طيلة العقود الماضية، عمد الكيان الإسرائيلي إلى اتباع سياسة مشبوهة تقوم على التحركات الملتوية لدعم حضوره في دول القارة الإفريقية، حتى إنه دعم العديد من الحركات الانفصالية في القارة، مثلما حصل في جنوب السودان، كما ساهم في تأجيج العديد من الحروب الأهلية هناك على غرار ما فعله في رواندا.
ضرب استقرار دول القارة ودعم الصراعات المسلحة، اتخذه كيان الاحتلال مدخلًا لتفعيل نفوذه السياسي والأمني والاقتصادي في دول القارة السمراء، في ظل تواصل “السبات” الذي دخل فيه العرب منذ عقود عدة.
في هذا التقرير الجديد لـ”نون بوست”، ضمن ملف “التغلغل الإسرائيلي في إفريقيا”، سنركز حديثنا على التدخل الإسرائيلي في السودان وكيف دعم كيان الاحتلال حركات التمرد هناك وساهم في تقسيم هذا البلد العربي إلى دولتين، فضلًا عن دعمه للحرب الأهلية في رواندا.
التدخل في السودان
دعم حركات الانفصال
أدرك الإسرائيليون مبكرًا أهمية السودان ومكانه الإستراتيجي الذي يربط الشمال الإفريقي المسلم بالجنوب الإفريقي المسيحي، فضلًا عن موقعها على نهر النيل العظيم. انطلاقًا من هذه المعطيات رسم كيان الاحتلال إستراتيجيةً تعتمد على أكثر من وسيلة دبلوماسية واقتصادية وثقافية لضرب هذه الدولة العربية.
علم الماسكون بزمام الأمور في “إسرائيل” أن الاستثمار في جنوب السودان خير أداة لضرب البلاد، لذلك توجهوا نحو الجنوب، حيث الأغلبية المسيحية هناك، وحاولوا الاستثمار في حالة الصراع الدائر بين الحكومة السودانية والحركة المسلحة من أجل تعميقه وعدم ترك أي فرصة للسلام بين أبناء الوطن الواحد، خدمة لمصالحهم.
بدأ صناع القرار الإسرائيلي بإقناع الجنوبيين بأن صراعهم دينيًا، وهو يدور بين شمال عربي مسلم محتل وجنوب زنجي مسيحي، كما عمدوا إلى تصوير الأزمة هناك على أنها حرب بين الحضارة العربية والحضارة الإفريقية بهدف زعزعة الثقة بين العرب والأفارقة وتعميق الفجوة بين الشمال والجنوب وصولًا إلى هدف التفتيت ومن ثم الانفصال.
أراد الكيان الإسرائيلي عبر التغلغل في جنوب السودان الاستحواذ على مياه حوض النيل حتى يهدد مصالح مصر والسودان الإستراتيجية وأمنهما القومي
أغلب اتصالات الإسرائيليين بالجنوبيين لم تكن مباشرة في البداية، فقد بدأت هذه الاتصالات من القنصلية الإسرائيلية في أديس أبابا، بحيث مثلت شركاتها هناك وسيطًا بين الإسرائيليين والجنوبيين دعاة الانفصال، ووقع الاختيار على الدينكا أقوى قبائل المنطقة لتكون الباب الذي تتسلل منه “إسرائيل” إلى الجنوب.
دَعْمُ الجنوبيين، اتخذ مسارات متعددة، منها تقديم المعونات الإنسانية والصحية لهم كالأدوية والمواد الغذائية والأطباء والدعم الإغاثي، وأيضًا دعمهم بالأسلحة المتطورة، وتدريب المليشيات الجنوبية في أوغندا وإثيوبيا وكينيا، وتوفير معلومات استخباراتية لهم وإيفاد خبراء إسرائيليين لمساعدتهم في وضع خطط القتال، فضلًا عن الترويج لمطالبهم في الدول الإفريقية والغربية.
وقد أشرف على تقديم هذا الدعم السخي لدعاة الانفصال عن السودان، رجال الموساد والاستخبارات العسكرية، فحتى الدعم السياسي الإسرائيلي الذي حظي به هؤلاء خارج بلادهم تم بإشراف الموساد نظرًا لأهمية المهمة وحساسيتها.
