ترجمة وتحرير: نون بوست
لم تخف تركيا أبدًا طموحاتها في أن تصبح بلدا منتجا للطاقة على الصعيد الإقليمي، ولطالما مثل موقعها بين منتجي النفط والغاز في الشرق الأوسط وجنوب القوقاز والدول المستهلكة في الاتحاد الأوروبي ورقة رابحة. لكن يمكن للاكتشاف الأخير لحقل كبير للغاز الطبيعي قبالة شاطئ البحر الأسود في تركيا أن يغير قواعد اللعبة.
تقدم احتياطات حقل غاز “تونا -1″، كما هو معروف (إشارة إلى الكلمة التركية لنهر الدانوب) بحوالي 320 مليار متر مكعب من الغاز. وتبلغ مساحة حقل الغاز المكتشف حديثا ضعفين ونصف مساحة حقل أفروديت للغاز في جنوب قبرص، الذي تعد النزاعات القائمة حول ملكيته من بين أحد الأسباب وراء التوترات الحالية بين أنقرة وتحالف دول البحر الأبيض المتوسط بقيادة اليونان.
تعهد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بانطلاق استغلال غاز البحر الأسود بحلول سنة 2023، التي تصادف الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية. وإذا كان أردوغان على حق، فستكون تركيا قادرة على تلبية ما يقرب من 7 بالمئة من احتياجاتها السنوية من الغاز الطبيعي (حوالي 45 مليار متر مكعب في سنة 2019) من المصادر المحلية. لا يعد هذا الإنجاز بسيطا بالنسبة لدولة تعتمد عادة على واردات النفط والغاز. ويتطابق اكتشاف الغاز هذا أيضًا بشكل جيد مع حملة الحكومة لتشجيع التصنيع المحلي بهدف تحديث الاقتصاد وتعزيز مكانة الدولة، تحت عنوان “المحلي والوطني” (“yerli ve milli”).
مع ذلك، يشكك الخبراء المتخصصون في الأمر، حيث أشاروا إلى أن حقل الغاز المكتشف حديثا وحده سيلبي طلب تركيا على الغاز الطبيعي لمدة سبع سنوات فقط. كما أن استخراج الهيدروكربونات يمثل تحديًا أيضًا. فسوف تحتاج مؤسسة البترول التركية إلى إقامة شراكة مع شركة غربية لإنجاز المهمة.
على عكس التصريحات المتفائلة لأردوغان وصهره وزير المالية بيرات البيرق، فإن هذا الاكتشاف ليس قادرا على حل المشاكل التي تواجه الاقتصاد التركي المتعثر، والتي تشمل التضخم، وفقدان العملة التركية نحو خمس قيمتها منذ بداية هذه السنة، وتباطؤ النمو المصحوب بعجز كبير في الميزان التجاري، فضلا عن تراجع مكانة المؤسسات الرئيسية مثل البنك المركزي.
القدرة على الوصول إلى احتياطيات الغاز في البحر الأسود من شأنها أن تعزز من موقف تركيا التفاوضي
في هذه الوضعية، تعد علاقات تركيا التجارية – أولاً وقبل كل شيء مع روسيا – معرضة للخطر. منذ التسعينيات، مثلت شركة “غازبروم” المورد المهيمن في السوق التركية، حيث وفرت نصف الغاز المطلوب للاستهلاك المحلي. ومنذ سنة 2005، عندما بدأ تشغيل خط أنابيب “بلو ستريم” بين روسيا وتركيا، تحولت تركيا إلى ثاني أهم عميل للغاز الطبيعي الروسي بعد ألمانيا.
لطالما كان لموسكو الأفضلية دائمًا في المفاوضات التجارية مع أنقرة، سواء من خلال وضع صيغة تسعير مواتية لروسيا أو ما يسمى ببنود الاستلام أو الدفع في العقود طويلة الأجل، والتي أجبرت تركيا على شراء بعض كميات الغاز سنويا. ولم تكن تركيا قادرة حتى على الاستفادة من الخلاف بين روسيا والاتحاد الأوروبي في أعقاب ضم شبه جزيرة القرم والإلغاء اللاحق لمشروع خط أنابيب “ساوث ستريم” الذي كان سينقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر دول أخرى أيضًا.
وقّعت تركيا على مشروع “توركستريم”، المشروع البديل عبر البحر الأسود، ولكنها فشلت في انتزاع تنازلات كبيرة من الجانب الروسي. وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2016، قبِل أردوغان إلى حد كبير شروط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كثمن للمصالحة بين البلدين في أعقاب الصدمات التي وقعت بينهما في سوريا.
