الأخلاق مجموعة من الصفات النفسية والأعمال الإنسانية التي توصف بالحسن أو القبح، وتظهر حقيقة تخلق الإنسان بالخلق الحسن من عدمه في المواطن التي يتقلب فيها بين الغنى والفقر والصحة والمرض والسفر والاستقرار والرضا والغضب.
والبحث في الأخلاق شعبة من شعب الحكمة العملية، وهي العلم الذي يرصد أفعال الإنسان الاختيارية وما ينبغي منها وما لا ينبغي، ويتصدى لهذا الأمر الحكيم من الناس، وهو الذي يرجح الأمور نحو الصواب بما يمتلكه من خبرات عبر تجاربه في الحياة، ويصيغ خلاصة تجاربه في أقوال توافق الحق وتخلو من الحشو.
ومن الذين كتبوا في الأخلاق من منظور الحكمة العملية سعدي الشيرازي (ت 691 هـ)، وهو شاعرٌ وأديبٌ فارسيٌ كبيرٌ، وعادةً ما يوصف بأنه شاعرٌ أخلاقيٌ، كما يوصف كتابه “روضة الورد” (بالفارسية: گلستان) بأنه كتابٌ أخلاقيٌ تهذيبيٌ، وذلك لاحتوائه على مضمون يستند إلى الحكمة العملية التي تبحث في كيفية نشوء أفعال الإنسان الاختيارية وسبيل الوصول بكل فعل منها إلى مرحلة الأفضل والأكمل.
لم يكن السعدي أول من كتب في هذا الباب، فقد سبقه إلى ذلك كثيرون في العالم كله، وظهرت كتابات تبحث في تحديد ما ينبغي أن يكون عليه سلوك الأفراد والجماعات وما يجب أن تكون عليه أخلاقهم من أجل الوصول إلى السعادة الاجتماعية، مثل كتاب “تطهير الأعراق وتهذيب الأخلاق”، لأبي علي بن مسكويه (ت421 هـ)، وهو من أعظم ما كتب في باب الحكمة العملية في العالم الإسلامي.
ويمكن تقسيم أولئك الذين كتبوا في هذا المجال إلى عدة مجموعات:
1. الذين كتبوا عن الأخلاق من منظور فلسفي يعتمد على المفاهيم المجردة والاستدلالات العلمية.
2. الذين كتبوا عن تجاربهم في الحياة بحلوها ومرها، وكانت كتاباتهم موجهة لفئة معينة، فمنهم من كتب لولده، ومنهم من كتب لملكٍ في عصره في بيان كيفية سياسة أمور الملك والتعامل مع الرعية.
3. الذين كتبوا في عيوب المجتمع ونقائص الحكومات، وكان انتقادهم في ثوب الهزل والنوادر واللطائف، وكانت هذه الكتابات تؤثر في البعض لما فيها من مضحكات، ولكنها كانت تذهب برؤوس أصحابها أحيانًا بسبب ما تثيره من غضب أولي الأمر.
4. الذين كتبوا أعمالًا يدعون الناس فيها إلى ترك الدنيا والاهتمام بأمر الآخرة، والسمو بالروح على حساب الجسد، وهم شيوخ الصوفية الصادقون الذين كان دافعهم في ذلك الحق والصفاء والرغبة في تخليص أتباعهم من براثن الدنيا.
5. الذين وضعوا آراءهم ومعتقداتهم على لسان الحيوان والطير، فانتقدوا ونصحوا عن طريق الرمز.
جاء حديثه عن الأخلاق مزيجًا من جمال العلم ونظرياته وحنكة الخبرة والتجارب، ولهذا تراه يتحدث عن المثاليات التي يمكن تحقيقها في الواقع
وعلى الرغم من اشتمال الكتابات في المجموعات الخمسة المذكورة على فوائد كثيرة، فإنها لم تستطع الوصول إلى الناس أجمعين، خاصة العوام الذين تختلف حياتهم عن حياة الفلاسفة والمفكرين والمثقفين.
لم تكن كل مجموعة من هذه المجموعات قادرة بمفردها على إرشاد البشرية إلى السعادة، ومن هنا كان تفرد السعدي وتميزه، فقد مزج هذه الاتجاهات الخمس وراعى الاعتدال فيما بينها، فجاء حديثه عن الأخلاق مزيجًا من جمال العلم ونظرياته وحنكة الخبرة والتجارب، ولهذا تراه يتحدث عن المثاليات التي يمكن تحقيقها في الواقع، ولا ينسى المخارج حين تبيح الضرورات المحظورات، ولا يخص بحديثه طائفة دون أخرى، بل يتحدث إلى الملوك والدراويش، والشيوخ والشباب، والأغنياء والفقراء، ولا يميل إلى الروح على حساب الجسد، فتراه يدعو إلى الاهتمام بأمور الدنيا مع عدم نسيان الآخرة، ولا يثقل على الناس بمعقد الكلام الذي ينفرهم ويصدهم عن الانتفاع بالنصح والإرشاد، ويوجه اللوم والتوبيخ إذا لزم الأمر، ويتحدث بلسان الجد حينًا، ويلبس أقواله لباس الهزل حينًا آخر، وهو في هذا كله يستعين بالحكايات التي تجذب انتباه الناس وتجسد الفكرة أمام أعينهم.
