ما زالت أصداء اللقاء المثير للجدل لرئيس المجلس السيادي السوداني، عبد الفتاح البرهان، ورئيس وزراء الكيان الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في أوغندا، فبراير الماضي، تلقي بظلالها على المشهد السياسي الداخلي في السودان في ظل ما أثير بشأن إحتمالية إصابة البلاد بعدوى اتفاق العار الإماراتي واستنساخ التجربة ذاتها.
عمًق هذا الجدل الزيارة الخاطفة التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، للخرطوم، في إطار جولته الشرق الأوسطية الأخيرة التي شملت إسرائيل والإمارات والبحرين بجانب السودان، والتي تهدف إلى الإسراع في تمرير الاتفاقية الإماراتية الإسرائيلية ومحاولة تعميمها على بعض الدول المؤهلة في المنطقة.
وبعيدًا عن الموقف الشعبي السوداني الرافض لأي خطوة تطبيعية دون عودة حق الفلسطينيين، فقد ارتأت الحكومة بناء على توجيهات التيارات المدنية الثورية المشاركة في التحالف الحاكم بأن الحكومة المؤقتة الحالية ليست مخولة بالحديث عن اتفاقيات تطبيع في الوقت الراهن، وهو الموقف الذي ربما يتعارض مع توجهات بعض جنرالات الجيش على رأسهم البرهان ونائبه حمدان دقلو “حميدتي” رجل محمد بن زايد في البلاد.
وبينما يغلي الشارع السوداني رفضًا لقطار التطبيع المهرول من بعض المحطات العربية، خرجت بعض الأصوات اليهودية المقيمة في السودان معلنة تأييدها للتطبيع، لافتة النظر إلى مصلحة السودانيين في التقارب مع تل أبيب، ومن ثم كان فتح ملف اليهود في تلك الدولة العربية وهو الملف المسكوت عنه لسنوات طويلة.. فما قصة يهود السودان وكيف تغلغلوا في المجتمع وتعايشوا معه إلى هذا الحد؟
أم درمان: حاضنة اليهود الأولى
يعود توطن اليهود في السودان إلى نهايات القرن التاسع عشر، والذي يطلق عليهم “البنيامين”، حين شهدت البلاد أكبر موجهة هجرة يهودية في هذا التوقيت، وينتموا إلى طائفة اليهود “السفاريدم” الذين ينحدرون من سلالات يهودية كانت تعيش في إسبانيا، لكن تم التنكيل بهم فتوجهوا إلى دول الشمال الإفريقي ومنها إلى السودان.
لا يوجد إحصاء رسمي لعدد اليهود في السودان غير أن بعض التقديرات تذهب إلى أن عددهم يبلغ قرابة ألف شخص، موزعين في عدد من المدن، على رأسها الخرطوم، والخرطوم بحري، وأم درمان، بجانب مناطق أخرى بعيدة نسبيًا عن العاصمة مثل نوري، ومروي، والدبة، وبورسودان، وود مدني.
بعد الاحتلال الإنجليزي للسودان عام 1889 أصبح كوستي أول رئيس للجالية اليهودية في البلاد
وتعد مدينة أم درمان حاضنة اليهود الأولى في البلاد، حيث يتمركز بها العديد من الأسر اليهودية، لا سيما في منطقة “حي المسالمة” فهناك أرخى المهاجرون أمتعتهم ووضعوا رحالهم، متخذين من هذه المنطقة مستقرًا لهم، وقد شهد عام 1889 وضع الأساس الأول في ترسيخ الحضور اليهودي سودانيًا حين تم بناء أول معبد يهودي، بجانب تدشين رابطة للجالية اليهودية.
وتعتبر عائلة “بن كوستي” أولى العائلات اليهودية التي استوطنت أم درمان، ويعود نسبها إلى الحاخام كوستي (1842- 1917) المولود في فلسطين، وإن كانت جذوره تعود إلى إسبانيا، والذي فضل العمل في الوظائف الحكومية لدى الإمبراطورية العثمانية، قبل أن يصل إلى السودان ويتخذ من التجارة عملا جديدًا له، إذ تاجر في سن الفيل وريش النعام.
تعرض الحاخام اليهودي إلى السجن أثناء حصار الخرطوم في عهد الثورة المهدية، لكن سرعان ما أفرج عنه الخليفة عبد الله التعايشي (1846-1899) وأجبره على البقاء في أم درمان، بعدما بات مصدر ثقة واطمئنان للخليفة الذي أوكل إليه العديد من المهام الاقتصادية الحيوية، منها استيراد البضائع المصرية.
