في فضيحة هي الأكبر من نوعها، خرج مجموعة من موظفي بنك ويلز فارغو الأمريكي، ليفضحوا تحكم البنك بالموظفين والزبائن، يجبر البنك الموظفين ضمن تسلسل هرمي بكسب عدد معين من الزبائن يوميًا أو ما يسمى “الكوتا”، ومن يعجز عن فعل ذلك يتعرض للطرد، وفي سوق مثل تلك الأمريكية، فإن الطرد من بنك ويلز فارغو يعني أنك تركت مهنة العمل في البنوك إلى الأبد!
في تحقيق لها، تقول صحيفة نيويورك تايمز: “لقد استخدم الموظفون الاحتيال لتحقيق أهداف مبيعات مستحيلة، لقد فتحوا ملايين الحسابات بأسماء العملاء دون علمهم، ووقعوا أصحاب حسابات غير متعمدين للحصول على بطاقات الائتمان وبرامج دفع الفواتير، وأنشأوا أرقام تعريف شخصية مزيفة وتوقيعات مزورة، وحتى نقلوا أموال العملاء سرًا”.
بعد أربع سنوات من الفضيحة، ومجموعة من الغرامات طالت اثنين من رؤساء البنك، وافق البنك على تسوية بقيمة 3 مليارات دولار منها 500 مليون دولار للعملاء الذين تضرروا من احتيال البنك.
الغرامة لم تكن الأكبر في التاريخ القضائي، فتلك كانت من نصيب الفيسبوك: 5 مليارات دولار، التي تسببت في استدعاء المدير التنفيذي للشركة مارك زوكربيرغ للاستجواب أمام الكونغرس، بعدما ثبت أن المنصة تلاعبت بميول الناخبين الأمريكيين في انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2016 التي فاز بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في الفضيحة التي عُرفت باسم “كامبريج أناليتكا”.
أصبحت الشركات الخاصة سمة مميزة للكوكب، فيمكننا بسهولة ملاحظة تأثير الشركات العملاقة في كل مكان تقريبًا في الصناعة البشرية
قد تبدو المبالغ كبيرة، وهي بالفعل كذلك، لكنها لا تُعد شيئًا أمام العوائد السنوية التي تحققها تلك الشركات العابرة للقارات، فقد بلغت عوائد بنك ويلس فارغو عام 2019 مثلًا 103 مليارات دولار، أي أقل بقليل من الموازنة السنوية لبلد نفطي بحجم العراق! أما شركة فيسبوك، فرغم أنها تعرضت لأكبر غرامة مالية في التاريخ، وأكبر 20 مرةً من أكبر غرامة على شركة معلومات، فإن عوائدها في نفس ذلك العام 2019 بلغت 70.6 مليار دولار، وصافي أرباح بلغ 18 مليار دولار.. لا بد أن تلك الغرامة كانت مجرد مزحة بالنسبة للعملاق الأزرق! وهو ما يطرح معضلة كبيرة: من يمكنه الوقوف أمام الشركات الكبيرة؟
الدولة هي المشكلة
منذ أن أطلق الرئيس الأمريكي رونالد ريغان تصريحه الشهير: “الدولة هي المشكلة” عام 1981، وشركات القطاع الخاص تتغلغل في كل المجالات الممكنة وحتى غير الممكنة، التكنولوجيا والاتصالات والطب والهندسة والاقتصاد، وحتى السجون يمتلك القطاع الخاص فيها سهمًا! فمن الواضح أنها المسيطر الحقيقي في عصرنا، إنها الأقوى في جميع أنحاء العالم وتبدو سيطرتها بشكل خاص في الشمال العالمي ومركزه في الولايات المتحدة.
