تماسيح العراق
تراهم بشواربهم الكثة التي تزيد أحجامها عن الحد المألوف، وهي تمنحهم سمات “رجولية خشنة ومتفجرة بالحيوية”، وتلك غايتهم من إطلاق شواربهم وذقونهم أحيانًا، فهم يريدون إحداث تأثير قوي ومباشر بمن حولهم.
ينتمي قائد البصراوي ذو الشوارب الغليظة إلى إحدى روابط ما تسمى بـ”تماسيح العراق” وهي روابط ترمز تسميتها إلى القوة وتعمل على تقديم المساعدة وإعانة المحتاجين وحل بعض مشاكلهم، وفق ما يؤكده أعضاؤها المنتشرون في عدة محافظات.
ليست ظاهرة “تماسيح العراق” كما يفضل أصحابها إطلاقه على مجموعاتهم المشوربة، جديدة على الساحة، فتأسيس أول رابطة لهم كان في بغداد عام 2014، ثم توسعت رقعة روابطهم لتشمل أغلب محافظات العراق، وغالبًا ما يلتقي أعضاء الرابطة في منزل أحدهم على سهرة أو وليمة غداء لتبادل أخبار نشاطاتهم.
يقول قائد البصراوي – 42 عامًا منتسب في الأجهزة الأمنية – إنه انضم إلى رابطة “تماسيح بغداد النشامى” منذ ست سنوات وهي تضم نحو 200 عضو غالبيتهم من أصحاب الشوارب الطويلة والغليظة التي يتميز بها أصحابها، ويضيف “لقد انتميت إلى هذه الرابطة منذ بداية تأسيسها في بغداد وتطوعت للعمل معهم في النشاطات التي نمارسها في العاصمة أولًا ومن ثم في محافظتي البصرة حيث أسكن، وهناك بعض الأعضاء يسهمون معي في هذه النشاطات”.
ويوضح “أغلب نشاطات الرابطة تقوم على تقديم المساعدة للعائلات المحتاجة سواء ماديًا أم من خلال معالجة المشاكل التي يواجهونها كمساعدة النساء الكبيرات في السن أو ترميم منازل المحتاجين وغيرها من الأعمال”.
ويربط قائد بين المباهاة بشواربه وقدرته كرجل “جنتلمان” على تقديم المساعدة للمحتاجين، فهو يرى أن الشوارب التي يتميز بها أعضاء الرابطة تمثل رمزًا للرجولة والفروسية “لأنها جزء من تراث آبائنا وأجدادنا وتميز الرجل عن المرأة وتمنح الآخرين ثقة بنا وبعملنا”.
قائد الذي ترك شاربيه ينموان بهذه الكثافة منذ انتمائه للرابطة، ويؤكد أن هدفه “تقديم العون لكل محتاج وليس أي شيء آخر”، لا يبخل على مظهره بالعناية والاهتمام بشكل شخصي، رافضًا أن تمتد إليهما يد الحلاق، قائلًا: “لا أفكر أبدًا في تغيير شكلي حتى لو أثار فضول البعض”.
وإضافة إلى تواصله المستمر برابطته، يفتخر قائد بشخصيته ومظهره المتأنق، مستخدمًا سيارته الشخصية في حمل صور أعضاء الرابطة والتعريف بها وهو نظام متبع لجميع الأعضاء.
“الحرمة بشارب الخير”
يرجع علاء مشتاق الحلفي، رئيس رابطة تماسيح العراق في البصرة، فكرة إنشاء الرابطة في المحافظة الجنوبية التي تعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية ويبرز فيها دور العشائر كقوة موازية لسلطة الأحزاب والحكومة، إلى حاجات مجتمعية فضلًا عن دلالاتها الشخصية المتعلقة بالرجولة والشهامة.
يقول عن تأسيس الرابطة: “في البداية لمسنا امتعاض الناس وسخريتهم منا وواجهنا كثيرًا من التعليقات على صفحتنا في الفيسبوك، احتوت على السب والشتم، لكن مع نشر نشاطاتنا التي تقتصر على مساعدة الناس ولا تحمل إساءة لأحد، أخذت نظرة المجتمع تتغير وبدأ الناس يتقبلون وجودنا”.