إن نظرة متعمقة في روضة الورد للسعدي تثبت صحة ما ذهبنا إليه، فهو يدعو – على سبيل المثال – الملوك والسلاطين إلى البذل والإحسان والعدل والإنصاف، ويذكرهم بأن هذه وظيفتهم، وهذا هو واجبهم، وأن العدل من خصال الملوك، وأن الخراف لا تخدم الراعي وإنما الراعي هو الذي يخدم الخراف، وأن رضا الرعية وتعمير البلاد أفضل وسيلة للدفاع عن الملك والوطن، وأن سخط الشعب هو الشرارة التي تشتعل فجأة فتحرق البلاد وتقضي على العباد وتقتلع الملك من جذوره، ثم يتحول إلى الرعية فيدعوها إلى التزام النظام والطاعة، وهو في هذا وذاك لا يتوقف عند حدود الكلام النظري والمواعظ المجردة، وإنما يذكر الحكايات التي تجسد هذه المعاني من خلال سير الملوك، العادل منهم والظالم، ليرى القارئ نموذجًا عمليًا لما تكون عليه عاقبة كل منهما.
لم يكن السعدي يضع أمام عينيه حين تأليف الكتاب أنه يؤلف كتابًا في الأخلاق..وإنما كان يحكي ما لديه من حكايات، ويعلي فيها من قيمة الخلق الحميد
لم يكن الشيرازي فيلسوفًا منظرًا يتحدث عن عالم المثاليات حينما أقبل على تأليف “روضة الورد”، وإنما كان الهدف من كتابه هو تسجيل ما شاهده أو سمعه في دنيا الناس من خلال أسفاره ورحلاته، ورصد سلوك الناس من طبقات مختلفة في مواقف متباينة، واستخلاص العبر من تصرفاتهم، وإسداء النصيحة إليهم وإرشادهم إلى الطريق القويم عند التعرض لمثل هذه المواقف وكيفية مواجهة الصعاب التي يلقونها في حياتهم بطريقة عملية، وهو يستند في هذا إلى التجارب التي أنضجته في تجوابه الآفاق وسبره أغوار الأنفس البشرية على اختلاف أنواعها.
وكذلك لم يكن الشيرازي يضع أمام عينيه حين تأليف الكتاب أنه يؤلف كتابًا في الأخلاق، يسير به على درب من سبقوه من الفلاسفة والمفكرين، وإنما كان يحكي ما لديه من حكايات، ويعلي فيها من قيمة الخلق الحميد، فإذا ما ذكرت حكاية لا تحتوي على توصيات أخلاقية فهذا لا يعني قبول السعدي بما فيها، أو إعجابه بسلوك شخصياتها أو تمجيده لأفعالها، وإنما هو يبحث في جميع دوافع النفس البشرية ونزعاتها، ويتسع ميدان موضوعاته، فتراه يتحدث عن أحط الأغراض والأهواء البشرية وعن أسمى الصفات الإنسانية والحالات الروحية.
ويكفيه من ذكر الأخلاق المذمومة أن تكون زاجرًا للقارئ عن التخلق بمثلها، وقد قال سعدي الشيرازي نفسه في إحدى حكاياته: “سألوا لقمان الحكيم ممن تعلمت الأدب، فقال ممن عدم الأدب، لأن كل ما لم يعجبني منه، تحجبت عنه”.
ونختم مقالتنا هذه بذكر حكاية وردت في كتاب روضة الورد، باب فضل القناعة، يقول الشيرازي:
لم أذق راحة في دور الزمان، ومع ذلك فما عبست في وجه الفلك مدة الدوران، ما عدا وقتًا زاد في الجفا، وألبس قدمي نعل الحفا، وكساني حلة العديم، فلم أقدر حتى على نعل قديم، فدخلت جامع الكوفة وأنا ضيق العطن [ضيق الصبر وقليل الحيلة] من هذه القضية، وإذا بي لمحت رجلًا معدوم الرجل بالكلية، فقضيت من نعمتي العجب، وشكرته تعالى كما وجب، ولزمت الصبر عن النعل، وعدت لبشري كما كنت من قبل.