وقعت الحكومة الانتقالية في السودان وقادة “الجبهة الثورية”، وهو تحالف يضم أربعة فصائل مسلحة متمردة، صباح اليوم، بالأحرف الأولى، اتفاق سلام – مسار دارفور – بينهما في عاصمة دولة جنوب السودان جوبا بعد عشرة أشهر من المفاوضات بوساطة من حكومة جنوب السودان.
رغم تأخر هذا الاتفاق الذي كان من المتوقع التوصل إليه بعد 6 أشهر من تشكيل الحكومة السودانية في أغسطس/آب 2019، فإن العديد من السودانيين يأملون أن يكون بادرة خير على بلادهم وأن يساهم في نجاح المرحلة الانتقالية التي تمر بها البلاد الغارقة في الأزمات.
ثمانية بروتوكولات
يتشكل اتفاق السلام المبرم بين الطرفين من ثمانية بروتوكولات وهي: الأمن وقضية الأرض والحواكير (ملكيات الأراضي) والعدالة الانتقالية والتعويضات وجبر الضرر وبروتوكول تنمية قطاع الرحل والرعاة وقسمة الثروة وبروتوكول تقاسم السلطة وقضية النازحين واللاجئين.
ويتضمن اتفاق السلام المبرم بين الحكومة السودانية والجبهة الثورية (تحالف يضم حركات مسلحة كانت تقاتل القوات الحكومية) حكمًا ذاتيًا لمنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان على أن تقسم موارد ومداخيل المنطقتين بنسبة 60% للسلطة الفيدرالية و40% للمحلية، ومن أبرز بنود الاتفاق منح 25% من مقاعد مجلس الوزراء ومثلها في التشريعي و3 في السيادي للجبهة الثورية.
فضلًا عن الحكومة المركزية، يشمل هذا الاتفاق أغلب الحركات المسلحة في السودان، التي تجتمع تحت تحالف الجبهة الثورية السودانية التي رأت النور سنة 2011
يتضمن الاتفاق المبرم تمديد الفترة الانتقالية في السودان 39 شهرًا إضافيًا تبدأ من تاريخ توقيع الاتفاق أي من أول سبتمبر 2020، وبدأت بالسودان، في 21 من أغسطس/آب 2019، مرحلة انتقالية تستمر 39 شهرًا تنتهي بإجراء انتخابات أواخر 2022، ويتقاسم خلالها السلطة كل من الجيش وتحالف قوى إعلان الحرية والتغيير، الذي قاد الاحتجاجات الشعبية التي أطاحت بنظام عمر البشير.
كما نص الاتفاق على تحديد فترة 39 شهرًا لإنهاء عمليات دمج وتسريح القوات التابعة للحركات المسلحة ضمن إجراءات عديدة تضمنتها بنود الترتيبات الأمنية. يذكر أن مفاوضات السلام بدأت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في جوبا.
وقد ركزت المفاوضات بين الحكومة الانتقالية والحركات المسلحة على 5 مسارات، هي: مسار إقليم دارفور (غرب) ومسار ولايتي جنوب كردفان (جنوب) والنيل الأزرق (جنوب شرق) ومسار شرقي السودان ومسار شمالي السودان ومسار وسط السودان.
الأطراف الموقعة
فضلًا عن الحكومة المركزية، يشمل هذا الاتفاق أغلب الحركات المسلحة في السودان، التي تجتمع تحت تحالف الجبهة الثورية السودانية التي رأت النور سنة 2011، وهذه الحركات هي “حركة تحرير السودان” التي تأسست سنة 2002، بقيادة عبد الواحد أحمد محمد نور المعروف بعبد الواحد نور (يساري)، وبدأت الحركة القتال ضد الحكومة المركزية لإنهاء التهميش السياسي والاقتصادي، وتحرير كل السودان من قبضة السلطة المركزية.
ضمت الحركة أفرادًا ينتمون إلى قبائل إفريقية في إقليم دارفور هي الزغاوة والفور والمساليت، وقد أدت مفاوضات السلام بينها وبين الحكومة التي بدأت سنة 2006 إلى انقسامها، إذ رفض عبد الواحد نور التفاوض، بينما انخرط مني أركو مناوي – الذي أصبح فيما بعد مساعدًا للبشير – في العملية.
أما ثاني الحركات، فهي “حركة العدالة والمساواة” التي أسسها خليل إبراهيم عام 2001 (إسلامي)، وتقول الحركة إن محركها كان تهميش إقليم دارفور سياسيًا واقتصاديًا، وتضم عددًا من أبناء قبيلة الزغاوة الإفريقية المعروفين بانتمائهم الإسلامي.