ويضيف “هناك قول عراقي معروف “الحرمة بشارب الخير” أي أن المرأة تجد سندها في الرجل الشريف، وهو خير دليل على أن الشارب علامة ورمز للرجولة والشهامة وهو ما يجمع أعضاء الرابطة ويوحد توجههم خاصة في مثل ظروفنا الصعبة التي تتطلب قوةً وصلابةً”.
الحلفي يرى أن للرابطة وأعضائها تأثيرًا إيجابيًا على كثير من الشباب الذين كانوا قريبين من حالة “التميع والتخنث”، فغيروا مفاهيمهم عن الرجولة وهنالك شباب من هؤلاء انضموا إلينا بعد أن كانوا حليقي الشارب”، ويقول عن تواصلهم مع المجتمع: “كثيرًا ما يتم دعوة أعضاء الرابطة في المناسبات الاجتماعية لحضورها ومنح صاحب المناسبة نوع من الهيبة أمام الناس، كما أن بعض الشباب والفتيات يلتقطون صورًا معنا عندما يجدوننا في الأماكن العامة”.
ومع أن أغلب أعضاء هذه الرابطة ينتمون إلى سلك الشرطة والجيش فإن رئيسها يحافظ على طابعها المدني السلمي، كما يبتعد بها عن النشاط السياسي، وهو يسعى إلى تسجيلها ضمن منظمات المجتمع المدني لتمارس أنشطتها بشكل رسمي، ويؤكد قائلًا: “للرابطة نظام داخلي يلتزم به جميع الأعضاء وفي مقدمته أن يكون الشخص المنتمي إليها حسن السيرة والسلوك ولا يتجاوز على الآخرين ويبادر إلى مساعدة الناس”.
ورغم عدم وجود شرط يحدد شكل شوارب أعضاء الرابطة، هنالك شبه اتفاق أن يكون لكل الأعضاء شوارب طويلة وغليظة.
باتت رابطة التماسيح محل ثقة الكثير من المتبرعين داخل العراق وخارجه الذين ينشدون مساعدة المحتاجين في البصرة
وتعقد الرابطة لقاءات نصف شهرية للتداول في أنشطتهم والاتفاق على زي أعضاء الرابطة وبرامجها، في الوقت الذي يتم التواصل اليومي بينهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي كما يذكر رئيس الرابطة.
وتحظى روابط تماسيح العراق على مواقع التواصل الاجتماعي بمتابعة شعبية واسعة، إذ يتابع أكثر من 126000 شخص صفحة تماسيح بغداد في الفيسبوك، والطريف أنك ستقابل ملاحظة لدى طلبك للانضمام تقول “هذا كروب لكل الناس وليس فقط لأهل الشوارب!”.
وعن علاقتهم بتشكيلات مماثلة لهم يقول الحلفي: “هنالك الكثير من روابط التماسيح في مختلف المدن العراقية لكن نشاطهم محدود ويختلف عن أنشطتنا، لذلك لم تحصل مبادرات لتوحيد هذه التشكيلات أو وضع مسار موحد لها فكل مجموعة تعمل وحدها”.
وباتت رابطة التماسيح محل ثقة الكثير من المتبرعين داخل العراق وخارجه الذين ينشدون مساعدة المحتاجين في البصرة من خلالهم، بحسب رئيس الرابطة.
حنين لزمن الشقاوات
لكن لا يبدو أن الجميع راضون عن مظهر أصحاب الشوارب، فهناك من يشعر بالتوجس منهم، يقول حسن كريم وهو موظف في شركة الموانئ العراقية: “ظهورهم بهذه الشوارب الكبيرة والمظهر المستفز يذكرنا بمرحلة الشقاوات “الفتوات” التي كانت سائدة في مناطق البصرة وبغداد حتى منتصف القرن الماضي”.
ويضيف “المتغيرات التي حصلت في المجتمع تمنع ظهور شخصيات “الشقاوات” بشكلها التقليدي في الوقت الحاليّ، لكن تأثيراتها تسربت إلينا كشعور خفي بالاعتزاز بتلك المرحلة أو تقليد لها خاصة أن الشقاوات كانوا شخصيات محبوبة في مناطقهم”.
