلّفهم الأمر.
في هذا التقرير لنون بوست، ضمن ملف “التغلغل الإسرائيلي في إفريقيا”، سنتطرق لأحد أهم أهداف الإسرائيليين في إفريقيا وسعيهم المتواصل لضرب مصالح العرب هناك وتشويه المقاومة للإطاحة بالنفوذ العربي في القارة التي تبلغ مساحتها 23% من مساحة العالم.
تركيز على الدول الإفريقية القريبة من العرب
برزت “إسرائيل” في السنوات الأخيرة كأحد أهم القوى في إفريقيا، بعد أن نجحت في تنفيذ إستراتيجيتها الدبلوماسية التي تضمن لها مصالحها الكبرى في القارة السمراء، و تصب هذه الإستراتيجية بالأساس في صالح إستراتيجيتها لحماية أمنها القومي.
اهتمام اليهود بالقارة الإفريقية لم يبدأ بقيام دولة الاحتلال في سنة 1948، بل منذ انعقاد أول مؤتمر صهيوني في أغسطس/آب عام 1897 في “بازل” سويسرا، الذي رُشحت فيه أوغندا لتكون وطنًا قوميًا لليهود إلى جانب الأرجنتين وفلسطين.
بعد تخلي العديد من الأنظمة الإفريقية عن بعض مُثُلهم السياسية والأخلاقية، تمكن الإسرائيليون من فرض هيمنتهم في القارة الإفريقية، حتى أنهم يمتلكون الآن 11 بعثة دبلوماسية في القارة، وتحديدًا في رواندا والسنغال ومصر وأنغولا وغانا وكوت ديفوار وإثيوبيا وجنوب إفريقيا ونيجيريا وكينيا والكاميرون.
تطور العلاقات مع الأفارقة، جاء بعد تيقن الإسرائيليين بأن تحقيق أي مكسب سياسي دبلوماسي لهم في القارة السمراء، يمر حتما عبر القضاء على أي مصدر محتمل لتأييد الدول العربية
إلى جانب ذلك، ثمة العديد من السفراء الإسرائيليين غير المقيمين في دول إفريقية، في حين أن 15 دولة إفريقية لديها سفارات دائمة في تل أبيب، وهو ما يعني بلوغ هذه العلاقات مستويات متقدمة لم تبلغه سابقًا.
اهتمت “إسرائيل” بالقارة الإفريقية، لكنها أولت اهتمامًا خاصًا بالدول الإفريقية القريبة من العرب لتنفيذ إستراتيجيتها التي تقتضي تهديد الأمن القومي العربي، وضرب المصالح العربية في القارة الإفريقية وإضعاف نفوذها هناك.
تركيز الإسرائيليين، كما قلنا، كان منصبًا على الدول الإفريقية القريبة من العرب، من ذلك إريتريا المواجهة للسواحل السعودية واليمن، حيث عملت على توطيد علاقاتها مع هذه الدول الإفريقية لما يتمتع به موقعها من أهمية بالغة.
هناك أقامت “إسرائيل” عددًا من القواعد العسكرية، منها القواعد التي أنشأتها في “رواجيات” و”مكهلاوي” على حدود السودان، والقواعد الجوية في جزر حالب وفاطمة عند مضيق باب المندب، ونشرها لقواتها البحرية في جزيرة دهلك وميناء مصوع الإرتري.
نفس الأمر حصل مع إثيوبيا، فقد طوّر الإسرائيليون علاقتهم من حكام هذه الدولة المطلة على الساحل الشرقي الإفريقي، من خلال مساعدتهم في إنشاء العديد من السدود على مجرى نهر النيل، وتقديم التكنولوجيا المتقدمة في نواحي عديدة زراعية وصحية وتنموية وفنية.
نفس الأمر بالنسبة إلى التشاد، حيث عادت العلاقات الدبلوماسية بين “إسرائيل” ودولة تشاد الإفريقية ذات الغالبية المسلمة، مطلع السنة الماضية، وكانت العلاقات بين البلدين قد انقطعت في العام 1972 من جانب إنجيما بسبب العدوان الإسرائيلي على الأراضي العربية.