لكن يبدو أن الموازين الآن بدأت تنقلب لصالح تركيا. فمنذ 2018، كانت شركة خطوط أنابيب البترول التركية (بوتاس)، المملوكة للدولة، إلى جانب العديد من المستوردين من القطاع الخاص، تشتري كميات أكبر من الغاز الطبيعي المسال من بلدان مثل الجزائر ونيجيريا وقطر، فضلاً عن الولايات المتحدة، التي تقدم أسعاراً أقل من “غازبروم”. كما يعمل غاز خطوط الأنابيب القادم من أذربيجان على سد النقص.
شهدت شركة “غازبروم” بدورها تقلصا في حصتها من السوق التركية من 52 في المئة سنة 2017، إلى 47 في المئة سنة 2018، لتصل إلى 33 في المئة سنة 2019. وفي الوقت نفسه، تراجع الطلب في تركيا بسبب تباطؤ الاقتصاد. نتيجة لذلك، تعمل خطوط الأنابيب الروسية التي تمر عبر البحر الأسود – ترك ستريم وبلو ستريم – بأقل بكثير من طاقتها. كما أن الفكرة القائلة إن روسيا تستخدم “سلاح الطاقة” لإكراه الدول المجاورة، والتي كانت شائعة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لم تعد تؤكدها حقائق السوق.
إن القدرة على الوصول إلى احتياطيات الغاز في البحر الأسود من شأنها أن تعزز من موقف تركيا التفاوضي. ومن الممكن تجديد العقود طويلة الأجل مع “غازبروم” في نهاية سنة 2021 (بالنسبة لتوركستريم) وفي 2025 (بالنسبة لبلوستريم).
تعتبر تركيا في البحر المتوسط عنصرا معرقلا لأعمال المنافسين مثل اليونان ومصر وإسرائيل من أجل تأمين ما تعتبره نصيبها العادل من موارد الطاقة
تنتهي الصفقات مع أذربيجان ونيجيريا وقطر أيضًا. ومن المتوقع أن يضغط المفاوضون الأتراك بشدة على مسألة الاستلام أو الدفع من أجل اكتساب المرونة. وستُطرح على الطاولة أيضًا ديون تركيا البالغة ملياري دولار التي تدين بها لشركة “غازبروم” في شكل غرامات على المستوردين الأتراك الذين فشلوا في الوفاء بحصتهم السنوية. سيكون وجود موردين بديلين والقدرة على الاستفادة من الهيدروكربونات الخاصة بهم، حتى لو كانوا لا يزالون محاصرين في قاع البحر الأسود، ورقة المساومة الأولى لأنقرة.
سيراقب جيران تركيا عن كثب كيف ستسير المفاوضات المقبلة. في 24 آب/ أغسطس، أنهت بلغاريا واليونان صفقة إقامة محطة مشتركة للغاز الطبيعي المسال خارج أليكساندروبولي اليونانية بالقرب من الحدود اليونانية التركية. وسيحاولون أيضًا استخدام إمداداتهم البديلة الجديدة للحصول على الامتيازات من روسيا.
يبدو أن حقل الغاز المكتشف حديثا “تونا-1” سيكون له تأثيرات إقليمية أيضا. فقد ظلت دول البحر الأسود تقوم بعمليات التنقيب عن النفط والغاز لسنوات، إلى جانب شركات الطاقة الأمريكية إكسون موبيل، والفرنسية توتال، والإسبانية ريبسول، والنمساوية أو إم في. ولطالما أملت رومانيا في العثور على الغاز في منطقتها الاقتصادية الخالصة، بما في ذلك في حقل “نيبتون ديب”، على بعد حوالي 60 ميلاً شمال موقع الحقل التركي. وكانت بلغاريا تقوم بالتنقيب في حقل خان أسباروخ البحري، حيث اكتشفت توتال النفط في سنة 2016. ويواجه العديد من هذه المشاريع تحديات تقنية ولوجستية. فأسعار الهيدروكربون المنخفضة عامل مثبط أيضًا. ولكن إذا بدأت تركيا الإنتاج وأثبت المستثمرون أنهم قادرون على استرداد أموالهم، فقد تنقلب الكثير من الموازين.
لعل النبأ السار أن دول البحر الأسود أكثر قابلية للتعاون الإقليمي فيما بينها من دول شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث أدى تقاطع المصالح إلى إراقة الدماء تقريبًا. ورغم وجود النزاعات القضائية – وأبرزها غزو روسيا لشبه جزيرة القرم – تم تسوية النزاعات حول الحدود في البحر الأسود وترسيم المناطق الاقتصادية الخالصة.
في غضون ذلك، تعتبر تركيا في البحر الأبيض المتوسط عنصرا معرقلا لأعمال المنافسين مثل اليونان ومصر وإسرائيل من أجل تأمين ما تعتبره نصيبها العادل من موارد الطاقة. ولكن في البحر الأسود، قد تلعب دور دولة منتجة ـ وهذا من شأنه أن يقدم مثالاً إيجابياً للجيران الذين يسعون إلى تنويع مصادر الإمداد بالغاز.
المصدر: فورين بوليسي