ولا يستبعد التربوي المتقاعد أسامة عبد الحسن أن يكون الاهتمام الشعبي المتزايد بأصحاب الشوارب الكثة حنينًا للأزمنة العراقية القديمة، إذ تشير القصص المروية إلى شخوص مشوربين وبعضلات مفتولة يسمون شقاوات قارعوا الظلم ووقفوا إلى جانب المظلومين، والسبب في ذلك كما يرى هو ضعف سلطة الدولة الحاليّة، متمثلة بالأجهزة الأمنية وانعكاس ذلك على مختلف المستويات في المجتمع العراقي بنحو عام.
وكانت الشوارب الغليظة في زمن النظام العراقي السابق إبان الحرب مع إيران 1980- 1988 تعني أن صاحبها إما مقاتل في القوات الخاصة للجيش العراقي وإما منتسب في الأمن العام (أكثر أجهزة الدولة رعبًا على المستوى الداخلي)، وفي كلتا الحالتين فإن الغرض من إطلاقها لم يكن فقط للتباهي بالانتماء إلى الجهتين وإنما لأغراض فرض الهيبة التي غالبًا ما كانت تحقق غايتها، فعموم الناس كانوا يخشونهم.
ويعتقد الباحث الاجتماعي حسام صباح مهدي أن وجود هذه الظاهرة يعود إلى عدة عوامل اجتماعية وشخصية: “فالعامل الاجتماعي في بعض الأحيان يفرض عليك الظهور بهذا الشكل كما هو الحال في تركيا بسبب حكم البيئة الخاصة بهم، أما بالنسبة للعراق فهي تعود لعوامل شخصية بشكل كبير، حيث يريد من خلالها البعض الظهور بمظهر الرجل القوي ويكون محل اهتمام المجتمع”.
ويضيف “ظاهرة تربية الشوارب رغم أنها موجودة في العقود السابقة، لكن عودتها تمثل ظاهرة جديدة في المجتمع العراقي، يرغب من خلالها الرجال التميز برجولتهم والتعبير عن قوة شخصيتهم، رغم أن البعض منهم يعتنقونها من باب التقليد فقط دون معرفة كافية بمضمونها”.
يقول مهدي إن هنالك فئات في المجتمع يأخذون بالمظهر فيتجنبون التعامل والاحتكاك مع أشخاص بهذا الشكل المخيف وهو ما يولد حالة سلبية بين الطرفين، لكن الظاهرة يمكن أن تكون حالة إيجابية أيضًا كونها تأتي تعبيرًا عن كاريزما شخصية، إذ نلاحظ أنهم يتميزون بشخصياتهم المستقلة ورأيهم الحر ولا يخضعون لتأثيرات المجتمع.
استهداف الهوية الجنسية
بينما يرى أستاذ علم النفس في جامعة البصرة الدكتور عبد الكريم الموزاني أن مثل هذه الظواهر يكون وجودها مؤقتًا وليس دائمًا، فتظهر بصورة واضحة وعنوان واضح إلا أنها سرعان ما تختفي.
أغلب نشاطات الرابطة تقوم على تقديم المساعدة للعائلات المحتاجة سواء ماديًا أم من خلال معالجة المشاكل التي يواجهونها
ويقول بشأن ذلك: “نلاحظ أن ظاهرة تماسيح العراق ردة فعل مباشرة على واقع يستهدف الهوية الجنسية، وبرأيي فإن الظاهرة سوف تأخذ منحى أطول من غيرها من الظواهر لوجود العوامل التي تدفع نحو استمرارها”.
ويضيف موضحًا “ظهور فئات جديدة على سطح المجتمع العراقي في السنوات الأخيرة كالمثليين والجماعات التي تعرف بالإيمو الذين يتشبهون بالنساء، سيؤدي إلى بقاء الظواهر التي تقف بالضد منهم مدة أطول، إذ يمثل وجودهم جميعًا حالة صراع خفي على الهوية الجنسية”.
ومع استمرار تماسيح العراق في تقديم أنفسهم بديلًا رجوليًا لا يتوخى الاحتكاك بظواهر أخرى مغايرة، تبقى الخشية كامنة من كونه صراعًا خفيًا على الهوية الجنسية بين هذه الفئات، يمكن أن ينتقل من وسائل التواصل الاجتماعي إلى أرض الواقع مستقبلًا.
وينبع القلق من اتساع هذه الظواهر وتطورها في المجتمع خاصة إذا تم توظيفها وتبنيها وتمويلها من قوى دينية أو سياسية لأغراض أخرى.