إنهم يتحكمون أو يؤثرون بشكل كبير على ما نأكله ونشربه وأين نعيش وما نرتديه وكيف نحصل على معظم خدماتنا الأساسية مثل الرعاية الصحية وحتى ما ندرسه في المدارس في أعلى المستويات، إنهم ينشئون ويتحكمون في مصادر معلوماتنا ويؤثرون بشكل كبير على طريقة تفكيرنا ورؤيتنا للعالم وعنهم، حتى إنهم يمتلكون الآن براءات اختراع على شفرتنا الجينية، وهي العناصر الأساسية للحياة البشرية، ومن المحتمل أن يخططوا للتلاعب بها والسيطرة عليهم كمجرد سلعة أخرى لاستغلالها من أجل الربح في عالمهم الجديد الجشع الذي يمس الجميع، إنهم يصوغون صورتهم بعناية ويستخدمون شعارات جذابة لإقناعنا بفائدتهم للمجتمع والعالم، مثل: “أشياء أفضل لحياة أفضل من خلال الكيمياء” (وهي الصياغة الجذابة لتسمم الهواء والماء والتربة)!
في ورقة بحثية نشرتها الأكاديمية الدولية للأبحاث والعلوم، يقول الباحث كرال فولك: “أصبحت الشركات الخاصة سمة مميزة للكوكب، يمكننا بسهولة ملاحظة تأثير الشركات العملاقة في كل مكان تقريبًا في الصناعة البشري. يمكنك رؤيته في البيئة، حيث 100 شركة فقط مسؤولة عن أكثر من 70% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في العالم. يمكنك رؤيته في مجال التكنولوجيا، حيث تتمتع شركات التكنولوجيا العملاقة بالهيمنة الاحتكارية على البحث والشبكات الاجتماعية وغير ذلك، وشركات الأدوية قوية جدًا لدرجة أنها تفرز أزمات صحية كاملة، وشركات الطاقة قوية جدًا لدرجة أنها تستطيع التنبؤ بأزمات المناخ قبل عقود”.
شركة كامبريدج أنالتيكا غيرت وجهات الناخبين في 68 دولة! منها الولايات المتحدة وبريطانيا وأوكرانيا
أما شركات التكنولوجيا، فأصحبت – حرفيًا – تعيش معنا وتعرف عنا أكثر مما تعرفه أجهزة الأمن والمخابرات في بلداننا، أجرت قناة فوكس نيوز الأمريكية استقصاءً بعنوان: “لست مصابًا بجنون العظمة، هاتفك يستمع إليك بالفعل”، أكدت فيه أن أجهزة الهواتف تتنصت على ما تقوله طوال اليوم، وتنقل البيانات في خوادم بعيدة، لتستخدمها الشركات في التسويق، إنها حقيقة واقعة، تتحدث مع أحدهم عن نيتك الذهاب إلى سفرة ترفيهية، فيفاجئك فيسبوك وغوغل بإعلانات عن خيم وأدوات تخييم أو إعلانات لسفرات سياحية، لقد تحولت حياتك اليومية وذوقك وتفضيلاتك وأفكارك وتوجهاتك السياسية والدينية، إلى مادة تسويقية تدر مليارات الدولارات على تلك الشركات، التي تعدت كونها كيانات كبيرة ناجحة اقتصاديًا، إلى طرف مؤثر يلعب دورًا كبيرًا في صنع السياسات على مستوى العالم.
في تقرير لها، قالت صحيفة الغارديان البريطانية إن شركة كامبريدج أنالتيكا غيرت وجهات الناخبين في 68 دولة! منها الولايات المتحدة وبريطانيا وأوكرانيا، لقد زرعت الخلافات السياسية والانقسامات الاجتماعية وأثرت على نمط حياة الملايين من الناس حول العالم، وقد فعلت هذا باستخدام قاعدة البيانات التي حصلت عليها من فيسبوك!