كما تحرص “إسرائيل” على توطيد علاقتها مع السنغال، خاصة أن هذه الأخيرة دولة قياديّة في القارّة الإفريقيّة، ودولة محوريّة في منظّمة التعاون الإسلامى، وترأس لجان أساسيّة للمنظّمة تُعني بشؤون الإعلام والثقافة، وتنوب أيضًا عن رئاسة لجنة القدس.
كما تسعى “إسرائيل” إلى تطوير علاقاتها مع دولة جنوب السودان، وكانت الحكومة الإسرائيلية قد اعترفت بالدولة الوليدة فور إعلان انفصالها عن السودان في 9 يوليو 2011، ووعدتها حينها بتقديم المساعدات الأمنية والاقتصادية لها.
وتعمل دولة الاحتلال الإسرائيلي حاليًا إلى تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع كل من مالي والنيجر، خاصة بعد أن وجدت طريقها إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع دول أفريقية عدة بعد أن تخلى الأفارقة عن دعم القضية الفلسطينية نتيجة أسباب عدة.
تطويق العرب وضرب مصالحهم
هذا التحركات الإسرائيلية، لا يمكن عزلها عن الهدف الإستراتيجي الذي لم يغب أبدًا عن ذهنية صانع القرار في “إسرائيل”، ويتمثل هذا الهدف في ضرب طوق من النفوذ والتأثير في المناطق التي تشكل تقليديًا الفضاءات الحيوية للدول العربية، وذلك لحد من تحركات العرب فيها.
اتخذت “إسرائيل” هذه الدول المجاورة مطية لحصار النفوذ العربي والإسلامي في القارة الإفريقية، وذلك عبر وحداتها الأمنية وشبكات التجسس الخاصة بها، كما جعلتها مراكز متقدمة للحفاظ على أمنها، فبواسطتها يمكن الضغط على أغلب الدول العربية المجاورة لها.
بفضل هذه العلاقات المتطورة مع الدول الإفريقية، تمكن الكيان الإسرائيلي من محاصرة الدول العربية التي تهدد أمنه كالسودان ومصر، وحماية إستراتيجيته في البحر الأحمر، حيث دول حوض النيل تهديدًا لأمن الدول العربية المعتمدة على مياه النهر.
حقق الكيان الإسرائيلي، في العقود الأخيرة، مكاسب سياسية واقتصادية وأمنية هامة في الفضاء الإفريقي على حساب الأمن القومي العربي
تطور العلاقات مع الأفارقة، جاء بعد تيقن الإسرائيليين بأن تحقيق أي مكسب سياسي دبلوماسي لهم في القارة السمراء، يمر حتما عبر القضاء على أي مصدر محتمل لتأييد الدول العربية في مقاطعتها لها، لذلك كانت لإفريقيا أهمية قصوى في برامج الصهاينة.
وإلى الآن تنظر الحكومات الإسرائيلية إلى الدول العربية كمصدر تهديد حقيقي لوجودها، وذلك رغم معاهدات السلام التي وقعها الاحتلال الصهيوني مع بعض الدول العربية، ودعوات التطبيع معها التي بدأت مؤخرًا تأخذ طابعًا علنيًا من قبل دول عربية أخرى.
نتيجة هذا التغلغل الإسرائيلي في دول القارة السمراء، لم تعد العلاقات الإفريقية العربية على حالها، رغم الكم الهائل من الروابط التي تربط العرب بالأفارقة، سواء كانت روابط دم أو دين أو ثقافة أو جغرافيا أو تاريخ أو غيرها.
يذكر أن العلاقات العربية الإفريقية، قديمة قدم التاريخ، وتقول مراجع تاريخية إنها تعود إلى أكثر من ألفي سنة؛ خاصة وأن إفريقيا ومنطقة شبه الجزيرة العربية كانتا تمثلان رقعة أرضية واحدة، حتى انشطرت الأرض وأصبح البحر الأحمر الذي يسمى بالأخدود الأفريقي العظيم يفصل بينهما.