وبعد الاحتلال الإنجليزي للسودان عام 1889 أصبح كوستي أول رئيس للجالية اليهودية في البلاد، كما غير اسمه إلى “عبد القادر البستيني”، الاسم المحبب للخليفة، ثم تزوج من امرأة سودانية وأنجب منها عبد القادر الصغير الذي بدوره تزوج هو الأخر من فتاة من أم درمان لينجب منها 3 أبناء، أحدهم ضابط بالقوات المسلحة السودانية، والثاني طبيبًا بوزارة الصحة، فيما اختار الثالث التجارة الحرة للعمل بها.
الاندماج في المجتمع السوداني
نجح اليهود في التغلغل داخل المجتمع السوداني بصورة كبيرة، حتى بات من الصعب التفرقة بينهم وبين أبناء الوطن الأصليين، فاستوطنوا الأحياء ذات المستوى المعيشي الجيد، وعملوا على تأسيس قاعدة اقتصادية كبيرة، عمادها التجارة والاستيراد والتصدير، وتحديدًا في مجال الجلود والمنتجات الزراعية.
علاوة على ذلك برع الكثير منهم في تجارة الأدوية فأسسوا العديد من الشركات في هذا المجال، بجانب أعمال الفندقة والسياحة، حتى باتوا روادًا لها في السودان، مستغلين ما يتمتعون به من خبرات كبيرة في هذا المضمار، فضلا عن علاقاتهم القوية خارجيًا والتي تسمح لهم بإنجاح مشروعاتهم وتوسيع دائرة أعمالهم.
وفي ظل هذا التوغل الكبير في الاقتصاد السوداني، خشي اليهود من ردة فعل المجتمع، ففضلوا إخفاء أسمائهم ذات الصبغة اليهودية واستبدالها بأسماء عربية، ومن هنا انتشرت عشرات الأسماء العربية لتجار يهود مثل المغربي، البغدادي، الإستانبولي، وغيرها.
وشيئًا فشيئًا أصبح اليهود جزءًا من المجتمع السوداني، وعليه قاموا ببناء نادي ترفيهي لهم حمل اسم “النادي اليهودي بالخرطوم”، أو ما يعرف باسم “مكابي”، وذلك بالجانب إلى تأسيسهم فريق رياضي خاص بهم، فيما تنوع حضورهم الثقافي والفني حتى أسسوا أول سينما في البلاد عرفت باسم سينما “كلوزيوم”.
الخارطة الجغرافية والسكانية للسودان ملأى بعشرات العائلات اليهودية التي حققت شهرة كبيرة في مجال التجارة والأعمال، أبرزها عائلة “آل إسرائيل” الذين استوطنوا بالخرطوم جوار السكة الحديد بالقرب من شارع (الاستبالية) والتي تنتمي إليها مديرة مكتب بهاء الدين محمد احمد إدريس، أحد مستشاري الرئيس الأسبق جعفر نميري، وهي متزوجة من الصحفي السوداني حسن الرضي الصديق.
ظل اليهود يتمتعون بين السودانيين بحياة لم يعيشوها من قبل حتى الإعلان عن قيام دولة إسرائيل عام 1948
ومن العائلات الشهيرة كذلك عائلة “عدس” والتي استقرت في ود مدني، وتنحدر من يهود سوريا، كذلك عائلة “آل سلمون ملكا”، وهو حاخام من يهود المغرب استقدمه يهود السودان من أجل إقامة الصلوات، وتعليم الصغار، أيضًا عائلة “آل قاوون”، التي ساهمت بشكل كبير في افتتاح كنيس الخرطوم.
وتعد عائلة “آل عبودي” على رأس قوائم الأسر اليهودية الأكثر شهرة في السودان، تلك العائلة التي عاشت في الخرطوم بحرية، وتضم العديد من الأسماء اللامعة في عالم المال والأعمال، منهم “موريس عبودي” أشهر تاجر لعب أطفال في السودان، وإبراهيم جوزيف عبودي، الذي ترأس الجمعية اليهودية في الولايات المتحدة الأمريكية، وغيرهم مثل، شلومو جوزيف عبودي، داود عبودي.
ومن أشهر ساسة اليهود الذين عاشوا فوق تراب السودان، رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي الحالي، بنيامين نتنياهو، الذي ينتمي إلى عائلة “شاؤول الياهو” المقيمة في منطقة نوري–مروي، بجانب عائلة “أل ساسون” التي عاشت في منطقة “كردفان” ومنها خرج أول سفير لتل أبيب في مصر بعد اتفاقية كامب ديفيد بين الرئيس المصري أنور السادات ورئيس وزراء “إسرائيل” مناحم بيغن.