الترحيب بالدولة الفتية
نتيجة ذلك، كان الكيان الإسرائيلي أول المعترفين بدولة جنوب السودان بعد الانفصال في يوليو/تموز 2011، ليس هذا فحسب، بل اعتبر العديد من الإسرائيليين ولادة هذه الدولة انتصارًا لـ”إسرائيل” وتتويجًا لإستراتيجيتها في تفتيت وتجزئة الوطن العربي.
فضلًا عن ذلك، ساهم الإسرائيليون في الترويج لهذه الدولة الوليدة وتقديم جميع المساعدات المطلوبة لها، مستغلين المساندة القوية من اليمين المسيحي المتصهين في الولايات المتحدة لهذه الدولة التي تأسست بعد حرب أهلية أسفرت عن مقتل مليوني شخص وتهجير أربعة ملايين.
أقام الإسرائيليون علاقات دبلوماسية مع جنوب السودان، وعينوا مسؤولًا في وزارة الخارجية الإسرائيلية لمتابعة ملف الدولة الوليدة، وسمت سفيرًا لها هناك، كما نُظمت زيارة رسمية معلنة لوفد إسرائيلي برئاسة داني دانون نائب رئيس الكنيست إلى جوبا عاصمة دولة الجنوب.
كان الكيان الإسرائيلي أول المعترفين بدولة جنوب السودان بعد الانفصال في يوليو/تموز 2011
إلى جانب ذلك، فتحت “إسرائيل” المجال أمام تنوع الاتصالات والزيارات بين الطرفين، على مستويات عدة رسمية وشعبية، حيث استقبلت في ديسمبر/كانون الثاني 2011 رئيس دولة جنوب السودان سلفاكير ميارديت، كما فتحت تل أبيب المجال أمام توثيق العلاقات التجارية والاقتصادية معهم.
كما أرسل كيان الاحتلال المئات من الخبراء في مختلف المجالات إلى جوبا عاصمة الجنوب، للسيطرة على الدولة الناشئة، حيث يتخصص هؤلاء الذين قدر عددهم بألف خبير في الزراعة والتعدين والاقتصاد والفنون والسياحة والإدارة.
تقسيم الدول العربية
هذا الدعم الإسرائيلي السخي لقوى التمرد في جنوب السودان، لم يكن الهدف منه فقط التمتع بالموارد الطبيعية لهذه المنطقة وفتح أسواق جديدة أمام كيان الاحتلال وحسب، إنما كان الهدف الأسمى سياسي مرتبط بالمصالح الأمنية لـ”إسرائيل”.
سعت “إسرائيل” من خلال هذا الدعم إلى أن تتحول دولة جنوب السودان إلى “قاعدة عسكرية” إسرائيلية وتكون شوكة أخرى في خاصرة الدول العربية وتحد من النفوذ العربي والإسلامي داخل القارة الإفريقية، لا سيما في مواجهة احتمال عودة مصر إلى الاضطلاع بدورها العربي الفعلي.
أراد الكيان الإسرائيلي عبر التغلغل في جنوب السودان الاستحواذ على مياه حوض النيل حتى يهدد مصالح مصر والسودان الإستراتيجية وأمنهما القومي، وهو ما يتنزل ضمن عقيدة الكيان الأمنية القائمة على الاستحواذ والسيطرة على المنطقة المحيطة به قصد تطويق أعدائه.
فضلًا عن ذلك، أرادت “إسرائيل” من وراء المساهمة في انفصال جنوب السودان، تجزئة الدول العربية إلى دول صغيرة متنافرة، فهي استثمرت في الأزمات داخل الدول العربية وعمقت حدة الصراع والتنافر هناك لتفتيت المنطقة العربية وإضعافها.
تأجيج الحرب الأهلية في رواندا
نشاط الإسرائيليين المشبوه لم يقتصر على الدول العربية فقط بل وصل باقي الدول الإفريقية أيضًا، على غرار ما حدث في رواندا، حيث ساهم الكيان الإسرائيلي في تأجيج الحرب الأهلية هناك التي راح ضحيتها عشرات الآلاف.
خلال النصف الأول من تسعينيات القرن المنصرم في أثناء الحرب الأهلية التي كانت دائرة في رواندا، خرقت “إسرائيل” حظر السلاح الدولي، حيث قامت بتوريد الأسلحة لعرقية “الهوتو” ذات الأغلبية في البلاد، التي ارتكبت مجازر راح ضحيتها عشرات الآلاف من أقلية “التوتسي”.