أهدي السلام الذي وقعناه اليوم بدولة جنوب السودان الشقيق إلى أطفالنا الذين ولدوا في معسكرات النزوح واللجوء لأُمهات وآباء يشتاقون لقراهم ومدنهم، ينتظرون من ثورة ديسمبر المجيدة وعد العودة، وعد العدالة، وعد التنمية، ووعد الأمان.#سلام_السودان pic.twitter.com/sQRpunAlMo
— Abdalla Hamdok (@SudanPMHamdok) August 31, 2020
سبق لهذه الحركة في مايو/أيار 2008، أن هاجمت العاصمة السودانية في حادث كان الأول في تاريخ السودان، وقطعت قوات الحركة نحو ثلاثة آلاف كيلومتر ودخلت مدينة أم درمان حتى وصلت الجسر الرابط بين الخرطوم وأم درمان، غرب نهر النيل، ليفصل نحو ثلاثة كيلومترات فقط عناصرها عن القصر الجمهوري، مقر مكتب البشير حينها.
إلى جانب هؤلاء، نجد “المجلس الثوري الانتقالي” الذي تشكل سنة 2012 وضم مجموعة من المنشقين عن حركات دارفور الرئيسية ويرأسه الهادي إدريس، وكان إدريس عضوًا في حركة تحرير السودان/جناح عبد الواحد نور، وتقاتل الحكومة في منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق.
أما رابع هذه الحركات، فهي “الحركة الشعبية لتحرير السودان” التي كانت تقاتل إلى جانب جنوب السودان قبل أن يصبح دولة مستقلة عام 2011، ومع انفصال جنوب السودان عادت هذه المجموعة إلى القتال في منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، وانشقت عام 2017 إلى حركتين: الحركة الشعبية لتحرير السودان/جناح عبد العزيز الحلو والحركة الشعبية لتحرير السودان/جناح مالك عقار.
إنجاح العملية الانتقالية
يأمل السودانيون أن ينهي هذا الاتفاق 17 عامًا من الحرب الأهلية في بلادهم، وأن يكون بداية حقيقية ومستدامة للسلام الشامل بالبلاد، خاصة أن هذه الحروب المتواصلة منذ سنوات أثقلت كاهلهم نتيجة الأزمات الكبيرة التي تسببت فيها.
ويأمل هؤلاء في تسوية النزاعات القائمة بين الحكومة الانتقالية والحركات المسلحة المنتشرة في مناطق واسعة من البلاد وتخفيف حدة المواجهة بينهم لضمان نجاح مسار الانتقال الديمقراطي الذي بدأت فيه البلاد عقب الإطاحة بنظام عمر البشير.
وشدد الصحفي السوداني خالد أحمد على أهمية الاتفاق الموقع بين حكومة بلاده الانتقالية والحركات المسلحة، ذلك أنه يشمل أبرز الحركات المسلحة المقاتلة في إقليم دارفور وجبال النوبة وإقليم النيل الأزرق، وفق قوله لنون بوست.
“صحيح أن هذا الاتفاق لا يختلف كثيرًا عن الاتفاقيات السابقة التي وقعها النظام البائد مع الحركات المسلحة”، يقول أحمد، “لكن الأمر الجيد والمختلف هذه المرة هو وجود حكومة انتقالية وواقع سياسي جديد وضغط شعبي بضرورة تحقيق السلام في البلاد”.
ويعتبر إيقاف الحرب الذي نص عليه الاتفاق وتوقف الناس عن قتل بعضهم البعض، من أهم المكاسب التي تحققت، وفق خالد أحمد، ومن شأن ذلك أن يعطي زخمًا سياسيًا ودعمًا للحكومة الانتقالية في عملها في إنجاح المهام المنوطة بعهدتها خاصة في ظل الأزمات التي تشهدها البلاد.
ويؤكد الصحفي السوداني أن الجهود لتنفيذ الاتفاق وإنجاحه تتطلب من المجتمع الدولي تقديم الدعم المالي المناسب لتمويل هذا الاتفاق، خاصة أن هناك إجراءات لدمج القوات وإعادة اللاجئين وكل هذه الملفات تحتاج لتمويل كبير.
يخشى بعض السودانيين أن تتسبب بعض الفصائل في انهيار الاتفاق الذي تم توقيعه اليوم، وتكرر التجارب السابقة
سبق أن أكد رئيس الحكومة السودانية عبد الله حمدوك في أثناء عرضه لتشكيل حكومته، أن أولويات حكومته تتمثل في وقف الحرب أولًا وبناء السلام في المناطق التي تشهد نزاعات منذ سنوات اندلعت خلال حكم الرئيس السابق عمر البشير الذي استمر ثلاثة عقود حتى الإطاحة به في أبريل/نيسان 2019، بعد احتجاجات شعبية تواصلت لشهور.