ويتجاوز عدد المسلمين في القارة الإفريقية نصف عدد السكان، مما يجعلها القارة الإسلامية الأولى؛ ليس هذا فحسب، اللغة العربية أيضًا منتشرة بكثافة في دول القارة خاصة الغربية منها وفي ساحل المحيط الهندي.
تشويه المقاومة
عند السياسة الإسرائيلية، تطويق العرب وضرب نفوذهم في إفريقيا لا يكون فقط عن طريق التغلغل في الدول المجاورة لهم وإضعاف كلمتهم ومكانتهم هناك، بل أيضًا عن طريق تشويه حركات المقاومة العربية عند الحكام الأفارقة ولدى الرأي العام هناك.
ويعكف الإسرائيليون منذ عقود على ابتكار كل الوسائل الهادفة لضرب المقاومة العربية ونزع الشرعية عنها، وتضييق عملها في دول القارة الإفريقية، ولا تتوانى ماكينة الدعاية الإسرائيلية في تشويه صورة المقاومة، وتشنيعها.
وترفض الدعاية الإسرائيلية وجود المقاومة خاصة في فلسطين ولبنان كرد على الاحتلال وكرفض للتسليم بالواقع المرير، حيث صورت الفلسطينيين واللبنانيين المواليين للمقاومة على أنهم “مجددو الفكر النازي” كما يقول وزير المالية الإسرائيلي موشيه كحلون.
ويرى الإسرائيليون في “شيطنة” الآخر أيًا كان والتشكيك فيه، مادام يقاوم الاحتلال أو ينتقد ممارساته، طريقة مبدئية للرد، مستفيدين من ضعف وعي وفهم النخب السياسية الإفريقية لأبعاد الصراع العربي/الإسرائيلي.
ليس هذا فقط، فقد عمدت “إسرائيل” إلى تشويه المقاومة وربطها بالإرهاب، حيث اتخذت من ظهور جماعات متشددة في منطقة غرب إفريقيا على السنوات الأخيرة شماعة لوصم المقاومة الفلسطينية بالإرهاب.
ودأبت الحكومات الإسرائيلية، على استغلال أي هجمات تقوم بها تنظيمات مسلحة ضد مصالح غربية في دول القارة الإفريقية، حيث تشبّه هذه الهجمات الإرهابية بعمليات المقاومة الفلسطينية ضد جنود الاحتلال، لتشويه صورة الفلسطينيين وربط نضالهم بالإرهاب.
بلغ الأمر بكيان الاحتلال الإسرائيلي ووسائل إعلامه ومؤسسات البحث فيه، إلى حد المطالبة بوضع قيود على حرية الصحافة في عديد الدول الإفريقية، حتى لا تتبنى القضية الفلسطينية ولا تدعمها، ويأتي ذلك ضمن جهوده كيان الاحتلال لإسكات أصوات النقد لممارساتها وسياساتها ضد الشعب الفلسطيني.
الهدف من تشويه المقاومة، الحد من تعاطف الإفريقي مع القضية الفلسطينية، ووقف مصادر تمويلها الخارجية، حتى تكتب شهادة الوفاة لهذه القضية في اهتمامات ومواقف الأفارقة، وهو ما يتنزل ضمن إستراتيجية الكيان الإسرائيلي الأمنية.
ويخشى الإسرائيليون من المقاومة، ذلك أنها تمثل الدرع الواقي للشعب الفلسطيني ضد كيان الاحتلال، وهي التي تحافظ على الثوابت الفلسطينية من أي يطويها التقادم والنسيان، كما أنها الجهة الأبرز للدفاع عن حقوق الفلسطينيين ومكتسباتهم التي تحققت.
حقق الكيان الإسرائيلي، في العقود الأخيرة، مكاسب سياسية واقتصادية وأمنية هامة في الفضاء الإفريقي على حساب الأمن القومي العربي، ورغم ذلك لم يتحرك العرب حتى تعود الأمور إلى طبيعتها، ما شجع الإسرائيليين على مزيد التطاول وفرض توجهاتهم على العرب والأفارقة.