إن هذه الشركات تفعل كل تلك النشاطات دون أن يكون هناك رقيب عليها، والأخطر من هذا كله، أنها أصبحت خارج نطاق الحسابات، هل يمكن تخيل إمكانية التخلي عن جوجل أو فيسبوك أو تويتر أو آبل أو سامسونغ؟ هل يمكنك التخلي عن قيادة السيارات أو استخدام البنوك والتحول للحياة البدائية؟
إن الخطورة تكمن في توسع هذه الشركات واشتراكها في نمط موحد يجعل منها كتلة واحدة متحكمة في كل شيء – أراد الناس أم لم يريدوا – تحصر القوة الحقيقية بيد مجموعة من الأفراد غير الظاهرين، لا يفكرون إلا بالربح بأي طريقة كانت حتى لو كانت البشرية كلها في وقت أزمة عالمية!
غاية الربح مشروعة؛ فالشركات الطبية تنفق مليارات الدولارات على تطوير الأبحاث، لكن أن يتحول الربح بأي وسيلة كانت، الهدف الرئيس، هنا تبدأ المشكلة.
رغم أن تلك الكيانات الخاصة تملك ثروات هائلة، فإنها تخلت عن كل شيء في أول لحظة توقف فيها مصدر الربح عندما انتشرت جائحة كورونا! فحتى موظفي تلك الشركات وجدوا أنفسهم دون مورد مالي ببساطة، لأن الشركات – أو أصحاب تلك الشركات بمعنى أدق – ليسوا مستعدين للعطاء دون تحقيق ربح، قد تستخدم تلك الشركات شعارات من نوع: “نجعل حياتك أفضل” و”نربط الناس ببعضهم” و”من أجل خدمة البشرية”، إلخ، في الدعايا والإعلان، لكنها ليست للتطبيق على أرض الواقع، لذلك وقع العبء الأكبر في الأزمة على الدول التي تولت مباشرة دفع الرواتب والإعانات لمواطنيها حتى أولئك المنتمين إلى كبرى الشركات.
على مستوى الأوبئة، كانت الآمال دائمًا معقودة على تلك الشركات في القطاع الخاص لإنتاج اللقاحات، لكن تلك العملية خضعت أيضًا لمنطق الربح. بالطبع، غاية الربح مشروعة؛ فالشركات الطبية تنفق مليارات الدولارات على تطوير الأبحاث، لكن أن يتحول الربح بأي وسيلة كانت، الهدف الرئيس، هنا تبدأ المشكلة.
في العام 2003، نشرت مجلة nature مقالًا بشأن الآثار السلبية للقاح سارس، حيث روجته الشركة المنتجة واعتمدته الحكومة في هونغ كونغ على نطاق واسع دون أن يخضع بما يكفي للتجارب السريرية، ورغم ظهور آلاف الأعراض الجانبية، ظل اللقاح يُستخدم على نطاق واسع، لأن الشركة تملك نفوذًا كبيرًا هناك، كما أنها تملك نفوذًا في الأوساط العلمية يجعل تفسير الخطأ الطبي أمرًا عائدًا إليها!
حادثة أخرى وقعت مع لقاح “تام فلو” الذي باعته شركة جلعاد الأمريكية لشركة روش السويسرية، في التحقيقات التي أجرتها قناة الجزيرة تبين أن اللقاح عبارة عن كذبة تم تسويقها على نطاق واسع، والقصد بتسويقها هنا ليس المعنى التجاري فحسب، وإنما المعنى الطبي باستخدام نفوذ تلك الشركات في منظمة الصحة العالمية التي أوصى خبراؤها بالدواء رغم الثغرات الكبيرة في نتائج التجارب السريرية!
من يملك محاسبة تلك الشركات الطبية؟ ومن يملك محاسبة جوجل وفيسبوك وتويتر على انتهاكات الخصوصية أو تعريض حياة الناس للخطر؟ لا يهم! فحتى لو وقعت تلك الشركات تحت المحاسبة فإن أقصى العقوبات الموجهة ضدها لن تحدث سوى خدش صغير في جسد تلك الشركات.. فيسبوك أُنموذجًا!