ويرى العديد من السودانيين أن وقف الحرب وتحقيق السلام في مختلف مناطق البلاد، أحد أبرز أبواب بناء الدولة الديمقراطية والتحول إلى الدولة المدنية الديمقراطية التي تتحقق فيها سيادة حكم القانون والمواطنة المتساوية والحكم الراشد لتحقيق الأمن والتنمية الاقتصادية.
يذكر أنه يوجد في السودان إقليمان تحت سيطرة جزئية من الحركات المسلحة، وسبق أن قتل مئات الآلاف في هذه النزاعات ونزح الملايين من دارفور والنيل الأزرق وكردفان، ولا يزال مئات الآلاف يعيشون في مخيمات إيواء بائسة.
سلام غير مكتمل
رغم أهميته، يشكو هذا الاتفاق العديد من النواقص مما يجعل السلام غير مكتمل، وفق خالد أحمد، حيث يظل أكبر فصيل مسلح في إقليم جنوب كردفان والنيل الأزرق بقيادة عبد العزيز الحلو بجانب حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور في إقليم دارفور خارج هذا الاتفاق، فغياب هذه الفصائل المسلحة عن اتفاق اليوم، يجعل السلام غير مكتمل الأركان ويحتاج لجهد كبير لاستكماله، وفق محدثنا.
وشهد التوقيع على الاتفاق غياب جيش تحرير السودان/شق عبد الواحد محمد نور الذي يسيطر على مواقع مهمة في منطقة جبل مرة بدارفور، كما شهد غياب الحركة الشعبية/شق عبد العزيز الحلو الذي تقاتل قواته في جنوب كردفان.
التوقيع بالأحرف الأولى على بروتوكول القضايا القومية بين الحكومة السودانية والجبهة الثورية https://t.co/RQuUaux0bX#سلام_السودان#سونا #السودان pic.twitter.com/l3bJbLBqSx
— SUDAN News Agency (SUNA) ?? (@SUNA_AGENCY) August 31, 2020
ويخشى بعض السودانيين أن يتسبب غياب هذه الفصائل في انهيار الاتفاق الذي تم توقيعه اليوم، وتكرر التجارب السابقة، حيث سبق أن انهارت اتفاقات سلام سودانية مثل اتفاق العام 2006 في أبوجا (نيجيريا) واتفاق العام 2010 في قطر.
وتناهض هذه الجماعات المسلحة، حكومة السودان منذ أن انتهى بهم الأمر على الجانب السوداني من الحدود بعد انفصال جنوب السودان عام 2011 ويعيش في جنوب كردفان والنيل الأزرق عدد كبير ممن وقفوا في صف الجنوب خلال الحرب الأهلية مع الخرطوم على مدى عشرات السنين.
اتفاق لا يلبي أهداف ثورة التغيير
بدوره يرى الناشط السياسي السوداني عمار النوراني، أن اتفاق السلام الأخير غير موفق ولا يلبي طموحات الشعب وثورة التغيير وفق قوله، ويقول النوراني في هذا الشأن: “الحكومة الانتقالية الحاليّة تسير على نفس نهج النظام السابق”.
نتمناه سلاماً مستداماً يخفت فيه صوت البندقية، ويعلوا فيه صوت البناء والتنمية المستدامة للمستفيدين الحقيقيين من هذا السلام، شكراً لكل من كان جزءاً من هذا السلام #شكرا_جوبا#سلام_السودان pic.twitter.com/bu4lgk2Ng7
— Ameen Makki (@Dr_AmeenMakki) August 31, 2020
يضيف في حديثه “الحركات المسلحة وقعت على الاتفاقية مقابل مقاعد في الوزارات والمجلس التشريعي ودمج لقواتها في القوات المسلحة، لكن الثورة قامت من أجل إقامة حكومة كفاءات وليس حكومة محاصصات”.
ولئن أكد محدثنا أن اتفاق السلام سيريح البلاد ولو وقتيًا من بعض أزماتها، إلا أنه سيفتح الباب لحركات مسلحة أخرى لابتزاز الدولة، فعندما تستجيب الحكومة لمطالب الحركات المتمردة بهذا الأسلوب فإن أي حركة ستحمل السلاح للحصول على مطالبها.
ويؤكد عمار النوراني أن ما يحصل يعد “إهانة للمؤسسة العسكرية وهذا نتيجة لضعفها واستجابتها لتلك الحركات المسلحة، ومن المفروض أن يكون التعامل معها بحسم والتوقيع خاضع لشروط الحكومة الحاليّة فقط”.
بالمحصلة، ومهما اختلفت الآراء حول الاتفاق ومآلاته، فإن ثماره ستقطف قريبًا، وعندما يتعلق الأمر باتفاق بين حكومة وفصائل عسكرية متمردة وسط حالة فوضى وفقر، فلا يمكن إلا أن نأمل خيرًا وسلامًا وأمنًا لهذا البلد العربي، الغني بموارده وشعبه، الفقير بسبب استشراء الفساد والفوضى والحرب.