يتخذ كيان الاحتلال الصهيوني، من النزاعات المسلحة في القارة الإفريقية مدخلًا لتفعيل نفوذه السياسي والأمني هناك
يؤكد المؤرخ الإسرائيلي في الجامعة المفتوحة، يائير أورون، وصول سبع شحنات من الأسلحة الخفيفة (بنادق وذخيرة وقنابل) من مطار بن غوريون بـ”إسرائيل” إلى رواندا عبر ألبانيا ما بين أبريل/نيسان ويوليو/تموز عام 1994، لتستخدمها المليشيات التي ارتكبت المجازر.
وعرفت رواندا، بداية شهر أبريل/نيسان 1994، حربًا أهلية إثر سقوط طائرة كانت تقل الرئيس الرواندي آنذاك جوفينال هابياريمانا ونظيره البوروندي سيبريان نتارياميرا ومقتل جميع من كانوا على متنها، حيث ألقى حينها متشددو الهوتو باللائمة على جماعة الجبهة الوطنية التي تتشكل من أقلية التوتسي، وبدأوا على الفور حملة منظمة للقتل، وبحسب تقديرات مسؤولين في الأمم المتحدة ذبح ما لا يقل عن 800 ألف رجل وامرأة وطفل في رواندا على مدى 100 يوم.
وتعد رواندا التي تعني “أرض الألف تل” باللغة المحلية إحدى الدول التي ينبع منها نهر النيل، وتقع في شرق إفريقيا بمنطقة البحيرات العظمى لشرق وسط إفريقيا، تحدها تنزانيا شرقًا وأوغندا شمالًا والكونغو الديموقراطية غربًا وبوروندي جنوبًا، وهي من أقاليم الكونغو الكبير.
تفعيل النفوذ السياسي والأمني
لم تكتف “إسرائيل” بالتدخل في شؤون السودان ورواندا فقط، بل تدخلت في أغلب الدول الإفريقية وساهمت في تأجيج الأوضاع السياسية والأمنية فيها، لكن هذا المجال لا يكفي للحديث عنها جميعًا لذلك اقتصر حديثنا عن هاتين الدولتين فقط.
تدخلات “إسرائيل” المشبوهة في القارة الإفريقية، ومساهمتها بشكل مباشر أو غير مباشر في تأجيج الصراعات والنزاعات هناك، وتعزيز حالة عدم الاستقرار في المنطقة، الهدف منه توتير الأجواء هناك وكسر الإجماع الإفريقي الداعم لقضايا التحرر في المحافل الدولية، فضلًا عن نسف أسس ومقومات التضامن العربي الإفريقي وبالتالي حرمان العرب من إفريقيا كعمق إستراتيجي واقتصادي وأمني لصالحهم.
استغلت “إسرائيل” النزاعات المسلحة لفرض نفوذها في إفريقيا
هذه الأزمات المتعددة، خلقت ظرفًا باتت فيه العديد من الدول الإفريقية بحاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى للتعاون مع الإسرائيليين على الصعيد الأمني، الأمر الذي كان يسعى إليه الاحتلال الصهيوني بفارغ الصبر وسخر له كل إمكاناته طوال عقود مضت.
هذا التعاون الأمني، مكن الإسرائيليين من إيجاد قنوات للتعاون وتبادل المعلومات بين الموساد وأجهزة الاستخبارات الإفريقية وإقامة مراكز اتصال وجمع معلومات تخص الموساد فيما يتعلق بنشاطات قوى التحرير الإفريقية والعربية.
من شأن ذلك، أن يسهل حصول الإسرائيليين على معلومات أمنية دقيقة عن أوضاع في القارة الإفريقية، وهو ما يؤهلها للاستعداد لمواجهة المخاطر والتهديدات المحتملة الموجهة لها من داخل القارة السمراء أو خارجها.
تتخذ الدولة العبرية، من النزاعات المسلحة في القارة الإفريقية مدخلًا لتفعيل نفوذها السياسي والأمني هناك، فلم يكن الإسرائيليون بمنأى عن الصراع في السودان بين جنوبه وشماله، وأيضًا عن الصراع في رواندا وإفريقيا الوسطى وليبيا والصومال والعديد من الدول الأخرى.