وظل اليهود يتمتعون بين السودانيين بحياة لم يعيشوها من قبل حتى الإعلان عن قيام “إسرائيل” عام 1948، الأمر الذي دفع عددًا من العائلات إلى الهجرة.
الجدل الذي لا ينتهي
لم ينس اليهود ما تعرضوا له خلال حكم جعفر النميري، حيث أممت ممتلكاتهم وتم مصادرتها، وخاصة شركات الحاخام اليهودي “سلمون ملكا” الذي تم الاستيلاء على منزل عائلته وحول في العهد المايوي إلى مقر للاتحاد الاشتراكي، ثم الخارجية السودانية، فيما تم هدم المعبد اليهودي عام 1987م وبيعت الأرض لمصلحة أحد البنوك الوطنية.
وتباينت الروايات في تفسير موقف الحاكم السوداني في هذا الوقت، ففريق يذهب إلى أن ما حدث كان نتيجة طبيعية، فيما أكد أخرون أن ما حدث كان حلقة في مسلسل متفق عليه لتهجير اليهود إلى فلسطين في ضوء اتفاق غير معلن بين الخرطوم وتل أبيب وواشنطن.
من المتوقع أن تشهد الأيام القادمة موجات متلاطمة من الضغط الشعبي والمجتمعي لتقريب وجهات النظر بين السودانيين والإسرائيليين
أنصار الرأي الأخير يستندون في روايتهم إلى قضية “ترحيل الفلاشا” الشهيرة، والتي تعد إحدى القضايا الجدلية التي شغلت الرأي العام منتصف تسعينات القرن الماضي، حيث كشفت بعض المصادر عن دور كبير لعبه نميري في تهريب يهود الفلاشا الإثيوبيين إلى فلسطين نظير مقابل مادي كبير.
بعض وسائل الإعلام العبرية كانت قد أشارت إلى أن النميري قبل عام من الإطاحة به وافق على طلب مقدم من الموساد الإسرائيلي بشأن السماح بمرور ألاف اليهود من قبائل الفلاشا الإثيوبية عن طريق معسكر لاجئين أقامته “إسرائيل” على الحدود بين السودان وإثيوبيا، حيث يتم نقلهم من إثيوبيا إلى الخرطوم ومنها إلى تل أبيب، فيما عرفت هذه القضية وقتها باسم “عملية موسى” وقد تعرض النميري لانتقادات حادة بسببها أضطر معها إلى وقف تنفيذها.
ورغم مرور سنوات طويلة على هذا التاريخ، لم ينس اليهود أموالهم التي تركوها في السودان، وعليه تقود إدارة الأملاك بوزارة الخارجية الإسرائيلية خلال الأونة الأخيرة حملة ضغط دبلوماسية لما يسمونه “استعادة أملاكهم” في بعض الدول التي كان يعيش فيها اليهود قديمَا، منها: السودان، ومصر، والمغرب، وموريتانيا، وتونس، وليبيا، والجزائر، وسوريا، والعراق، ولبنان، والأردن، والبحرين.
يهود السودان والتطبيع
ما إن بدأت إرهاصات التطبيع بين “إسرائيل” والسودان حتى كشف اليهود المقيمين في البلاد عن دعمهم الواضح للتقارب بين البلدين، لافتين إلى أن المكاسب التي من المتوقع أن تتحقق حال إبرام اتفاق سلام تستحق المغامرة والإقدام على هذه الخطوة أسوة بالإمارات العربية المتحدة.
ليلي دويل، ربة منزل يهودية، تقيم في مدينة أم درمان، تعلق على ما أثير بشأن التطبيع بين الخرطوم وتل أبيب بقولها إن المصلحة السودانية تتطلب التطبيع مع الإسرائيليين، مشيرة إلى أن هذه الخطوة ستلقى دعم وتأييد مطلق من اليهود المقيمين في السودان التي ترغب في رفع اسمها من قوائم الإرهاب.
اليهودية المقيمة في السودان في تصريحات صحفية لها عبرت عن أملها في استعادة إرث أجدادها اليهود مجددًا حال إبرام اتفاق سلام رسمي مع “إسرائيل”، مسترجعة ذكريات طفولتها في مدينة بورتسودان حين كانت تحيا وسط السودانيين من مختلف الأديان والهويات دون تفرقة، فيما كانت عائلتها تسيطر على تجارة الأدوية في هذا الوقت.
دويل لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة التي شجعت على هذه الخطوة، إذ من المتوقع أن تشهد الأيام القادمة موجات من الضغط الشعبي والمجتمعي لتقريب وجهات النظر بين السودانيين والاحتلال الإسرائيلي، استنادًا إلى التجربة الإماراتية التي ربما تدفع قاطرة التطبيع لتشمل العديد من المحطات العربية الأخرى.